ما ان أُعلن عن تحديد يوم 25 نونبر 2011 موعدا للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، بعد عاصفة الدستور الجديد الذي غير المسار الطبيعي للمؤسسات المنتخبة، حتى بدأت حركة غير طبيعية داخل جسم الاحزاب السياسية التي اشتدت منافستها في البحث عن خارطة طريق سليمة توصلها الى شاطئ آمان البرلمان.
إلا أن حزب التجمع الوطني للأحرار بدا له الامر غير مقبول، حين أدرك، بعد حين، أن التاريخ المعلن ليس موعدا مناسبا يمكن الحزب من لقاء محتمل مع طموحاته المشروعة، فأمينه العام يحمل حقيبة الاقتصاد والمالية و سيكون حينها منشغلا بإعداد مشروع قانون المالية قبل أن يحيله على البرلمان، في أجل اقصاه 20 اكتوبر، حيث ستتطلب مناقشته شهرا كاملا.
ولهذا، وبعد فشل الخطوة الاستباقية للتحالف، التي عبر عنها بلاغ الاحزاب الاربعة: التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الدستوري و الاصالة والمعاصرة و الحركة الشعبية، في اقناع الداخلية بتنظيم انتخابات في تاريخ اقصاه نهاية شهر اكتوبر، كان لابد أن يصدر بيان مفاجأ على لسان الحزب الذي اضطره مخاض سياسي صعب، عاشه المغرب في سبعينيات القرن الماضي، إلى الخروج الى الحياة، حاملا، بعد ميلاده القسري، إسم التجمع الوطني للأحرار.
وأمام هذه المفاجأة غير السارة لصلاح الدين مزوار، فقد كان متوقعا أن يلجأ مكتبه التنفيذي إلى لغة الخشب، المتراكم هذه الايام في الدكاكين السياسية، ويصيغ بيانا يعبر من خلاله عن رفضه القاطع لتاريخ الانتخابات المعلن، "وفاء لمسؤوليته وانسجاما مع تطلعاته لتطبيق جيد للدستور الجديد ، الذي حظي بموافقة ومباركة جل المغاربة" ، واصفا "المنهجية، التي تم الاشتغال بها لتدبير المرحلة، لم تحترم ما يقتضيه بناء التوافق على الاحزاب السياسية".
يملك حزب الحمامة الحق الكامل في الاحتجاج على أي توقيت يراه لا يخدم مصالح حزبه الطامح والطامع في انتزاع مقاعد في البرلمان، ولربما رئاسة الحكومة بنفسها، لكن عليه أن يدرك أن الرأي العام لم يعد يثق نهائيا بتصريحات من هذا القبيل، خصوصا تلك القادمة من حزب لم ينبس ببنت شفة حين سجلت خروقات واضحة و فاضحة في منهجية التصويت على الدستور.
وطبيعي أن يناى هذا الاخير بنفسه عن أي نقد أو ملاحظة بهذا الخصوص، فالجميع يعلم أن حزب الاحرار لم يكن، في الحقيقة، ولايزال، سوى حزبا إداريا أسسه محمد عصمان، بعد استشارة الملك الراحل ، وذلك رغبة في ملء فراغ سياسي، يخشاه المخزن، كان من شأنه أن يسمح بتنامي المد المعارض للنظام، و الذي كان صوته، حينها، يقض مضجع الراحل الحسن الثاني.
لقد عمل حزب التجمع الوطني للأحرار، كباقي أحزاب الإدارة الأخرى التي تتزاحم داخل المشهد السياسي بالمغرب اليوم، ومنها من تقف وراء تشكيل هذا القطب السياسي الجديد بغرض الضغط من أجل تحديد وقت يلائم مطامعها الانتخابية، على تشويه اللعبة السياسية طيلة عقود خلت من موقع التصدي بالوكالة إلى محاولات قوى المعارضة الحية في تحقيق مزيد من الاصلاحات الدستورية وتوسيع دائرة الاصلاحات السياسية، و ساهمت ، متكئة على ترسانة الوسائل الهائلة التي وفرتها لها الداخلية ، في تصريف خطاب المخزن من خلال قنواتها الحزبية.
