مواضيع اليوم

القوارض ـ قصة قصيرة

يوسف رشيد

2010-05-28 14:24:22

0

 

ملأتُ الحقيبة ، ثم أحكمْتُ إغلاقها .. رفعْتُها بين يديّ ، ومضيْتُ أنوء بها ..

كانتْ رُفاة أعز مخلوق لدي .. أنقلها بين ذراعيّ وكتفيّ .. أسندُها إلى جدار ريثما أستعيد شيئا من الراحة ، ثم أحملها ، وأتابع ..
الوقت بُعيْد الغروب .. والشوارع تغصّ بالناس .. والطريق طويلة أكثر مما عهدتها .. آلاف المرات قطعتها .. لم تكن كذلك .. اختلّ توازني ، فتعثرتْ خطاي .. أطرقتُ أرضًًا متحاشيًا النظرَ إلى عيني صديق لي .. تواريْتُ عنه في منعطفٍ مجاور ..شعرْتُ بضيق في صدري ، وصارت رقبتي أضعفَ من أن تحتملَ رأسي المُثقل .. تلمسْتُ عنقي ، تمترسَتْ فيه غصّة خانقة ، فاحتبسَ الهواءُ في حنجرتي .. تاهت قدماي في الطريق .. هممْتُ بالوقوف .. لكني تابعْتُ .. فلا بدّ من أن أصِل .. سأرمي بهذا الرفاة في أقرب مكان مناسب .. سأتخلص منه ، ولو إلى الجحيم ..
دلفتُ إلى أول مكتبة صادفتني .. وضعتُ الحقيبة على الطاولة .. فتحتها بتؤدة ، أخرجْتُ كتابًا ، فخرجت مني شهقة ، كانت تتوضَّعُ في أعماقي .. قلبته بين أصابعي .. قرأتُ بعضَ ما خطته يدي على الحواشي .. تداعتْ ذكرياتٌ كثيرة .. ارتعدتُ لها .. مادت الأرض بي .. اختطفه من يدي ورماه ـ بلا اكتراث ـ على الطاولة .. زاغت عيناي بينهما .. دنا من الحقيبة .. مدَّ إليها يدًا خشنة .. أمسَكَ بمجموعة مما بداخلها ، سَحَبَها .. اندفعتْ يداي إليه تستلطفه .. لم يأبه .. أخرجَ مجموعة ثانية .. " كأنه لا يسمع أصوات اعتراضي " .. انتثرت الكتب بعشوائية .. اتجهَ إليها .. أعادَ ترتيبها ، بينما كان يحصيها ..
رفع رأسه إلى أعلى ، وتركز بصرُه على نقطة محددة من السقف ، وشفتاه تتمتمان بما لم أسمعْ منه شيئا .. انخفض برأسه .. حدّق في وجهي .. كرهْتُ عينيْه .. استدرْتُ عنهما .. خِلتُه يتحدثُ إليّ ، فالتفتُّ ..
أرعبَتْني ملامحُ وجهه ، استندتُ على الجدار خلفي .. أحصى الكتبَ ثانية ..
دققها واحدًا واحدًا .. سخرَ مني بابتسامة خبيثة ، وقال :
ـ " أعطيكَ ثمانين ليرة " ..
أطبقتْ عليّ السماءُ .. تلاشتْ صورته .. صار سرابًا شفافا ..
ضجّت في أذنيّ صرخاتُ استغاثةٍ مثيرة ..
وتدافعتْ إلى جوفي أطنان من الهواء العفِن .. تشبّثتُ بالجدار .. سمعتُه يكرِّرُ كلماتِه .. تردّدَ صداها في المكان .. لملمْتُ نفسي ، واندفعْتُ إلى الكتب دونما كلام .. أعدْتُها إلى الحقيبة ، بينما كان يهرف قائلا :
ـ " لقد أعطيْتُكَ أعلى سعر يمكنُ أن ْ يدفعَه لك أيُّ تاجر آخر .. ثم إن هذه الكتب جميعًا غيرُ رائجة في سوقنا ، وستكون بضاعة كاسدة لا أمل في بيعها على المدى القريب ، وسيكون شرائي لها مغامرة كبرى " ..
بحثْتُ في فمي عن شيءٍ من الرطوبة أبلل بها شفتيّ .. استقبلتْني لفحةٌ باردة عند الباب .. وعندما وطِئتْ قدمي أرضَ الشارع ، انسلخْتُ عن كل ما اعتراني ، وارتضيْتُ أن يقفَ بي الزمان في هذه الفسحة ..
كان الثاني أشدَّ قسوة من الأول .. مزّق غلافا حين امتدّتْ يدُه لتخرجَ الكتبَ ..وسعّرَها بستين ليرة فقط .. ورأيْتُ في وجهه ذعرًا لم ألحظْه قبل ذلك .. انصبّتْ نظراتُه عليّ ، ورمى الكتبَ من يديه ، وتراجعَ إلى أبعد نقطة عني .. وقفَ هناك ، وصمَتَ ..
نهضْتُ متثاقلا .. أعدْتُ الكتبَ إلى الحقيبة ، وخرجتُ أشدَّ حزنًا ومرارة ..

(( أربعة شهور لم أدفعْ لها قرشا واحدًا .. وغدًا تنتهي فترة التسجيل .. والوصفة في جيبي لم تعدْ تحتملُ تأخيرًا أكثر من ذلك .. وأدوات مخبرية لا أستطيع دخول المخبر بدونها .. والسَّمّان .. والخبّاز .. وأحمد .. وسليم .. ))
(( إن عشرة أضعاف ذلك المبلغ ، لا تكفي .. فأين أنا منه ؟))

أفرغتُها بسرعةٍ حين نطقتْ شفتاهُ : بمئة ليرة .. وتظاهرْتُ بأني لم اسمعْها منه .. فأعادَها ثانية .. خشيْتُ أنْ يَعدِلَ عن رأيه .. التقطتُها منه .. تأملتها على الضوء .. أدنيتُها من أنفي ، بينما كان منشغلا بترتيب الكتب على الرفوف .. ثنيْتها برفق .. ثم أخفيتها في جوف محفظتي الصغيرة وأنا أتلفت حولي ..
تراقصت المحفظة بين يديّ فرحًا بأول مبلغ كبير يتوارى في أحضانها .. أحكمْتُ سترتي حول جسدي والمحفظة ، واندفعت مسرعًا ..
" لا شك أن كل أولئك سيحسدونني على ما أملك .."
ضحكتُ .. انتبه إليّ أحد المارة ، فتأمّلني بعينين تمتزجُ فيهما مشاعرُ كثيرة .. لكنها مبهمة .. تجاوزْتُه .. كان ثمة زهوّ يملأ عليّ رأسي ..


(( كم قالت لي : أمنيتي أن أراكَ خارج دائرة الحصار التي خلِقْتَ بداخلها ..))
(( ستغنّي طويلا .. وستقدّم لي باقة من السنابل .. يغمرُها فرحٌ أخضر .. ويلتهبُ خدّاها .. وتنفذ نظراتها عبر أوردتي .. فأنتشي ..))
(( قِسط الجامعة أولا .. وبعده كلُّ شيءٍ تافهٌ ..))
كتَبَ أخي يقول :
(( لقد اقترضَ أبوكَ مبلغا من جارنا أبي محمود ، اشترى به بغلة هزيلة ، حَرَثَ عليها ثلاثة أيام بالأجر .. فماتت ..))
(( والآن يبحث عمّن يقرضه مبلغا آخر ليدفع نفقات علاج أمك .. إنها طريحة الفراش منذ أيام .. ولا أمل بشفائها قريبًا ..))
(( ضِيقٌ .. ألمٌ .. جوعٌ .. وزمنٌ كافر ..))
القوارضُ تفتت كبدي .. والوصفة تنتظر أربعين ليرة .. والمشافي باتت أضيقَ من أن تتسعَ مكانا لي داخل أسوارها .. في الحديقة .. في الممر .. في المطبخ .. في الحمام .. في ... ))
(( لو يشاهدونني أين أنام ، وعلى أي شي .. وكيف ؟؟ لاستكثروا علي مَكْمَنَ قذاراتهم ..))

