الكاتبة زليخة أبو ريشة..وفقدان الصواب..!
تعتبر حرية التعبير عن الرأي واحترام الرأي الآخر من السمات المهمة التي تميز المجتمعات الديمقراطية عن باقي المجتمعات..ولا أبالغ عندما أقول بأن هذه الحرية مقدسة كقدسية الأديان, ومن هنا يجب احترامها وعدم المس بها. انه لأمر رائع أن تقوم بتوجيه الانتقاد للآخرين عندما تملك كافة الأدلة والبراهين لذلك, وهنا تنال احترام الجميع بمن فيهم من قمت بانتقادهم, وبالمقابل انك تضع نفسك في موقف سخيف ومخجل عندما تقوم بتوزيع انتقاداتك كيفما تشاء وحيثما تشاء والى من تشتهيه نفسك دون أي وجه حق, وبذلك لا تنال إلا احتقار الآخرين ونفيهم لك ولآرائك. قبل أيام قلائل, وفي مقال لها حمل عنوان"التعليم والمعلمون في الأردن", قامت الكاتبة الأردنية زليخة أبو ريشة بمهاجمة جهاز التعليم الأردني,لأنه نتاج" الحركات الإسلامية وأولاها الإخوان المسلمون"، التي، بحسب رأيها حشت"المدارس بمن هبَّ ودبَّ من ضعيفي الموهبة في التعليم، وفاسدي الضمير المهني، على خلفية التدين الذي يُظهرونه، من أنقبةٍ ولحىً، وعلى خلفية "هذا يصلّي وذاك لا يُصلي". وأضافت أبو ريشة في مقالها أن المعلمين والمعلِّمات وجهازَ الإشرافِ التربويِّ تنبغي مساءلتهم عن "التدهور المروع في قيمة التعليم، والتمزُّق الخطير في نسيجه. وهم، في رأيي، آخر من يحق لهم التشدُّق بالديمقراطية وحقوق المعلم ما داموا لم يرعوا حريةَ التفكير في التعليم وحقوقَ الطلبة في بيئةٍ تربوية سويَّة". ورأت الكاتبة أبو ريشة في مقالها أن " "نقابة المعلمين" ليست إلا سوى أداة جديدة تضافُ إلى ما لدى الحركات الإسلامية من أدوات، أولاها إعلان "الإسلام حاكماً ومرجعاً ودستوراً", لكي تتمُّ السيطرة السياسية باسم الدين"، بحسب رأيها. أقر وأعترف بأنني من دعاة فصل الدين عن الدولة وان ما لقيصر لقيصر وما لله فهو لله, وأنني لا أنتمي لأي حزب ديني ولا أتعاطف مع أية جماعة دينية مهما كانت, ولكن هذا لا يعني أن أقف مكتوف الأيدي ولا أقوم بالرد عند سماعي أو قراءتي لأقوال بعيدة كل البعد عن الحقيقة, ومن هنا يأتي ردي على مقالة أبو ريشة والتي تفتقر إلى الأدلة والبراهين, وتأتي فقط من باب حقدها الأعمى على الجماعات الدينية, علما بأنني دافعت عنها مؤخرا عندما نشرت مقالا تهاجم فيه المناهج الدينية الإسلامية التعليمية في المدارس الأردنية, فما لها لها وما عليها فهو عليها, واختلاف وجهات النظر لا يفسد للود قضية. وقبل الخوض في الرد على ما جاء في مقال أبو ريشة, لا بد من التطرق الى العلاقة التي تربط الاسلاميين وخاصة جماعة الاخوان المسلمين والنظام الحاكم في الأردن. من المعروف بأن تنظيم الاخوان المسلمين في الأردن له قاعدة جماهيرية واسعة جدا واخذة بالازدياد مع مرور الزمن, ويتميز عن غيره من الجمعيات الخيرية المصرح لها رسميا بممارسة نشاطاتها الاجتماعية والخيرية على الساحة الأردنية بأن نشاطه ومنذ عقود بعيدة لم يعد محصورا في العمل الخيري وكما هو منصوص عليه في القوانين الناظمة له, بل تعداه ليشمل نشاطات سياسية ونقابية واقتصادية..انها علاقة مبنية على أسس معينة قابلة للاضطراب ولكنها في المحصلة تقوم بخدمة الطرفين..ويحرص الطرفان, النظام الحاكم وجماعة الاخوان على الحفاظ على هذا التزاوج..ومن هنا يدعي البعض بأن هذا"التميز في العلاقة" هو الذي يوفر لهم المرونة الكافية لإدارة معاركهم وعلى كافة الجبهات ضد أية جهة رسمية او حزبية او شعبية تخالفهم الرأي في أية قضية تندرج حسب رأيهم تحت شعار " الحل الإسلامي " ولهذا لا يمر يوم دون أن تلعلع حناجرهم ويكون لهم صولات وجولات عبر وسائلهم الإعلامية ضد خصومهم مهما كانت اختصاصاتهم ولا ينقصهم للإجهاز عليهم إلا أن تسمح لهم الجهات الرسمية بحمل السيوف والرماح واستخدام الخيول والاحتفاظ بمخزون لا ينضب من رباط الخيل ومن ثم شن غزوات مستمرة عليهم. ومن هنا نفهم ونستوعب لماذا يقوم الكثيرون من المثقفين والأكاديميين والسياسيين الأردنيين ببساطة وتكرار ودون ملل بترديد مقولة أن أزمة التعليم ومشكلته (وفي الأردن اليوم أزمة كبيرة في التعليم تشغل جميع المواطنين والمسؤولين) تعود إلى سيطرة الإخوان المسلمين على العملية التعليمية، والغريب أنها مقولة شائعة يرددها كثير من الناس وبخاصة العلمانيون. ولكنها مقولة تتناقض مع أبسط بديهيات العقل والذاكرة، فالتعليم في الأردن يقوده العلمانيون والليبراليون أو المحافظون من غير الإسلاميين منذ تأسيس الدولة في العشرينيات وحتى اليوم، ويستثنى من ذلك سنوات ثلاث كان الإسلامي الدكتور إسحق الفرحان فيها وزيرا للتربية والتعليم، وذلك في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم, ويشغل اليوم منصب أمين عام جبهة العمل الاسلامي.
والسؤال البسيط الذي يطرح نفسه:هل تريدنا الكاتبة أبو ريشة وغيرها من السادة والسيدات الذين تلقوا تعليمهم في بلاد الغرب وحصلوا على أعلى الشهادات وأرقاها, ولكنهم لم يتعلموا أبسط قواعد التفكير والحساب والجمع والطرح، أن إسحق الفرحان بتوليه وزارة التربية والتعليم لسنوات ثلاث أو أقل قد غيّرها وإلى الأبد، ولم يعد يمكن لكل الوزراء والنواب والمثقفين والأكاديميين والمسؤولين منذ عام 1973 تغيير ما فعله إسحق الفرحان بالوزارة؟, هذا إن كان صحيحا أنه غير الوزارة ومناهجها، فمن المعلوم أن قوانين وزارة التربية والتعليم القائمة تعود إلى مرحلة تأسيس الدولة، وتبلورت في مرحلة لم يكن فيها للحركة الإسلامية حضور يذكر في البلد، ويعرف كل طفل في الأردن أن التوظيف في وزارة التربية والتعليم يجري بتنسيق وإشراف ديوان الخدمة المدنية. فاذا كان الفرحان قد تمكن من تغيير المناهج وفق رؤية اسلامية صمدت ولا تزال منذ أربعة عقود, فبالامكان الجزم بأنها مناهج جيدة بامتياز, أو أن من خلفوه في منصبه لم يقدموا أي جديد للمسيرة التعليمية ومناهجها في الأردن.