تريد هذه الاطارات "المطاطية" أن تقنعنا بأنها تسعى الى الدفاع عن مغرب الديمقراطية، وهي التي لم تكل ولم تمل من التطبيل لكل السياسات اللاديمقراطية التي انتُهجت في وجودها داخل الحكومات المتعاقبة، و التي آتت على مصالح الشعب وجعلته يقاوم في صمت مخططات التهميش والتفقير التي لازال يئن تحت وطأتها الى اليوم.
ولعل المثير للاستغراب، ونحن نتابع هذا المشهد الجديد ، هو هذا الدور الذي تكفل التجمع الوطني للأحرار بلعبه، حيث قرر أن يلقي بطوق النجاة لحزب الاصالة والمعاصرة، المهدد بالغرق تحت سيول النقد والاتهامات التي تلاحقه ، و الذي أراد له العهد الجديد أن يلعب دور المرحلة في وقف مد تسونامي الإسلاميين.
لو كان حزب التجمع الوطني للأحرار يحترم تطلعات الشعب المغربي، كما يدعي، لما بادر إلى تشكيل قطب، متجمد أصلا من شدة برودة المناخ السياسي، يمنح لحزب الاصالة والمعاصرة بداخله موقعا، يستجمع من خلاله أنفاسه، بعد كل الضربات القاسية التي تلقاها و التي أجبرت زعيمه، محمد عالي الهمة، صديق الملك، على الاختفاء، فجأة، خلف الستار.
أبى القدر، إذن، إلا أن يكشف عن سخريته، من جديد، حتى رأينا حزبا إداريا، خرج من رحم المخزن ورضع حليبه حتى ارتوى واشتد عوده ، يتجرأ على الحديث بلغة الضِد محاولا كسر عصا الطاعة التي كانت تُلوح بها وزارة الداخلية في وجه قطيع حزبي لم يكن ليعصي لها أمرا.
اليوم، يريد الحزب الاداري بامتياز أن يوهم الناس بطلاق مع ماضيه و مغادرة مؤقتة ــ حتما بعد استئذان ــ لبيت الطاعة، وأنه لم يعد ملزما بطاعة أُمٍ لم تعُد، على ما يبدو، تتمتع بالسلطات القوية التي ما فتئت تُخضع بها الاحزاب السياسية الاشد معارضة.
فعندما يتحدث هذا الحزب المخزني على أن "المنهجية التي تم الاشتغال بها لتدبير المرحلة لم تحترم ما يقتضيه بناء التوافق" نجد أنفسنا أمام حالة انفصام حاد في شخصية هذا الحزب السياسي الذي كان طيلة العقود الطويلة لا يملك برنامجا آخر سوى الحضور للتصفيق لمخططات المخزن وسياساته التي لم تكن يوما تصب في مصلحة الشعب.
فلماذا، يا تُرى، لم يتجرأ على استعمال المفردات نفسها إزاء مشروع الدستور ويعتبر المنهجية التي تم الاشتغال بها لم تحترم ما يقتضيه بناء التوافق الوطني ؟ّ! بل أنه، وعلى العكس تماما، فقد سارع حزب الحمامة الى التحليق بعيدا للترويج لمشروع الدستور في حملة كان الهدف منها دفع الناس إلى التصويت بنعم على دستور، بصرف النظر عن مضامينه، لم يحترم مبدأ التوافق الذي تتطلبه أسمى وثيقة في الحكم.
لهذا كله، وبالرغم من الأمل الكبير الذي نعلقه على مرحلة ما بعد 20 فبراير، فمن المستبعد جدا أن تتحرك سفينة الفعل الحزبي في اتجاه مرفأ الممارسة السياسية الآمن، في وجود قطب سياسي لأحزاب ادارية تشكل بالفعل حجر عثرة في مسار التغيير الحقيقي بالمغرب.
التعليقات (0)