مواضيع اليوم

القطب السياسي القادم

محمد سرتي

2010-06-21 17:19:06

0


درج الفقهاء على تعريف القانون الدولي بأنه ذلك النوع من القواعد القانونية التي تحكم وتنظم العلاقات الخارجية بين الدول والحكومات، فهو لا يتدخل في الخصوصيات الداخلية للدول ولا يعني بالعلاقة بين الحكومة ومواطنيها باعتبارها إحدى مكونات وعناصر السيادة الوطنية للدولة. وبناء عليه تكون الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية هي فقط أطراف القانون الدولي، ولا يحق للأفراد اللجوء أو التقاضي لديه فيما ينشأ بينهم من نزاع. ومن ذلك نستطيع القول بأن التعاريف القديمة للقانون الدولي تحصر نطاقه في المجال السياسي، وهو الأمر الذي تغير مع الوقت حتى باتت تلك التعاريف لا تعبر بدقة عن طبيعة هذا القانون في الوقت الحاضر.
فمع بداية عصر النهضة الأوروبية وتحديدا بعد حرب الثلاثين عاما التي نشبت بين الكنيسة الكاثوليكية والخارجين عليها من أتباع مارتن لوثر (1618- 1648) بدأ القانون الدولي يتبنى نوعا جديدا من القواعد التي تتجاوز حدود العلاقات الخارجية بين الدول إلى التدخل في العلاقة بين الحكومة ورعاياها، وتمثلت بداية فيما يعرف بمعاهدة وستفاليا التي فرضت على الحكومات منح الحرية الدينية والفكرية الكاملة لرعاياها وعدم التدخل بتاتاً في تحديد نوع الديانة التي ينبغي على الأفراد اعتناقها أو الكفر بها. ومنذ ذلك التاريخ والقانون الدولي ما فتئ يتبنى بشكل مطرد المزيد من القواعد والمبادئ القانونية التي كانت في السابق تصنف ضمن الخصوصيات السيادية للحكومة الوطنية.
إن هذا النوع من القواعد القانونية التي تتداخل فيها الطبيعتين الداخلية والدولية ليس من شأنه فقط تجريد الحكومات من صلاحياتها التشريعية والإدارية داخل حدودها الوطنية، بل ويجرد الشعوب نفسها من حقها في تقرير مصيرها متى ما تعارض هذا المصير مع إرادة القانون الدولي، بصرف النظر عن عدالة هذه الإرادة أو حتى حياديتها.
لقد أدى هذا الوضع لنشوب العديد من الحروب والكوارث العسكرية التي كانت تقف خلفها تلك القواعد القانونية ذات الطبيعتين، والتي تشرع لمجلس الأمن احتلال الدول وإسقاط الحكومات بحجة عدم مراعاتها لقواعد القانون الدولي في تعاملها مع رعاياها، وقد اتخذت تلك الحروب لنفسها العديد من المسميات، فتارة تتذرع بنشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، وتارة تشن باسم الحفاظ على توازن القوى، أو الدفاع عن الحكومات الشرعية ضد الثورات والانقلابات الشعبية، أو باسم الأمن الجماعي، أو الدفاع عن حقوق الأقليات وما إلى ذلك.
ولكن الأمر الذي لم يعد خافيا هو أن تلك الحروب أصبحت تشكل قدرا من التهديد للأمن والسلم العالميين والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان إلى حد ليس بمقدور العالم احتماله، ابتداء من الحرب الكورية وانتهاء باحتلال العراق وربما عما قريب إيران وسوريا والسودان والصومال ولبنان واليمن وكوريا الشمالية إلخ...، وهو أمر ينم عن ضعف شديد (وربما متعمد) ليس فقط في مسالة تفسير نصوص تلك القوانين من قبل السلطة التشريعية للمنظمة الدولية، بل أيضا في توفر واكتمال القواعد الإجرائية الخاصة بتنفيذها لدى الأمم المتحدة.
لقد ساهم ظهور المنظمات الدولية متعددة الأطراف؛ والمتمثلة في عصبة الأمم قديما وهيئة الأمم المتحدة حديثا؛ في إضافة المزيد من الإنهاك لمصداقية القانون الدولي، فبعد أن كان هذا القانون محصورا في الأعراف والمواثيق الدولية التي تنظم العلاقات الثنائية بين الدول بطريق التراضي والقبول النابع من الإرادة الذاتية للدول الأطراف، أصبح في ظل المنظمات متعددة الأطراف أكثر بعدا عن هذا التراضي والقبول وأكثر ميلا للتطبيق القسري الإجباري الذي يشبه في فكرته العامة تطبيق القوانين الداخلية من قبل السلطات التنفيذية الوطنية للدول، وهو ما جعل تلك المنظمات الدولية تأخذ طابع الحكومة العالمية لتضيف إلى مفهوم القانون الدولي عناصر جديدة لم يشهدها في السابق، ومن خلال تلك المنظمات أصبح للعالم حكومة استبدادية محددة تستطيع سن القوانين والتشريعات الدولية وإصدار القرارات وتنفيذها بمعزل عن بقية دول العالم ودون الحاجة لأخذ الموافقة والحصول على الرضى من قبل الدول الأعضاء في تلك المنظمات، ليصبح القانون الدولي؛ بعد الحرب العالمية الأولى؛ ولأول مرة في تاريخه؛ غير خاضع للإرادة الذاتية من قبل الدول الأطراف فيه، وهي الثورة القانونية التي غيرت شكل العالم.
سجلت هذه الثورة فشلا ذريعا في جولتها الأولى المتمثلة بعصبة الأمم حيث لم يكن من السهل حمل الدول ذات السيادة على الخضوع لقانون دولي غير نابع من إرادتها الذاتية بل ربما يتعارض تماما مع مصالحها القومية؛ إن مصدره الوحيد قرارات العصبة الصادرة من حكومتها الاستبدادية المتمثلة في الدول دائمة العضوية في مجلس العصبة؛ والتي لم تكن قراراتها تنبع من مسئوليتها الدولية بقدر ميلها لترجيح مصالحها الوطنية الخاصة على حساب الدول الأخرى.
وقد أدى فشل العصبة بطريقة من الطرق لقيام الحرب العالمية الثانية التي ما لبثت أن تنتهي حتى انطلقت الجولة الثانية من ثورة القانون الدولي على شكل هيئة الأمم المتحدة وهي ليست في العموم سوى تكرار حرفي لتجربة عصبة الأمم في جميع عناصرها تقريبا مع القليل من الفوارق الوقتية التي ساهمت في صمود تجربة الأمم المتحدة لمدة أطول من سالفتها.
ولكن ما هي فرصة الأمم المتحدة لتحقيق النجاح الذي فشلت في تحقيقه عصبة الأمم؟ أو بمعنى آخر: هل باستطاعة الهيئة الدولية أن تحافظ على بقائها واستمرارها أم أنها مسالة وقت حتى تتلاشى تماما من الوجود لنفس الأسباب التي أدت لانهيار العصبة؟