الكاتبة المحترمة تتهم الحركات الاسلامية وعلى رأسها جماعة الاخوان المسلمين بأنها هي التي أوصلت جهاز التعليم الأردني الى درجة لا مثيل لها من الانحطاط, نتيجة لسيطرتها التامة على هذا الجهاز..فتوظيف المعلمين بأيدي هذه الحركات, وتعيينهم يتم على أساس انتمائهم الديني, فهذا يصلي وتلك محجبة, وأما قدرتهم العلمية والتعليمية فقد تم ضربها بعرض الحائط..وللكاتبة أبو ريشة أقول:من يقرأ أقوالك هذه لا يمكن الا أن يفهم أمرا واحدا فقط, وهو مطالبة وزير التربية والتعليم والوزارة التي يقف على رأسها بالاستقالة الجماعية كونهم لا يسيطرون على جهاز التعليم والمناهج الدراسية, تاركين المجال للحركات الاسلامية لقيادة هذا الجهاز المهم..ان الكاتبة تناقض نفسها وتضعها في دائرة الحيرة والشك وعدم المصداقية, فمن جهة تحمل الحركات الاسلامية مسؤولية تدني مستوى جهاز التعليم الأردني وهذا ما أثبتنا عدم صحته, فوزارات التربية والتعليم المتعاقبة هي التي تتحمل هذه المسئولية وبصورة مباشرة, ومن جهة ثانية, تطالب وزير التربية والتعليم"بتنظيف" وزارةَ التربية ومناهجها وجهازها التعليميي من مخلفات السيادةِ الأيدولوجيَة المقيتة التي ما تزال يرزحُ تحتها التعليم, وهنا مربط الفرس, فاذا تمكنت هذه البرامج التعليمية من الصمود على مدى قرابة الأربعة عقود,فان الكاتبة شاءت أم أبت تقر وتعترف بأنها مناهج جديرة بالاحترام, والا لماذا لم يتم تغييرها وكانت الفرص متاحة لذلك, فلا يعقل القول أن من وقف على رأس وزارات التربية والتعليم المتعاقبة بعد الفرحان كانوا كلهم اسلاميين..كفى تخبطا بالأفكار يا زليخة, فقد"استوت" الطبخة, وما عليك الا لوم نفسك أنت وغيرك ممن اتخذوا من الاعتراف بالواقع عدوا لدودا لهم.
تقول أبو ريشة:"فما المقصودُ بالاعتصامات الأخيرة على خلفية انتقادِ لحيةٍ، سوى التلويحِ السياسيِّ للحكومة بأنَّ معظم موظفيكِ في قبضتنا"..وللكاتبة أقول:ومن منح الحق لوزير التربية والتعليم الفاضل بالتهكم من المعلمين وانتقاد لحاهم؟, ألا يدرك معالي الوزير بأن المعلمين المعتصمين لم يكونوا اسلاميين فقط وأصحاب لحى, انهم كانوا يمثلون جميع المعلمين, من مسلمين ومسيحيين هذا على مستوى الانتماء الديني, ومستقلين وغير مستقلين على مستويات أخرى..ان معالي الوزير قام بوضع نفسه في موقف لا يحسد عليه, ومن هنا أقول للكاتبة المحترمة ومع أن الاخوان المسلمين لم يستخدموا سيوفهم, الا أنهم تمكنوا ومن خلال أحدث غزوة لهم ضد وزارة التربية والتعليم ان يحققوا اصابات مباشرة بها بحيث اجبروا معالي الوزير على أن يقدم اعتذارا مكتوبا تم بثه عبر وسائل الاعلام المختلفة, وهي سابقة لم يحدث مثيل لها من قبل على اعتبار أن اعتذار أي وزير لعامة الشعب يمس بهيبة الدولة.."انه هدف ذاتي" يا زليخة, ولكنه لم يكن مأخوذا في حسبانك, فطابع الهجوم والتهكم في مقالك أبعدك كل البعد عن ادراك الحقيقة والتعامل مع الأمور بموضوعية.
ان مطالبة المعلمين بتشكيل نقابة لهم لهو مطلب عادل منطقي بل أمر ملح, فما العيب بأن تكون هنالك نقابة للمعلمين تجمعهم تحت سقف واحد وتدافع عن حقوقهم..لا أريد الاطالة هنا بحديثي عن دور النقابات المختلفة, ولكنني لا أرى أي سبب يمنع من تأسيس نقابة للمعلمين, تكون مظلة تحفظ لهم الحد الأدنى من الحقوق وكذلك تؤطر لهم الواجبات، وترسم العلاقة التشاركية بين الأسرة والمدرسة والطالب والمعلم في النهوض بمستقبل الأجيال.
ولكن وبصوت عالي ومدوي أصرخها:لا لتسييس النقابة, فالنقابة ان تمكن المعلمون من انشائها, وهم حقا يستحقونها وبجدارة، بل هي حاجة وطنية ملحة قد تساهم في إنهاء حالة الفلتان والهيجان وظاهرة العنف التي باتت تؤرق مضاجع الجميع في المدارس وغيرها من الظواهر السلبية التي تواجه مسيرة التعليم..نقابة يجب أن يكون هدفها الدفاع عن المعلمين وحقوقهم وتطوير المسيرة التعليمية, لما فيه خير الطلاب وذويهم والمعلمين والجهاز التعليمي.
لا يكفي يا زليخة أن نقوم بلوم الاخرين في التسبب في فساد جهاز معين حتى وان كنا صادقين, فالمطلوب هو وضع الحلول والتغلب على هذا الفساد, وعليه أقول: على الجميع الابتعاد عن المزايدات, فالجهاز التعليمي يمر بمرحلة صعبة, ويجب العمل على انقاذه, ولا يتم هذا الأمر الا اذا توحدت الأهداف وخلصت النفوس وعمل كل في موقعه وباخلاص, من الطالب وحتى الوزير.
تتعدد صور النجاح المدرسي وتتنوع، فمنها ما هو تقليدي، ومنها ما هو تقدمي ومنها ما هو قابع في الوسط بين ذاك وهذا، وباختلاف أطرها التربوية، تتميز المدارس الناجحة بشراكة أساسية بين ثلاثة أطراف: الأهل والمعلمين، والطلاب راضون عن كليهما، ينجحون في تحقيق أهدافهم التعليمية والتحصيلية، وتهيئ المدرسة لمشاركتهم ديمقراطية القرار والتنفيذ والمسؤولية والمساءلة الدائمة، والدعم والشراكة الحقيقية لهذه الأطراف الثلاثة هي العوامل الحاسمة في تقدم الطلاب، من هنا فان للمدرسة الناجحة هوية تميزها وقيما واعتقادات وفكرا يوجه عملها، ومعايير وقياسا يقيم عملها وشراكة حقيقية تدعم مسيرتها وتحقق بواسطتها جودة التربية والتعليم والتعلم, وعلى وزارة التربية والتعليم العمل على انجاح هذه الأمور من خلال جهاز تربوي ناجح يعمل ليل نهار بدون النظر الى أية خلفية ومهما كان نوعها.
وأختتم قائلا, إن مناهج التربية والتعليم في الأردن لم ولن تصل الى درجة الكمال, وهي بحاجة إلى تطوير ومراجعة استراتيجية مستمرة، وبحاجة إلى إدخال مساقات علمية وراقية في الفلسفة والتاريخ والفنون والموسيقى والآداب والنشاط العام والعمل التطوعي، ولكن إلقاء اللوم على الإخوان المسلمين في الواقع المتردي للتربية والتعليم لا يمكن تصديقه إلا إذا اقتنعنا أن إسحق الفرحان والإخوان المسلمين يستخدمون قوى سحرية وخرافية غامضة, وما دمنا وصلنا الى هذا الحد من القناعة, فمن حقنا أن نطالب الفرحان وجماعته باستخدامها لعلنا نتمكن من حل جميع مشاكلنا..فارحمينا يا زليخة وارحمي نفسك يرحمك الله.
د. صلاح عودة الله-القدس المحتلة
التعليقات (0)