 

تتآلفُ خيوطُ الصباح ونسماته مع العصافير .. فتنشد لها ألحانا هادئة وناعمة .. فأغفو .. ليوقظني رعدٌ ينبعث من فم العجوز .. تهدّدُ وتنذر .. أنهضُ مرغما .. وأمضي متواريا عنها .. يلاحقني صوتها بالشتائم والسِّباب ..
تسللتُ عبر طرقاتٍ متطرِّفة ومظلمة ، تتراكضُ فيها قططٌ وجرذان وهوامُّ أخرى ..
أحملُ الحقيبة ثقيلة .. تصبّبَ عرقٌ لزجٌ من جبهتي .. امتدّ لساني .. تجلدْتُ .. دفعتها أمامه بوجوم ، أفرغَها .. أحصاها .. ثم تأمّلها منضّدةً فوق بعضها .. اتجهَ إلي .. ضيّق عينيه ..
ابتسمْتُ له مُكرَها .. انفقأتْ عيناي بشواظٍ لاهبٍ يمتد عبر أجيال سحيقة .. ارتجفَ جسدي ألمًا .. توَضّعَتْ فيه عذاباتُ العالم .. ارتميْتُ على كرسي قريب .. انحنى على الكتب ، ثم استقامَ وخَطا إلى خزانة حديدية .. فتحَ بابَها الخارجي بمفتاحيْن مختلفيْن .. وفتحَ البابَ الداخلي بمفتاح آخر .. سحبتْ أصابعُه برشاقةٍ ، ورقتيْن .. عاد .. بسَطهُما أمامي على زجاج الطاولة المتسخ .. بانتْ أنيابُه وهو يقول :
" مبلغٌ محترمٌ .. أليس كذلك ؟؟ .. وتابع :
أهلا بكَ دوما .."
أجبْتُ بالصمت .. حملتُ الحقيبة فارغة ، وانسللتُ غيرَ آبهٍ ..


اشتريْت خضارًا وخبزًا ومعلباتٍ .. وتأملتُ الزجاجات المتنوعة في الواجهة المُضاءة .. هززتُ رأسي ، وبللتُ شفتيّ بطرف لساني ، وتحسّسْتُ موضعَ كبدي ، فيما توجّهْتُ إلى الصيدلية .. ضمَمْتُ الدواءَ إلى صدري .. أسكتُّ فمَ صاحبة البيت بجزءٍ من استحقاقها .. بدتْ عليها علائمُ اشمئزاز وقرفٍ .. بينما كانت تدسّها في كيس سحَبَتْهُ من صدرها ..
أقفلتُ بابَ غرفتي من الداخل .. استلقيْت .. أغمضْتُ عينيّ ..

(( كانت دومًا تحبُّ عينيَّ مغمضتيْن حين نستلقي معًا في الحقول .. تقطفُ زهورًا وسنابلَ .. تنثرها فوق وجهي .. ثم تلتقطها بفمها .. لتنثرها من جديد .. تلفحني أنفاسٌ متلاحقة .. تهمس .. تضحك .. ثم تستلقي بجانبي .. ونلتقي وجها لوجه ..))

أخذتُ الجرعة المحددة من الدواء .. بدقائقَ ارتفعت الحرارة في جسدي .. وتحشرجتْ أنفاسي .. ثم انقلبتْ إلى سعال جافٍّ هزّني بعنفٍ حتى تقيّأتُ ما بجوفي .. انتابتني قشعريرة مريرة .. ورافقها انقباضٌ في معدتي .. أحسسْتُ أن ثمة قوارضَ لا حصرَ لها تنهشُ في كبدي وتفتته .. انثنيْتُ على بعضي ..))
((دثريني ، ودعيني أرقدْ على صدرك ..))
تكوّرْتُ تحت اللحاف .. أمسكتُ بطرفه بين أسناني .. صار العالم قشة في فم طير جائع .. حلقتُ معه .. تسامَرْنا .. حكى لي أشياءَ كثيرة عن الوطن والحبيبة ، ثم بكى .. وتوارى عن عينيَّ ..
بللني عرقٌ باردٌ ، فنهضت .. خطوْتُ خطواتٍ قليلة .. تكالبت القوارضُ ، فنزفَ دمٌ من شفتي .. لذتُ بالدواء .. أخذتُ جرعة أخرى .. واستلقيْتُ على بطني .. ودفنْتُ وجهي في الوسادة المتحجّرة .. استعدْتُ آلامَ الكيّ ..
(( كان ذلك منذ سنواتٍ .. وكانت أمي هي التي تداوي أهلَ القرية بالكيِّ ، لكنها كانت أضعفَ من أن تحتملَ لسْعِي بفتيل ملتهبٍ في جسدي النحيل .. فأخذني أبي إلى امرأةٍ في قريةٍ مجاورةٍ .. صرختُ عاليًا قبل أن تقتربَ مني .. لكني غدوْتُ ذلك الحَمَلَ الوديع بين يديها ، حين لمحْتُ في وجه أبي ضِيقا وتفجُّعًا .. فرفعْتُ طرفَ ثوبي ، جمَعْتُه ، ووضعته بين فكيّ .. فانغرزتْ أسناني في طرفه .. فثقبَتْه ..
(( عيناكَ .. وصدرُها .. مقبرتان لآلامي ..))