إن القيمة القانونية للأعراف والمعاهدات الثنائية والمواثيق الدولية ما فتئت تتقلص بشكل مطرد لتحل محلها القرارات الصادرة عن مجلس الأمن وخصوصا تلك التي تقف وراءها المصالح الوطنية الخاصة بالدول دائمة العضوية، إن سيادة القرارات الاستبدادية الصادرة عن حكومة العالم بشكل تفردي ودون الأخذ في الاعتبار لمسألة التراضي والقبول من جانب بقية الدول الأعضاء أصبح أمراً واقعاً لا مفر من التعايش معه خصوصا في ظل النظام السياسي العالمي المعاصر، نظام القطب الواحد. وهذا النوع من التعايش القسري المفروض على العالم بفضل القوة العسكرية الخرافية لهذا القطب الواحد قد أدى لتحول دول العالم إلى ما يشبه الولايات الكونفيدرالية التابعة سياسيا لحكومة مركزية استبدادية تمتلك وحدها حق صنع القرار السياسي العالمي، بل والتحكم أيضا في الهيكلية القانونية للدساتير الداخلية في تلك الدول أو الولايات، وهذا الوضع هو ما يطلقون عليه اصطلاحا "العولمة"، والتي يمكن تعريفها من خلال هذا السياق بأنها عملية الإلغاء المطرد للحدود القومية والجغرافية والسياسية للدول والمصادرة المتنامية لسياداتها الوطنية ودفعها للمزيد من الاندماج في وحدة كونية تحت سيادة الحكومة العالمية المركزية.
ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يكتب له النجاح في ظل مصادرة القرار السياسي لتلك الحكومة المركزية من قبل دولة واحدة أو قطب سياسي واحد له مصالحه القومية الخاصة التي يسعى لتحقيقها برغم تعارضها وتضاربها الواضح مع بقية دول العالم، إلا في حال بقاء الحالة الراهنة من توازن القوى العالمي كما هي عليه إلى الأبد.

ترى ما هي احتمالية استمرار هذه الحالة إلى الأبد، في مقابل احتمالية ظهور قطب سياسي آخر قادر على هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً، أي على مصادرة قرارها السياسي (ربما من الداخل)؟؟؟
وهل بالضرورة يكون هذا القطب "السوبرمان" دولة ذات حدود جغرافية، أو منظمة إقليمية، أم ربما تنظيماً سياسياً ذا أجندة سرية؟
بل وهل من الممكن أن يكون مجرد حركة فكرية ثقافية تملك من القدرة التنظيرية ما يخولها لسحب البساط الانتخابي (التأييد الشعبي) من تحت سادة البيت الأبيض؟؟؟؟

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات