وصلتني هذه القطرة الآن من أخي المقرّب من جيجيكة و قد أسميتها -القطرة الأخيرة من نزيفها-
و السّبب ما قاله الأخ المقرّب منها و عليكم به يا أصدقائي .....
محتوى ما جاءني منه/
من فصل " الضيف الأبيض"
وملاحظة هذا الفصل قبل فصل " فيما يرى النائم" أي التشرد الدافئ في مركز الطفولة و بعدها التشرد البارد تحت الجسر .
و أحيطكم علما أصدقائي الأعزاء بأن هذا الفصل هو الأخير في المدونة و السبب أظن أنكم ستعرفونه.
أخوكم / المقرّب من جيجيكة .....
ها هو إسماعيل يعود من المدرسة و بيده دفتر النتائج. لقد تحصل على نتائج ممتازة. فرحت سامية بذلك و لكن الفرحة لم تدم طويلا، إذ أخبره ناصر بأنه سيحمله إلى مركز الطفولة المسعفة. لم يفهم إسماعيل ما يعني ذلك بالضبط ، و كانت سامية تشرح له بأنه مكان سيحصل فيه دوما على وجبة لذيذة، و سيشرب الحليب و يأكل الحلويات كل صباح؛ و سيتغطى بفراش دافئ. وضعت المرأة أمامه كل الخدمات المغرية. لكن الطفل أصر على كونه يفضل العسر في بيتهما من كل ذلك اليسر في بيت الطفولة المسعفة الموعودة.
وضع اسماعيل رأسه بين ركبتيه، و بكى بشدة ، من دون أن يرى ناصر دموعه. فما قيمة ذلك إن كان لا يشعر بأنها خرجت من قلب يتيم حزين؟ .
حاول إسكاته لكنه عبثا، و توقف عن ملاطفته فجأة حين رفع رأسه يقول :
- كنت أنتظر منك أن تقول لي سأحملك في نزهة.كنت أنتظر منك أن تبعثني إلى المخيم الصيفي. كنت أنتظر أن تأخذني إلى حديقة التسلية.
قام الطفل يترجى ناصر أحيانا و سامية أحيانا أخرى ، لكنه لم يفلح في تغيير رأيهما، و لم يوقف الدموع المنهمرة من العيون. أخذ محفظته و أفرغ أدواته يدوسها برجليه؛ و هو يتنهد و يقول:
- هل حصلت على نتائج ممتازة كي تكون الهدية أخذي إلى مركز للطفولة المسعفة. ؟.لقد حصل كل أصدقائي النجباء على هدايا ثمينة أما أنا فليس لي نصيب سوى في الحزن ؟.
أمسكته سامية من ذراع و ناصر من ذراع يبعدانه عن أدواته. أعادا الأدوات إلى المحفظة من دون أن يعيدا للصغير كرامته التي أحس بأنها طعنت في الصميم. لم يهدأ اسماعيل و قد كان يتفوه بكلام لم يتصور ناصر بأنه سيسمعه منه يوما ما. انفعل الطفل بشدة و غضب و هو يواجهه بأنه قد يتخلى عنه لأنه ليس ابنه ؛ فلو كان من صلبه لما فعل به هذا.
لقد تصرف الطّفل كما يجب أن يتصرف طفل مصدوم. زادت صدمته عمقا حين جمعت سامية أغراضه. كانت تجمعها من دون أن تتمكن من جمع دموعها. جمعت أدواته المدرسية من دون أن تجمع مشاعرها المضطربة.
غادر البيت بعدما عانقته طويلا و بكت كثيرا؛ و هو يواجه سامية بكونها لم تنجب أطفالا لأنه كان في حضانتها. لقد فعلت كما فعلت البجعة إذ توقفت عن وضع البيض من أجل حضانة صغارها. لكن العصفورة كانت أفضل منها في رعايتها لصغارها؛ لأنها لم ترم بهم خارج عشها، و ظلت تطعمهم من صدرها. أما سامية فتتخلى عنه لأنها لم ترضعه من صدرها. هكذا اقتنع اسماعيل أخيرا بالقصة.
فهمت سامية في تلك اللحظة ما كان يقصده الصبي يوم بادرها بسؤاله عن سبب توقف البجعة عن وضع البيض. فهمت بأنه كان مسرورا لأنه أسقط وضع البطة على وضعها هي فانتهى إلى خلاصة مفادها أن سامية أيضا لن تنجب أطفالا ينافسونه لأنه لازال في حضانتها.
أجهشت المرأة بالبكاء و ضمته إلى صدرها تمسح دموعه و دموعها و هي تقول:
- عندما تكبر ستعرف بأنني أطعمتك من صدري !.
غادر اسماعيل المكان و كان يسير و يلتفت إلى الوراء ليرى بيت ناصر يبتعد عن بصره شيئا فشيئا. لقد بدت حاله كحال حمل فُصل عن أمه قبل الأوان. كان ناصر يسير معه مدفوعا بيد قدر قاهر. وصل إلى مركز الطفولة المسعفة. وجد الكثير من الأطفال أنداده ، فاصطحبته العاملة إلى غرفته. و بعدها تركته مع ناصر الذي لم يستطع مفارقته. كان السرير مفروشا و قد وضع عليه غطاء قطني جميل. لصقت على الجدران صور الطيور. و وضعت على الطاولة لعب منها الدببة البنية.
لم يكن كل ذلك ليفرح اسماعيل الذي بادر لناصر قائلا :
- إياك و أن تفكر بأن هذا ينسيني دفء العائلة. سأظل في انتظار اليوم الذي ستأتي فيه لتعيدني إلى المنزل بشكل نهائي. و اعلم بأني لن أسامحك على ما فعلت.
لن يسامح اسماعيل ناصر ؛ و كذلك أولئك الذين كانوا ينافقون كلما رأوه في المسجد فيقولون عنه أن هو جيل المستقبل المثالي. لكن عندما غاب عن الصلاة معهم في الصف بسبب المرض لم يسأل أحد منهم عنه. و لم يسأل ماذا حل بجيل المستقبل...
حاول ناصر أن يعتذر لكنه في الأصل ليس مطالبا بذلك. حاول أن يشرح للصغير مخبرا إياه بأنه حين يكبر سيفهم بأنه فعل ذلك من أجل مصلحته.لم يقتنع اسماعيل بما سمع . ربما لأن الوقت لازال مبكرا كي يفهم مأساة بذلك الحجم.
انصرف الرجل و هو يلتفت إلى الوراء. وصل إلى نصف الطريق فعاد مجددا إلى الصغير الذي رآه فاتجه نحوه فرحا و هو يقول :
- كنت متأكدا بأنك ستعود لإرجاعي إلى البيت.
تسلق اسماعيل على كتف ناصر و هو واثق بأنه سيعود معه إلى المنزل. لكن الرجل اعتذر مجددا لأنه عاد فقط من أجل أن يلقي عليه نظرة أخيرة.
بكى اسماعيل لسماعه ذلك. أتراه لكونه لن يأخذه معه إلى البيت؟. أم لسماعه كلمة نظرة أخيرة؟.
رافق ناصر إلى الباب الرئيسي و عاد بسرعة خاطفة حين أخبره بأنه لن يأتي لزيارته مجددا. لن يفعل ذلك لكونه لا يقدر على خدش جروحه. لا يود أن يحيي في كل وقت تلك الفاجعة. لا يرغب في أن يلتقي به و كل مرة يفترقان كأنهما يفترقان لأول مرة.
كان اسماعيل يبكي بكاء ليس كبكاء الأطفال، و كانت سامية تبكي بكاء ازدادت حدته لما رأت ناصر قد عاد و ليس معه الصغير. اندفعت نحوه تسأله. فأكد له أنه في المركز سيعتنون به. عاتبته على ذلك و صرخت في وجهه . لكأنه خطفه من دون أن تدري. كانت تصفع خديها من شدة الألم و أحيانا تضرب جبينها ضد الجدار. حاول الرجل أن يوقفها عن ذلك لكن عبثا.
أحست بأنه لابد من النحيب في زمن يرمى الأطفال فيه بمراكز الطّفولة المسعفة لكأن أمة محمد " صلى الله عليه و سلم" لم يبق منها إنسان.
حدقت في وجه زوجها بطريقة ألقت عليه عتابا كبيرا. ذلك العتاب الذي لم تتوان في الإعلان عن مضمونه، و قد تراوحت نظراتها بين الاحتقار حينا و بين اللوم حينا آخر و هي تقول له :
- لو أنك فكرت من قبل في بيع الرمانة المقدسة لما حل بنا ما حل اليوم.
تشاجرت سامية مع ناصر شجارا عنيفا و لامته على كونه احتفظ بالرمانة المقدسة، و لم يفكر في بيعها من أجل تحسين أحوال العائلة.
انتهى هذا العتاب إلى مسامع حسام الذي كان بالقرب من البيت يسترق السمع و هو يتحين الفرصة لاقتحام المنزل و سرقة الرمانة عملا بوصية فأس الدين. و بالفعل نجح حسام من التسلل و العثور على الرمانة بدون أي عناء. لقد وجدها بسهولة استدعت منه الدهشة. سرق و غادر البيت و هو يسمع سامية تخبر زوجها بأن ما فعلاه بإسماعيل يتزعزع له عرش الرحمن. عاتبته لأنه لم يفكر في عرض الرمانة للبيع، لقد أشعرت هذه العبارات حسام بالطمأنينة و الفرحة و الانتصار لكونه قام بسرقة الرمانة قبل أن تحل بأيادي أخرى.
قضى الاثنان الليل آرقين و كان ناصر يستحضر صورة اسماعيل و هو يحتج على الذهاب. أسند رأسه إلى الجدار و السماء لم تتوقف عن المطر لكأن حقا عرش الرحمان قد ارتعد لما جرى، و في داخله يتمنى أن يقبل طوفان على الدنيا فيغرقها بآثامها و حسناتها.
خفت حدة بكاء سامية حين وقعت تحت تأثير الحزن العميق. شعرت بالذنب كونها دائما كانت تذكر الطفل بأن اسمه كاسم النبي إسماعيل الذي فداه الله بالكبش منقذا إياه من الذبح، و كذلك كف ناصر عن البكاء حين أصيب بصدمة سببها له اختفاء الرمانة المزيفة. لم يكن ذلك راجعا لكون الرمانة المزيفة تمتلك أية قيمة مادية أو معنوية؛ بل راجع لكونها ستكون سببا في توهم الناس بأنها هي تلك الفاكهة المقدسة. عرف ناصر بأن فأس الدين لجأ لمثل هذه الخطة كي يوقع بالناس فيجعلهم لا يفرقون بين المزيف و الأصلي.
التعليقات (0)