تفتحَتْ أجفاني .. انتظرْتُ شتائمَ الصباح ..

(( أنسيتِ واجبكِ أيتها العجوز ؟؟ أم إن نشوة مبلغ الأمس ما تزال تسيطر عليكِ ؟؟ ))
طالَ انتظاري لشتائمها .. فغّفوْتُ ، لأستيقظَ من جديد على القوارض تمارس مهمتها ..
أسرعتُ إلى الدواء .. غسلت فمي بقطعة خبز مملحة ، ثم تقرفصْتُ .. استمعت إلى حفيف أوراق الدالية ..
(( قريب منها حفيف السنابل .. لكني وحيدٌ مع الألم ..))


تنفسْتُ بعمق .. استكانت القوارض .. نهضتُ .. مشيت بهدوء .. وصلتُ إلى الملاذ الوفي .. وجوهٌ نضِرةٌ .. وأجسادٌ لينةٌ تتثنّى .. أصواتٌ .. ضحكٌ .. نظراتٌ لهْفَى .. وشجرةٌ كبيرة وارفة تنتصب .. تعاني من هجر قاتل ..
استندتُ إلى جذعها .. ابتسمت لخيوط الشمس المتكسرة عبر أغصانها ..استحالت الابتسامة شهقة اقشعرّ لها جسدي .. ضمَمْتُ الكتبَ إلى صدري بقوة .. توتّرتْ أعصابي .. تكوّنتْ عند الأفق أغصانُ ليْلكٍ كثيفة .. ماجتِ الأغصانُ من فوقي بفعل هبّةٍ رقيقة ..استيقظتِ الشمسُ بعد رُقادها خلف غيمة داكنة .. فارتفعَتْ يدي تلوِّحُ لها بتلقائية .. لوَّحتْ بكلتا يديها .. تتمايلُ راقصةً .. فصفّقتُ بشدة .. وهاجتِ الأغصانُ .. انشدّتْ قدماي إلى الأرض .. امتلأتِ السماء بأسرابٍ من الحَمام والعصافير الملونة .. أمي تدنو مني .. تحتضنني ..أغفو على صدرها .. تقبّلني بحرارة ولهفة .. فأبكي .. أبتعدُ عنها .. أركضُ في حقول القمح .. يصدُّني هواءٌ شديدٌ .. أقاومُه ، وأسرعُ .. أتلفّتُ في كل مكان .. أجدُها تمسكُ بخروفٍ صغير يرضع من ثدْي أمه .. نستلقي .. أغمضُ عينيّ .. تغمرني بالأزاهير والسنابل .. أشدّها إلي .. نتعانق .. يتجمّعُ خلقٌ كثيرون حولنا .. تشتدّ ذراعاي حول جسدها .. تقسوان ، فتتأوّهُ .. ترمقني .. " كان في عينيْها اتّساعٌ غيرُ متناهٍ "
تعصفُ ريحٌ .. تقتلعنا .. تنقلنا بعيدًا عبر سهوبٍ جرداءَ قاحلة .. أفتحُ عينيّ .. كانت الشمسُ ما تزال ترقص .. وثمة جموعٌ تغني لمواسم البيادر والعصافير المهاجرة ..


05/نيسان/1978 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !