حين التقيته في ضيافة "مالكة عسال" ذاتَ ربيع بابن أحمد، عرفتُ أنه أتى ـ مثلي ـ من مدينة تتوسدها حورية الماء والظل والأَرز. وحين جالستُه ذات شتاء في مقهى نرقب المطر يغسل مدينتنا ونتحدث عن أبراج برطال، ورصاصات المتقي، وفراشة الرافعي و حب الماعزي وأسماك الغرباوي وبرق الزهرة رميج وغيرهم؛ أيقنت أن شعلة ما تسكنه، وعشقت جلساته.
وحين اتفقنا بعد زمن على لحظة من أجل هذا الحوار، كان لزاما عليّ أن أجد منفذا في غفلة عن وقتي المكدس، والسفر الذي أرتبه بعيدا عن خنيفرة، ثم وجدتُني أرتب حوارا معه وهو الكاتب المتعدد الذي كتب الشعر والقصة والرواية والنقد واشتغل بالمسرح وبأدب الطفل ... ووجدتني أتوه في هذا الفيض وأحتار من أين أبدأ.
وحين قرأت "كان القص يعبرني" أيقنت أن المبدع فيه "رؤيا" يحكيها القص وتؤولها آلاف الشخوص والمحكيات ووددتُ لو أدخل رحابه من الباب المفضي للقص القصير تحديدا، لأسأله كيف - بعد المسرح والنقد والشعر وما لا أدري- صار يعشق الإطلال على العالم من ثقب الباب؟
فقال:
" الإطلالة على عالم القصة القصيرة جدا لم يكن يسيرا نظرا لما تتطلبه كتابة هذا الجنس من كثافة وحذف وإضمار وجرأة وقصصية ووحدة، أمر لم يكن من الهين الاستمرار فيه لولا الإصرار والبحث عن الجديد وتطعيم جسم القصة الضامر بتقنيات جديدة والانفتاح على الأجناس السردية الأخرى "شعر رواية مسرح أسطورة حكاية نكتة" ...
عشق الق ق ج جاء من حيث لا أدري فنصوصي كتبتها منذ زمن بعيد لكني لم أكن راض عنها ورفضت إخراجها لأنني كنت أراها أقرب إلى الخاطرة أو الشذرة ولم تكن في نظري قد بلغت نضجها الحقيقي فالنص الواحد قد يستغرق أسابيع وربما أشهر عندما أصاب بالاحتباس وقد كنت أتحدى نفسي أو صوتا بداخلي تمرس على الإسهاب لينتقل فجأة دون سابق إنذار لكتابة قصص ضامرة وهزيلة وزئبقية. لقد كان في نظر أصدقائي ضربا من الجنون لكني كنت أعتبره ضربا من التحدي ومواكبة ركب في طريقه نحو القمة لأن المستقبل كل المستقبل للسرد القصير النفس في كل الأجناس.
هذا الميكرو- إبداع، أو الصناعة الإبداعية الخفيفة التي صارت تغري الكثيرين، أ ليست خطرا إبداعيا على مستوى الكتابة وعلى مستوى صناعة الذوق السريع وأيضا على مستوى المتابعة و التأطير النقديين؟
ربما لا أرى في الوقت الراهن خطورة ما، لكن يجب أن ننظر إليه من زاوية أن التطور حتمي للأشياء؛ فالكائنات تطورت منذ بدء الخلق على الأرض فليس معدل حياة الفرد الذي كان سائدا ولا حتى بنيته الجسدية هي التي عليها اليوم، وكذا الكائنات. فمنها ما انقرض ولم يعد له وجود.
المشكل لا يكمن في القصر لأن القصر اليوم هو سمة العصر سواء في النفس والقدرة وطول أمد العلاقة (مهما كانت حتى العلاقات الجسدية و الإنسانية ...) بمعنى أن الأشكال القصيرة أضحت محببة بل مرغوب فيها والأمر ناتج عن وعي المبدع ومسايرته لعصره فشروط الحياة تغيرت وكذا ظروفها ففي ستينات القرن الماضي كانت روائع السيدة أم كلثوم هي النموذج المفضل لغالبية محبي الفن الراقي ولكن بدخولنا لعصر العولمة والسرعة والتحول التكنولوجي لم يعد من المحبب بل من المقبول بالمطلق هدر الزمن الهارب بشكل تعسفي. فالأعمال الرائجة اليوم هي أعمال أدبية وفنية تخلصت من دهونها واكتنازها ولعبت على نحافة هي مثار كل الأذواق بل أصبحت السمنة التي كانت مثار أعجاب في كل المظاهر اليوم مجرد تبعات ماض ثقيل يعمل الكل على التخلص منه باللجوء إلى عمليات التجميل والظهور بالمظهر اللائق والمقبول. الرواية هي الأخرى خضعت لهذا المنطق وإن كانت لا تزال أعمال تتعدى ثلاثمائة صفحة في الظهور وممارسة سحرها الكبير.
بخصوص المتابعة والتأطير النقديين أرى أن آليات الاشتغال يجب أن تتغير. فلا يجب الاستهانة بالصعوبة التي تواجه نقاد هذا الجنس ولا المشاق التي يتحملونها في سبيل إخراج متابعة أو دراسة نقدية للوجود فاشتغالهم ذؤوب وشاق وعسير في ظل تراكم مهم وغياب مواكبة سريعة فنقاد القصة القصيرة جدا يعدون اليوم في العالم العربي على رؤوس الأصابع وهنا أريد أن أفتح قوسا لأثمن المبادرة التي قام بها الدكتور جميل حمداوي وتأسيس الهيئة العربية لنقاد القصة القصيرة جدا التي ستساهم كثيرا في مواكبة العديد من الأعمال المنشورة خلال السنوات الأخيرة. فلا يمكن الحكم على القص القصير النفس بكونه المسؤول على انحطاط الذوق والاستسهال في الكتابة وصناعة الذوق السريع لماذا لأن هذا الجنس من أصعب الأجناس كتابة فليس بمقدور من كان أن يدعي كتابة القصة القصيرة جدا، ومن خلال تتبعي للمشهد الثقافي العربي لا حظت أن هناك ترحالا للكتابة في هذا الجنس لكتاب راكموا تجارب لا يستهان بها في كتابة أجناس أخرى وهذا أمر يمكن تلخيصه في فكرة واستنتاج له دلالته يكمن في غواية القص القصير جدا وجاذبيته المطلقة ، فهي كشبكة "سودوكو" تبنى فيها القصة عبر مراحل وتدفع لركوب تحدي قد تعصف بصاحبها إن أخطأ في معادلة كتابتها ولم يتوخ الحذر أثناء البناء .
بخصوص كتابتك أنت، وحين تنهي نصا ما، هل تقرأه كناقد وتبرأ من الأب الحنون الذي يتعاطف، وهل يوجّه الناقد فيكَ المبدعَ لحظة الكتابة؟
ربما قد أشعِر الناقد بنوع من الإحباط لو قلت أنني لمّا أكتب لا أستحضر الناقد بداخلي ولكنني أستحضر القارئ واحترامه وذوقه ، فاهتمامي ينصب على إمتاعه بشكل كبير أو إدهاشه. أعمل باستمرار للرقي به جماليا وخلق عوالم جديدة بالنسبة له ونقل مواقف أجعله طرفا فيها وأخرى نابعة من واقعه لكن تؤطرها سخرية أوانتقاد مرير، كتابة القاص الناقد هي كتابة لا يمكن أن يتخلص فيها من عينه الثالثة كما لا يمكنه التغاضي عما تقترفه يده من آثام القص فهو من يسلط سيف قلمه على آخرين وينتقد أعمالهم عليه توخي الحذر في ما يكتب وإلا تحول لمنافق يقول ما لا يفعل .
كناقد أول لأعمالي التي لا أتعاطف معها كثيرا دون الإحساس الأول والاقتناع بأصالتها وأحقيتها في أن تخرج للوجود فهناك نصوص مهما امتلكت نواتها ومادتها الخام تظل متمنعة وعصية على التشكل فأنا قد أعيد كتابة القصة وصياغتها مرات عديدة ومع كل حلة جديدة يتمظهر لي نموذج جديد ومنظور قابل للاشتغال من زاوية ما؛ فأنجح نصوص أعدت صياغتها واشتغلت عليها حتى اختفت منها ملامح فكرتها الأساسية فأنا لا أكتب نصوصا تتنزل علي من السماء ولكني أمارس طقوسا خاصة لإخراجها للوجود بعسر.
حدثني عن هذه الطقوس في الكتابة الإبداعية لديك؟ وهل هي نفسها في كتابة النقد؟
عندما نتحدث عن طقوس الكتابة نتحدث عن حالة نفسية خاصة تلف المبدع بل حالة من الانجراف العام ، سفر بعيد عن الواقع وعن المحيط ، عندما تنتابني حالة من حالات الرغبة في الكتابة لا أنعزل بل أكون غالبا على طاولة مقهى صاخب برواده ، وتلفازه وهرجه الكبير، يحدث لي نوع من الغياب بحيث لا أكثرث بل ربما لا أشعر بالصخب من حولي أغوص في بياض الورقة، أتيه مسودا وجهها الصقيل بكتابة رديئة وسريعة منسابة تستعصي قراءتها أحيانا بسبب التشطيب وعدم استواء الكلمات فوق السطر ولرداءة الخط المكتوب به، أكتب كلما أحسست بالرغبة واستوت الفكرة ونضجت بحيث أشعر أن وقت القطاف قد حان، لكنها حالة تحدث فقط مع الكتابة الابداعية، فالمقهى عامل حاسم كمكان، داخل فضائه أكتب دوما وباستمرار وفيه أقرأ وأكتب أعمالي النقدية كذلك، لكن مع بعض الاختلاف.
عندما أكون بصدد الاشتغال على عمل أدبي ( ديوان / رواية / مجموعة قصصية ...) اشتغل في وقت محدد من النهار ( غالبا فترة الصباح) وطول المدة أو قصرها تتحدد ببرنامجي اليومي ساعتان صباحا وساعة مساء يوميا، وهو أمر ألفته فلا أستطيع الخروج من البيت دون أن أشعر برفقة كتاب وثقله، ولست أدري، فغالبا ما ينتابني إحساس بكون جلوسي في المقهى بدون أن أقرأ أو أكتب يعمق إحساسي بالعزلة والوحدة فغالبا ما أنزع نحو الاختلاء بالكتب لفترات طويلة بل أعتزل الأصدقاء لمدد قد تطول ما لم أنته من العمل الذي أكون بصدد الاشتغال عليه وربما هذا عيب أو سلوك غير سوي .
فالاختلاف واضح بين الاشتغال على العمل الإبداعي والعمل النقدي فهذا الأخير مرهق وشاق لكنه لا يخلو من متعة الإحساس بإسعاد الآخرين والالتفات إليهم وإلى أعمالهم فما ينقصنا كمبدعين هو ترويج عملتي " الحب "والصدق "بيننا وننبذ كل منطق للإقصاء والتهميش والبغض وكلما ترفعنا عن ذلك كان ذلك أفضل وأحسن .
عادةً هل من أحد يشاركك فرحة القراءة الأولى فتقرأ له نصوصك قبل نشرها؟
أصدقائي هم قراء نصوصي الأولون، وكذلك زوجتي، فغالبا ما أستعين بآرائهم ومواقفهم، وتوجيهاتهم، كما أنني لا أقدم لهم عملا من الأعمال حتى ينتابني الإحساس بالرضى بكونه أصبح جاهزا وأنه لا محالة سينبذ وراء ظهري بعد نشره، وتلقي مواقف القراء الآخرين حوله، فهم مرآة ما نكتب وملاحظاتهم هي التي تحفزنا على الاستمرار بل نتنفس الحياة من خلالهم.
لو قيظ لك أن تمنح وسام شرف لقاص، ولشاعر، ولناقد؛ فمن تختار؟
لو بحثنا المسألة في العمق سنجد أن المبدعين المغاربة بشتى توجهاتهم يستحقون الحب والتقدير والتكريم لأنهم قلة، هذا من جهة ومن جهة ثانية يكابدون كثيرا من أجل إخراج أعمالهم للوجود، فكل مراحل إنتاج أعمالهم التي من المفروض أن يقوم بها متخصصون ( الطبع / النشر / التوزيع / الإشهار / تنظيم حفلات التوقيع / بيع الكتاب / تقديمه مجانا أحيانا .../ ) ولو تمعنا في الظروف التي يمرون منها ( المادية خصوصا ) لأدركنا أن صدر كل من قام بنشر عمل أو أخرجها للوجود بإمكانياته الخاصة يستحق وسام تقدير وهو وسام أمنحه لأحبائي كلما قاربت عملا من أعمالهم .
لكن هذا لن يعفينا من وضع شروط خاصة والتساؤل حول من قدم خدمات جليلة للإبداع المغربي والمبدعين المغاربة طوال عقود ومن منهم تمكن من تحقيق إنجاز غير مسبوق على الأقل وطنيا وهذا السؤال أعادني إلى الحديث عن الشخصية الأدبية للمغرب التي منحت باستحقاق للقاص عبد الله المتقي الذي تم التصويت لصالحه عربيا سنة 2010 ، ولست مغاليا هنا لكني منصفا لرجل شهد الجميع على أياديه البيضاء وخدماته الجليلة أدبيا فله سأمنح وسام الشرف .
ماذا عن التصور العام للدورة الثانية للمهرجان الوطني للقصة الق ج؟
نحن اللحظة بصدد تهيئ كتاب حول أشغال الملتقى الأول للق الق جدا بخنيفرة، سنعمل من خلاله على توثيق كل شيء، فإذا كانت الدورة الأولى قد مرت بحسناتها وسيئاتها فإنها مكنتنا والإخوة في إدارة المهرجان من وضع " كاطالوغ" إن صح التعبير يمكننا من تجاوز هفواتنا السابقة من حيت التنظيم وعدد الجلسات النقدية وعدد المشاركين والتوقيت، وكذا الأنشطة الموازية التي ستكون على هامش المهرجان من أنشطة داخل المؤسسات التعليمية العامة والخاصة ، وكذا اختيار فضاءات جديدة، و الانفتاح على شركاء جدد، كما أن اختيار المحور سيصب في اتجاه تدعيم الق القصير جدا مع استحضار القصة القصيرة خلال هذه الدورة فما نطمح إليه في إدارة المهرجان هو تحقيق الاستمرارية وجعل مدينة خنيفرة قبلة أخرى لعشاق القصة المغربية كما نطمح لتنظيم مهرجان وطني للشعر، بعدما تحقق حلم تنظيم أول مهرجان وطني للمسرح، وأستطيع القول أن ثلاث مهرجانات وطنية كفيلة بخلق إشعاع ثقافي بهذه المدينة المناضلة.
- في كلمة:
نص ندمت على نشره؟
لم يحدث لي هذا الأمر بعد
نص تتمنى لو كنتَ كاتبه؟
بالفعل هذا يحدث كثيرا فمن خلال قراءتي للأدب العالمي أشعر بانجذاب كبير وبتأثر مما أقرأه، فروعة النصوص تكمن في انفتاحها على الجراح الإنسانية وهمومها وقضاياها الأكثر عدالة، إنها إنسانية الإنسان التي كلما وضعت على المحك أشعرتني برغبة أن أحقق حلم ترجمتها في نصوص خالدة على الورق.
التعليقات (0)