مواضيع اليوم

الكاتب وليد إخلاصي .. لقاء خاص ـ 2

يوسف رشيد

2010-10-02 16:38:19

0

هذه هي الساعة الثانية من الحوار ، لكني هنا لم أتدخل فيه مطلقا ، بل كنت مصغيا فقط ، أستمع للتجربة الثرة التي أظهرت دور الخبرة في الكتابة ، والتكنيك القصصي والروائي ..
أما الساعة الثالثة ، القادمة ، فلربما هي الأغنى ، من حيث استعراض رأي الكاتب في كثير من الأدباء والشعراء العرب ، وغيرهم من أدباء العالم ومفكريه ، ممن كانوا بمثابة الرافد المهم الذي رفد التجربة الأدبية الغنية للأستاذ وليد إخلاصي ..


الساعة الثانية :
حلب ـ 7 و8/8/1993


قال :
أول مرة ، وآخر مرة في حياتي ، أدخل فيها المحلَّ العمومي بحلب .. أسمع من الشباب ، أن هناك " جنسًا مغريًا " ، فدخلت أنا وصديق ، أذكر الآن ، أن هناك امرأة كانت مشهورة جدا .. قم ...... ذعرْتُ .. مع أني كنت ممارسًا للجنس قبل هذا اليوم .. وليس ذلك جديدا عليّ .. فأعطيتها أجرها ، وخرجت دون أن أمارس معها .. فقالت لي : أنت لست رجلا !! لكني لم أتأثر ، لأني أعرف نفسي ..
لكني لم أتصور العلاقة بين الجنسين بهذه الآلية ..
لا أستطيع أن أمارس الجنس إلا بطقس من الحنان والتعاطف .. وهذا الشيء الذي جعلني غير قادر على ممارسة الجنس مع أي امرأة ، إذا لم يكن هناك علاقة ما بيننا .. لذلك لم أكن قادرا على ممارسة الجنس مع المومسات .. فكنت أحتاج إلى علاقة حميمة ، وجو ، وطقس .. وهذا الشيء نابع من أني لا أستطيع أن أمضي قدُمًا بأي شيء إذا لم يكن له مبرر في العلاقات الإنسانية ..
فأنا في عملي ، إذا كنت مختلفا مع زملاء العمل ، لا أعود قادرا على العمل .. يجب أن يكون بيننا جوٌّ ودّي وإنساني ..
لذلك لا أستطيع أن أكتب انتقاما من شخص ، أو من امرأة ..
الكتابة عندي ، فعل إنساني أيضا .. وبنفس الطريقة التي أتعامل فيها مع المرأة .. نوع من التعاطف والحنان ..
فعندما تولد الأفكار عندي ، تولد ولادة يسيرة ، ليست قيصرية .. أصل لدرجة ، عندما أكون منهمكا في الكتابة ، يحصل نوع من التعاطف بيني وبين الشخصيات .. يحصل تعارف .. أعيش معهم حتى بعد انتهائي من الكتابة ، ويتخيل لي ، أن شخصياتي موجودة فعلا في الواقع ، وهم أحياء .. وليست الأمور مختلفة ..
وهذا الشيء جزء من ضعفي الإنساني .. أنا ضعيف إنسانيا ..
مثلا : إذا كنت غاضبا ، وحصلتْ لمسة إنسانية من الخصم ، أنسى كل شيء ، ولا أستطيع أن أبني موقفي على حقد ، مع أني حاسم جدا .. فمثلا : إذا تسببت في إيذاء موظف عندي ، أمضي قدُمًا في توقيع العقوبة ، وأعوّضه ماديا من جيبي ..
فحياتي ، وأنا أقترب من الستين ، لا أستطيع أن أعيش في جوّ مشحون ، مع أن بعض الناس الذين لا أستطيع أن أحبهم ، أقاطعهم .. لكني لا أتخذ مواقف إيذاء منهم .. لي مزاج أن لا أعاشره .. لكني لا أستطيع أن أنقضَّ عليه ..
فإذا اعتبرتَ هذا ضعفا بي ، فأنا فخور بهذا الضعف ..
ـ ( أنتَ الذي اعتبرْتَه ، ولسْتُ أنا ..) ..
صحيح أن الحياة الإنسانية صارت معقدة ، لكن ليس من عزاء لقبولها إلا بالتعاطف معها .. ولذلك ، في كثير من الأحيان ، عندما أكون سائرا في نمط روائي ، وعندما تضيق عليّ المَنافذ ، يموت البطل .. لكن ، لا أستطيع أن أجعله قاتلا ..
ـ ( أبطالك لا يَقتلون ؟؟ ) ..
حتى في رواية ( ملحمة القتل الصغرى ) ـ آخر رواية ـ بحثت عن المشاعر التي تتولد عند الناس .. لماذا يرغب الناس بالقتل ؟؟!!
أنا لم أوَصِّفْ حالة القتل .. إنما : لماذا دُفِعوا لذلك ؟؟!!
هذا هو السؤال الهام ..
وفي آخر الرواية ، لا أحد يقتل أحدا .. هي ملحمة بلا قتلى ..
فمثلا ، يتهيّأ لي : مثلا : شيمون بيريز .. لو كان معي مسدس ، لقتلته .. لكن ، عندي رغبة بذلك ، لأنه يجب الخلاص منه .. لكن ، ليس بفعلي ..
أنا أصِبْتُ بنوع من الذعر بأحداث سنة 1980 ..
كثير من أصدقائي قتِلوا .. هناك صديق لي كان أستاذي في الابتدائية ، ولعب دورا كبيرا في حياتي ، اسمه ( صالح جمال ) ـ صار خبيرا في اليونيسكو ، وهو أستاذ كبير جدا ـ قتِلَ أيام الإخوان المسلمين بسبب كونه من مواليد إسكندرون .. وصارت محاولة لقتلي .. لكن المسكين ذاك ـ صالح جمال ـ قتِلَ .. ولم يقم أحد برثائه غيري ..
كان أستاذ العربي ( سليمان العيسى ) ، وكان قد قدِمَ من العراق ، بعد أن أنهى دراسته في بغداد ، في دار المعلمين العليا ، وكان أستاذا لنا في ثانوية المأمون ، وأذكر الحادثة التالية في عام 1950 : كنت طالبا في القسم العلمي ، وجمَعَ طلاب الصفوف الثلاثة في الثانوية العامة ، وأعطاهم واجبا واحدا .. كان المطلوب أن نكتب موضوعا تحت عنوان : أحب ، وأكره .. وجمَعَنا في مطعم الثانوية ، ومعه إجابات جميع الطلاب ، وابتدأ يعطي الملاحظات التالية : ـ وكان يقصد على ما يبدو ، أن يعطي رأيه في فن الكتابة ، التعبير ، فن الإنشاء ـ قال : من بين أكثر من مئة إجابة ، كانت هناك إجابة واحدة ، سأطلب من الطالب أن يقرأها عليكم ، وهي الوحيدة التي شذت عما كتبه جميع الطلاب .. فكنا ننظر ونتلفت حولنا ، لنرى هذا الشخص الذي شذ في كتابته عن الجميع .. قال : الطالب وليد إخلاصي ..
وكنت لا أعرفه .. قال : تفضل .. فأعطاني ورقتي ، وقال : اقرأ .. ولم يكن في المسألة درجات ، أو ما شابه ، إنما أكد الأستاذ ، أن الموضوع الوحيد الذي شذ عن المألوف ، ولكن يجب أن يكون قاعدة لنا : ( كيف نكتب ) ؟؟
وقال الأستاذ : إنه من جملة ملاحظاتي على الطلاب ، أنهم يكررون أفكار غيرهم ، وأنهم لا يقولون الصدق ، وأنهم يستخدمون الذاكرة في الكتابة ، والشذوذ كان في ورقتي .. وبعد أن قرأت الموضوع ، استدعاني ( ومن يومها أصبحنا أصدقاء حتى هذه اللحظة ) .. وقال لي : اسمع يا وليد : أنت كاتب .. ويجب أن تكتب دائما ، لأنك تمثل روحا جديدة غير مألوفة ، حتى في الكتابات السائدة .. وسألني : ماذا تقرأ ؟ وعندما علم أنني أقرأ كثيرا ، استغرب أكثر ، لأن ذاكرتي استبعدت ذاكرتي .. لم تتكئ كتابتي على الذاكرة .. وابتدأت صداقتنا ، ولعب دورا أوليا في التوجيه ، وفي خلق الثقة في نفسي ..
