لقد شرف الله اللغة العربية وخصها بالعديد من الخصائص والميزات، ولعل أبرزها وأهمها كونها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وبهذا ضمنت الحفظ الأبدي لها لحفظ الله لكتابه الخالد، وجعلها تمتاز بتنظيم تركيبي عجيب فريد، لدرجة أنه يستحيل أن تستبدل كلمة قرآنية بكلمة أخرى محلها، لأن كل كلمة قرآنية في مكانها لها جمال متميز لا يعوض بغيرها. فجمال كلمة ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ في مقدمة سورة البقرة أجمل من كلمة "لا شك فيه".
والتقديم والتأخير من الموضوعات البلاغية التي نال القرآن الكريم حظه منها بشكل وافر حيث يراد به أن تخالف عناصر التركيب في الجملة القرآنية ترتيبها الأصليّ في السياق فيتقدَّم ما الأصل فيه أن يتأخَّر ويتأخَّر ما الأصل فيه أن يتقدَّم. وعليه، فإننا سنقدم بعض الأمثلة الواردة في الخطاب القرآني الدالة عليه لنتذوق بعض لمسات جماله المشرقة:
أولاً: جاء التقديم والتأخير في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:5-6]، فالمدقق يجد أن في هاتين الآيتين تقديماً وتأخيراً، حيث قدّم المفعول به ﴿إِيَّاكَ﴾ على فعل العبادة نعبد، وعلى فعل الاستعانة نستعين، لأن الأصل في الجملة، نعبد نحن إياك، ونستعين نحن بك، ولكنه قدم ما يستحق التقديم وأخر ما يستحق التأخير لعلة الاختصاص. ومعناه: نخصُّك يا الله بالعبادة والاستعانة وحدك دون غيرك.
وفي المقابل تم تأخير فعل الهداية، ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ﴾ ولم يقل (إيانا اهد) كما قال في المثالين السابقين، وسبب ذلك أن العبادة والاستعانة مختصتان بالله تعالى فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان إلا به، وذلك لأن طلب الهداية لا يصح فيه الاختصاص إذ لا يصح أن تقول: اللهم اهدني وحدي ولا تهد أحداً غيري أو خُصني بالهداية من دون الناس.
وهذا نظير قوله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر:66] وقوله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة:172] ومثله كذلك مثل قول الله تعالى: ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَـهُ الْحَمْدُ﴾ فالغرض من التقديم هنا بيان اختصاص الملك والحمد بالله عزَّ وجلَّ لا بغيره.
مثال آخر على التقديم والتأخير جاء من خلال قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الملك:29] فقدم الفعل ﴿آَمَنَّا﴾ على الجار والمجرور (به)، وأخّر توكلنا عن الجار والمجرور (عليه) وذلك أن الإيمان لما لم يكن منحصراً في الإيمان بالله فقط، بل لا بد معه من إيمان برسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يجوز إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين، قدّم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه.
والقيمة البيانيَّة للتقديم والتأخير مرتبطةٌ بالجائز منه، ومرهونةٌ بحسن استعماله على وفق مقتضى الحال، والوعي باستعماله في موضعه، وإلاَّ كان عبثًا لا قيمة له ولا فائدة بل ربَّما يؤدِّي إلى إفساد المعنى. ولا عجب أن نرى احتفاء الإمام عبد القاهر الجرجاني بهذه الظاهرة البيانية الكبيرة في قوله عن بابها: "هو بابٌ كثير الفوائد، جمُّ المحاسن، واسع التصرُّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترُّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعُه، ويَلطُف لديك موقعُه، ثم تنظر فتجد سبب راقك ولطف عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان" تلك هي أجزاء وأبعاض من القيمة البيانية لظاهرة التقديم والتأخير.
التعليقات (0)