هذه الحادثة ، أتذكرها دوما ..
وبالرغم من أن شعر سليمان ، كان ضمن النمطية الرومانسية السائدة ، ولكن وعيه النقدي كان هائلا ، واستطاع هذا الشعور أن يحفزني لكي لا أكون غيري .. أي ألا أقلد أحدا ..
وظل الأستاذ سليمان فترة في حلب ـ قبل أن ينتقل إلى دمشق ـ يتابع كل ما أكتب ..
وبالطبع ، الورقة هذه لم تكن بدايتي .. فكما ذكرت لك ، كنت أكتب قبل ذلك ، أكتب أشياء غير فنية ..
فمثلا : حاولت أن أكتب الشعر ..
وما زلت أذكر هذه الحادثة التي حدثت بعد عام .. وكانت درسا قاسيا لي ..
كتبت قصيدة بحدود 1000 سطر من الشعر الحر ، يمازج ما بين التفعيلة ، والشعر بدون قاعدة ..
كنت قد قرأت قصيدة كتبها عبد الرحمن الشرقاوي ( صاحب رواية الأرض ) ، وكان شاعرا .. له قصيدة تداولها اليسار العربي ، وبالتالي : الشباب .. وكنا ننسخها ، وكانت بعنوان : رسالة من أب مصري إلى الرئيس ترومان ( الرئيس الأمريكي ) .. فنسجت على منواله قصيدة بعنوان : من أب سوري إلى الرئيس آيزنهاور .. وكنت آنذاك معجبا بمجلة يصدرها الماركسيون والكتاب التقدميون في بيروت ، اسمها : ( الثقافة الوطنية ) .. كان هناك فنان توفي من فترة قريبة اسمه : رضوان الشّهّال ، وكان رساما وشاعرا ومديرا لهذه المجلة ..
ذهبت هاربا إلى بيروت ، وزرت رضوان الشهال في دار ( الثقافة الوطنية ) ، وكانت غرفة معتمة صغيرة في سوق المعرض ، بالقرب من المجلس النيابي في بيروت .. وكنت شابا في السابعة عشرة ، فتلقاني هناك ، وتعرفت إلى شخصية حلبية اسمه : بيير شاهورفيان ، الذي سيصبح أحد أبطال أعمالي الأدبية في ( بيت الخلد ) ، وهو شخصية حقيقية من أطهر الشخصيات التي رأيتها في حياتي ، وكان شيوعيا .. رجل نقي إلى درجة غريبة ، وكان يعمل في المجلة مترجما .. ودَعوني إلى الغداء ، وتناولنا الفلافل مع العيران ، وجلست أقرأ لهم في قصيدة الشعر التي أعتز بها .
نظر إلي رضوان الشهال ، وقال : أنت موهوب .. ولكن لا تقلد أحدا .. هذا تقليد لعبد الرحمن الشرقاوي .. النتيجة : أنني مزقت القصيدة ، وقررت أن لا أكتب شعرا بعد ذلك نهائيا ..
أعطاني ملاحظة وقال : إن لك نفسا روائيا ، ولستَ شاعرا .. لأنك شددتني بالأحداث ، وببناء الشخصيات ، أكثر من اللغة الشعرية ، فحرام أن تضيع جهدك ، لتصبح شاعرا من الدرجة الثانية .. أنت من الممكن أن تكون روائيا من الدرجة الأولى ..
كتبت أشياء ، ومحاولات ، هي نوع من الفضفضة ..
هذه الآراء ، تدفع الشاب إلى الاهتمام أكثر ..
وفعلا ، ابتدأت بكتابة القصص القصيرة ، وبعض الأعمال المسرحية ، لكن هذه لم تكن أعمالا أولى لي ..
لأنني عندما كنت طالبا في التجهيز ( الثانوية ) ، كنت أكتب نصوصا صغيرة ، وأمثل فيها .. ولم يكن لها قيمة درامية ، إنما كانت التدريبات الأولى على أن تستطيع اللغة الدرامية التعبير عن حالة معينة ، وعندما ابتدأت أكتب جديا الأعمال القصصية والروائية ، كانت هذه النصائح أمام عيني ..
وفي الإسكندرية ، حصلت لي حادثة في منتصف الخمسينيات .. كانت هناك مجموعة من الكتاب الشباب ، نجتمع في مقهى .. وكان أجير المقهى كاتبا .. وكنا نجتمع في المقهى أو عندي في البيت ، ومنهم من أصبح من الكتاب المعروفين الآن .. هذا الشخص ، اسمه : ( سيد رجب ) ما زلت أذكره .. وهو كاتب طليعي لم ينتج كثيرا ، ولكنه له قيمة ..
وما زلت أذكر هذه الحادثة : كتبت قصة قصيرة ، ودعوتهم إلى بيتي ، لأقول لهم : ما رأيكم بهذه القصة المترجمة عن تشيخوف ؟؟ فكان الإعجاب شديدا بترجمتي الدقيقة .. وعندما استقر الرأي على أنني مترجم جيد ، قلت لهم : هذه القصة من تأليفي .. فتراجعوا ، وقالوا : نحن أدركنا شيئا من هذا .. فعدت ، وقلت لهم : لا ، هذه لتشيخوف ..
حصيلة هذه الحادثة ، أنه رغم محبتي لتشيخوف ، فيجب ألا أكتب شيئا يمتّ بصلةٍ لتشيخوف أصلا ..
وهذه ، نقيصة للكاتب ، أن تتقمص روحُه روحَ كاتب آخر ..
وهذا الشيء ، هو الذي شجعني أكثر ـ مع الملاحظات السابقة ـ على مزيد من الاستقلالية ..
أن أكتب شيئا ليس له قيمة ، ولكنه يخصني أنا ..
أكبر تجربة رسّخت ثقتي بنفسي ، ما حدث بعد ذلك بكثير ..
كنت قد عدتُ إلى حلب ، وصدَرَتْ مجلة اسمها : ( أدب ) .. وهي مجلة توْأم لمجلة اسمها (شعر ) المعروفة التي تصدر عن دار شعر ..
صدر العدد الأول منها .. اشتريته من السوق .. ومن عادتي ، ومن شبابي الأول ، أن لا أراسل إلا إذا استكتِبتُ .. كنت أحفظ دائما لنفسي ..... إلا أن المجلة أعجبتني ، لدرجة أنني كتبت قصة ، وأرسلتها للمجلة ، فصدر العدد الثاني ـ وهي مجلة فصلية ـ وإذا بقصتي في الصفحة الأولى ، اسمها : ( بعد الظهر الميت ) ، وكتب في تعريف الكاتب : وليد إخلاصي كاتب من حلب .. لأنهم لا يمتلكون معلومات عني ..
وهذه القصة نوقشت في ( خميس شعر ) .. وكان يوسف الخال ـ رحمه الله ـ هو الذي يقود حركة ( شعر ) .. فكان كل خميس ، يجتمع أنسي الحاج ، وأدونيس ، وكان يأتي جبرا إبراهيم جبرا من بغداد بالطائرة ، ليقضي ليلة ويعود ، ويناقشون النتاج الأدبي .. فخصص أحد أيام الخميس لمناقشة هذه القصة ، واعتبرتْ أنها فتح جديد ، وأرسل إليّ كتاب يقول : نحن مستعدون لنطبع لك كتابا .. وهم أول من طبعوا لي كتابا ( دار شعر ) ..
وترجمت القصة إلى الإنجليزية ، ودخلت في أنسوكلوبيديا القصة العربية المعاصرة ، الذي صدر عن دار أوكسفورد عام 1966 ، بعد مرور ثلاث سنوات ، ومن ذلك الحين ، صار الجميع أصدقائي ..
وهذا حفزني أكثر للاعتماد على ذاتي ..
هذه الحادثة ، دفعتني أكثر ألا أفكر في كتابة القصة أو الرواية أو المسرحية .. أن أهيئ الظروف لما بداخلي ، أن يخرج .. التصميم يقوم في العقل .. هذه الولادة الحرة للفكرة ، هي التي أصبحت منهجي في كتابة القصة والرواية والمسرحية، ودرجْتُ على هذا الموضوع ، وأصبح جزءا من عاداتي ..
إنما الكتابة الثانية، وبالذات للرواية , فأنا مثلا : معظم أعمالي الروائية ، الحد الأدنى لكتابتها : ثلاث مرات .. مثلا : أعيد الصياغة ، وقد تعاد الصياغة من جديد ، والتأليف من جديد .. هذا الشيء ، هو الجانب التصميمي في الكتابة .. إنما الكتابة الأولى تنفجر .. مثلا : عندما ولد لي الولد الثاني ، ومات بعد ست ساعات لخطأ ولادي ـ وكان ذكرا ـ وكان غريب الشكل ، فوزنه 5.600 كغ ، وهذا غير طبيعي ، وغير مألوف ، وكان رأسه كبيرا .. وعندما مات ، راقبته من وراء القفص .. طبعا ، عواطفي ليست عواطف أبوة كبيرة .. إنها عواطف دهشة .. بمعنى الموت .. كيف تخلـَّق في تسعة شهور ، ومات في ست ساعات ؟؟!!
وكان شكله هو الذي أوحى لي بفكرة ( محبة الجمر ) بطل رواية ( باب الجمر ) ..
ليس هو ، لكن ابتدأت هذه الحادثة ، عندما بدأت عام 1966 ، وكتبت ( باب الجمر ) في الثمانينيات .. فكان الموضوع يدور في ذهني حوالي 15 عاما .. هذا الكائن الذي يتخمر، ثم تتولد عنه أفكار ..
ازدياد المعرفة ، والتجربة الإنسانية عندما تتعمق .. لكن المحور الرئيسي ، ظل هو ابني ..
ليس هناك من إشارة في الرواية .. لكني الآن ، أتكلم عن فكرة : كيف تلد الشخصيات ؟
المؤثرات الحقيقية للكاتب ، قد تكون المعرفة ، والكبت ، والكتاب ، والأحداث ، والسياسة ، والقضية العربية ... كلها مؤثرات .. لكن أهم مؤثر فيها ، هو الشخصية الأساسية في العمل ، التي تملي إرادتها عليك .. ولكن .. كيف تملي إرادتها عليك ؟؟ لماذا تـُصطفَى هذه الشخصية من دون الآخرين ؟؟ وأنا أفكر في شخصية محبة الجمر ـ طبعا سُمّي فيما بعد ذلك : محبة الجمر ـ كنت أولا أكتب أعمالا أخرى ، وكانت الشخصية هذه تنمو ببطء في اللاشعور ..
طبعا ، هذا الأمر اكتشفته وأنا أكتب الرواية .. فمواصفات الشخصية تنطبق على مواصفات الولد الذي عاش ست ساعات فقط ..
والذي أثر بي كثيرا ، أن والدي ووالدتي ، رفضا ـ بعد موته ـ إلا أن يغسّل كالميت ، ويُصلى عليه ، فاستغربت ، لأنه طفل لا يعي ، فقال : هذا الكائن يمثل الخلق كله .. فعملية الخلق كلها ، تمثلت في هذا الكائن .. كيف ولد ؟ النطفة الأولى .. الفكرة الأولى ، ونما بشكل طبيعي ، دونما تدخل منك ، ثم مات دونما تدخل منك ..
هذا المسار الفلسفي المبسط ، كان هو الجوهر الأساسي للرواية ..
ولد هذا الكائن بشكل عشوائي ، لأن الطبيعة اختارته ..تمثلت في فكرة الخلق الكبرى .. وعندما أعود إلى ذاكرتي العلمية ، أجد الأزهار النادرة لا تعيش كثيرا .. إن ذلك سرّ من أسرار الطبيعة .. فمثلا : زهرة التوليب لا تعيش كثيرا .. من أجمل زهور العالم ، زهرة الصبار ، تعيش 24 ساعة فقط ، ما بين وجودها كبرعم ، ثم تتفتح وترسل رائحة عجيبة ، ثم تنغلق وتموت في 24 ساعة ..
بينما أزهار نباتات كثيرة ، تعيش أياما وأسابيع ، فصار هناك شيء من اليقين غير العلمي : بأن عظمة الفكرة ، أن تولد كبيرة ، ولكن يُقضى عليها .. ومن هذه الزاوية ، اتسمت كثير من أعمالي ..
وقد اتـُّهمْتُ : كيف تقتل ( محبة الجمر ) ؟؟!!
كيف اخترعَت المخيلة الإنسانية بعض الأساطير الدينية أو الميثولوجية ، مثل أسطورة أدونيس ؟؟
الولادة الخارقة ، والموت الخارق الذي فيه تضحية من أجل الآخرين .. هذا الشيء ، لعب دورا في تكوين هذه الشخصيات ..
لذلك ، إذا سُئلت : من هي الشخصيات الحقيقية التي أثرت بك ؟؟
أجيب : إنها الشخصيات المُختَرَعَة التي كتبتُ عنها .. وهي مخترعة ، لأنها لا تمثل الواقع ، ولكنها تختزل الواقع ، وتجد في كل شخصية تيارات كثيرة من الأفكار والأشخاص الحقيقيين .. فهذه الولادة المُرْبِكة للشخصيات ، التي تتم في المعمل الذي بداخلي ـ وكذلك عند كتّابٍ آخرين ـ هي التي تؤثر بي أكثر مما أؤثر بها أنا ..
هناك تبادل قائم .. لكن تأثيرها عليّ أكبر .. ولذلك ، إذا سُئلتُ عن أعظم امرأة قابلتها في حياتي ، أقول : وهوب ، بطلة رواية زهرة الصندل .. وهوب : صديقة .. لا أخفيك سرا .. إنها ما تزال تعيش بداخلي .. وهذا كلام ليس علميا ..فأنا حين أدخل مكانا ما ، أراها فيه أمامي لثوان تنتظرني .. فأصاب بالرعشة .. موجودة ما تزال .. فأقول لنفسي : ألم تكتملْ في كتاباتي ؟! أما زالت تعيش ؟! هل يجب أن أكتب عنها أكثر ، لأقضي عليها ، وأنتهي منها ؟؟!!
هذا الشيء، ليس مصمَّما سلفا .. أنا أحلله بعد أن انتهيت منه .. وقد يكون هذا الكلام وهما .. هذا ما حدث فعلا ..
فالكتابة ، ليست أدبا .. الكتابة : فن ..
ليست صناعة لغوية .. إنما هي خلق حقيقي ليس له وجود في الواقع ، وهي أقرب شيء للواقع ..
وهذا يعيدنا للنظرية التي تقول : إن الحياة كلها من أجل الفن .. الحياة تخلق مَثلها الأعلى كي تستمر .. وإذا فقدت قوةَ الخلق ، تكون قد أعلنت عن موتها ..
لذلك ، فإن إحدى وظائف الفن ، أنه يلعب دور ( أنتي بيوتيك ) مضاد حيوي ، من أجل الاهتراء والتآكل .. فالموت الفيزيائي ، موت زمني .. أما الموت المرعب ، فهو موت الإبداع .. موت القدرة على خلق المثل العليا ..

قريبا .. الساعة الثالثة من الحوار ..

 

الأستاذ وليد إخلاصي يستعد للحوار في بيته ـ صيف 1993

 

 

الأستاذ وليد إخلاصي أثناء تسجيل الحوار في بيته بحلب ـ صيف 1993

 

 

الأستاذ وليد إخلاصي ويوسف رشيد أثناء تسجيل الحوار في بيته بحلب ـ صيف 1993




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !