القضية الفلسطينية بعد مصر الثورة وسيناريوهات المرحلة المقبلة |
كتب د. رمضان عمر | |
15/08/2012 | |
"قاوم" خاص - أثبت المزاج الثوري الجامع بين ألوان متعددة من الطيف المصري أن شعار التغيير لا يلتفت كثيرًا إلى الهويات الحزبية والأيدلوجية، وإنما يرتقي ارتقاء مشرفًا إلى الهدف السامي المنقوش بدماء الشهداء "نريد مصر قائدة ومستقلة ومؤثرة في محيطها. مصر الجديدة التي تحمي أمنها القومي ولا تحرص على بناء جدار الذل لحصار أبناء فلسطين من جيوب فقراء الصعيد لرفاهية أبناء القردة والخنازير".
————————-
مثلت مصر -منذ عهد السادات، حتى بدايات ثورة 25 يناير الأخيرة- بوابة العبور الرسمية للسياسات الأمريكية في (الشرق الأوسط ) وقضية فلسطين على وجه الخصوص.
ويمكننا التأريخ الفعلي لنقطة الانطلاق للسياسية الأمريكية في الشرق الأوسط بعام 1967، حينما بدا أن انتصار (إسرائيل) على أعدائها مجتمعين "يكفل لـ(واشنطن) فرصة للمضي بقوة من أجل حل نهائي للنزاع الذي كان قد تعقد خلال عدة عقود، والذي هدد في النهاية بتقويض مركز الولايات المتحدة في الشرق الأوسط([1]).
مصر والقضية الفلسطينية - لمحة تاريخية:
دخلت مصر في مارثون السلام الأمريكي لتخرج من عباءة الأمة العربية ([2])، بل وتجر بعد فترة محيطها الإسلامي في بحر الهزيمة، وديجور التبعية، ومستنقع السلام العفن.
وقد كان لذلك السلام الذي دشنته مصر في (كامب ديفد) تبعات وخيمة على القضية الفلسطينية أدت الى ما أدت إليه من واقع مرعب، لن أدخل في تفصيل أجزائه، غير أنه واقع أقل ما يقال فيه: إنه واقع انهزامي هزيل، جعل القضية منوطة بمشاريع التهويد والتفريط، ونزع من الشعب حقه في تقرير مصيره، ونيل حقوقه، وجعل الوصاية في رحل الأمريكان والغرب، لقد ساهمت مصر عبر ثلاثين سنة هي عمر النظام السابق بقيادة المخلوع حسني مبارك في تذويب هذه القضية، وسلخها عن محيطها سلخًا جعل الآخر المحتل ينفرد فيها انفراد الأسد بالثور الأبيض في قصة الثيران الثلاثة.
مصر ما بعد الثورة:
لعلي أسارع إلى القول بأن معيارية النجاح المنشود في الانعتاق الفعلي لمصر من عقالها، وتبوئها مكانة مرموقة تليق بها هو ذلك الجانب الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على تحمل مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، وتصويب المسار الهزيل الذي اخترق المنطقة كلها، وأحدث انهيارات جسيمة مزقت الخرائط السياسية في المنطقة، وقلبت الموازين وغيرت منظومات القيم؛ فمصر التي ارتبطت سياسيًا بمثلث هجين-في عهد مبارك- مثلت هي والأردن وبعض دول الخليج العربي إحدى زواياه، بينما مثلت كل من (أمريكا) و(إسرائيل) زاويتيه المتبقيتين؛ مطالبة –اليوم- بتغيير جذري لزوايا المعادلة السياسية في المنطقة، وإعادة رسم الخريطة السياسية وفق معطيات الثورة الجديدة.
ولعلي أسارع إلى القول-أيضًا- من نحو آخر بأن الحراك الثوري في مصر وغيرها من دول العالم العربي له علاقة مباشرة برفض ذلك التعاقد السياسي المفروض من خلال هيمنة (أمريكا) على المنطقة، ورفض شروطها ضمن استراتيجية ما يسمى بـ(السلام العادل و الشامل) ؛ ذلك السلام الذي لم يتحقق منه إلا مفردات التطبيع والاستيطان، وتمزيق الشعوب، وتجريم المقاومة وعزل القضية وتحويلها إلى سلعة رخيصة في مزادات الإعلام الإقليمي والدولي.
نعم، انتصرت الثورة في مصر، وهي تعلم أن ألغامًا داخلية وخارجية لا بد أن تزال، وجدر عربية وغربية لا بد أن تنسف، لتبدأ مرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي، والبناء الحضاري المنشود، وعلى رأس تلك الألغام والمعوقات طبيعة العلاقات الثنائية بين مصر وغيرها من الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا والكيان الصهيوني.
وعند استحضار واقع الحالة الثورية في مصر؛ فإن إصرار المؤسسة العسكرية -الذراع القوي المتبقي من أذرع النظام البائد- على الانفراد بأهم مقومات الدولة وعلى رأسها الجيش والمال والأمن والقضاء يدلل على أن المعركة الحقيقية في مصر هي معركة الاستقلال من الهيمنة الغربية التي كبلتها بمعادلات أمنية على رأسها اتفاقات السلام المتعلقة بالقضية الفلسطينية جملة وتفصيلًا.
ومن هنا، فإننا سنسارع إلى القول بأن مصر الجديدة لا يمكن لها أن تغفل المسار الفلسطيني أو تتناساه؛ لأنه مسار محوري في موضوع استقلالها الجوهري، صحيح أن المعيقات حقيقية وجادة وعظيمة، إلا أن التغلب عليها وتطويعها وتذليلها يعد هدفًا أساسيًا لمشروع ما بعد الثورة، فإذا كانت الثورة في خطواتها الأولى قد سارت ضمن جدلية صراع شعب ضد ظالم حكم فاستبد، فإن مرحلة البناء في الفكر الثوري ستبدأ من خلال تحقيق استقلالية الوطن من المكبلات الخارجية التي فرضها المهيمن على هذا البلد المركزي فقزمه وعزله وجعله ذيلًا من أذياله، فلا قيمة إذن لمصر دون أن تتحرر من هذه التبعية فتصبح قادرة على اتخاذ قرارات سيادية ذات بعد استراتيجي، وهنا يتجلى السؤال الجوهري: هل قضية مصر من خلال تحولها السياسي قضية تطرح ضمن سؤال زمن الأخوان أم ضمن سؤال زمن الاستقلال؟ وهل التحول الثوري في مصر يقع ضمن استراتيجيات التحول النهضوي أم أنه مجرد انتقال فكري بين زمنين؛ فكر ليبرالي مثله مبارك ومن سبقوه إلى فكر إسلامي تمثله (دولة المرشد) كما يحلو لمناهضي الثورة أن يسموها؟ ثم هل التحول الديمقراطي في مصر يمثل انطلاقة لمشروع عربي منافس ومغاير وفعال أم أنه تحول فكري خالص نحو قاعدة تبدل المواقع والأفكار؟
أثبت المزاج الثوري الجامع بين ألوان متعددة من الطيف المصري أن شعار التغيير لا يلتفت كثيرًا إلى الهويات الحزبية والأيدلوجية، وإنما يرتقي ارتقاء مشرفًا إلى الهدف السامي المنقوش بدماء الشهداء "نريد مصر قائدة ومستقلة ومؤثرة في محيطها. مصر الجديدة التي تحمي أمنها القومي ولا تحرص على بناء جدار الذل لحصار أبناء فلسطين من جيوب فقراء الصعيد لرفاهية أبناء القردة والخنازير".
ثم إن الطموح الثوري المتشكل من هذا النسيج الوطني الواعي يدرك أن حصاد الثورة يبدأ عند أعتاب النهضة ليتسلق سلم الحضارة من خلال الارتقاء بمصر لتصبح دولة قوية فاعلة قادرة على لعب دور سياسي متميز؛ فمصر ليست أقل شأوًا من تركيا أو إيران اللتين تسعيان لملء الفراغ السياسي الذي أحدثته سياسة التهميش الأمريكية في المنطقة.
هذه المعادلة النوعية في تشكيل الرؤية الفكرية لمشروع الحكم -فيما بعد الثورة- يجعل موضوع الانجازات الأساسية والحاسمة -تجاه القضية الفلسطينية- منوطة بمشروع إرادي فاعل ناتج عن موقعية مصرية متقدمة ومتميزة تستطيع أن تتحول من دولة معادية لمشروع التحرر الوطني الفلسطيني، إلى مشروع دولة حامية لحقوق هذا الشعب المحتل، أي أن المنتظر أن يتحول ملف القضية الفلسطينية من يد المخابرات المصرية التابعة للمخابرات الأمريكية والمنسقة مع الموساد صهيوني في محاربة ما يسمى بالإرهاب، إلى المؤسسة السياسية الباحثة عن مستوى يليق بمصر ومكانتها.
النظام السياسي الجديد في مصر يعي واجباته تجاه القضية جيدًا، ومن العيب أن نتصور أن رؤيته السياسية تنحصر في مزاجيته المتوقعة للميل نحو طرف دون آخر في موضوع كالمصالحة مثلًا، ذلك أن نظامًا يطمح أن يكون فاعلًا في منطقة تتناوشها المشاريع الكبرى لا يعقل أن يتقزم في نظرته إلى القضية الفلسطينية فيدخلها من هذا الباب الضيق، قد ينشغل في موضوع المصالحة ويدفع باتجاه تطبيق شروطها لكنه سينشغل أكثر في الملفات الحاسمة، ويعيد ترتيب أوراقه ويأتي مستقبلًا بما يناسب مكانته، ولا يعني هذا أنه سيسارع في التنصل من الاتفاقيات الدولية؛ لأن العمل الاستراتيجي الفاعل لا يخضع لقانون النسف والهدم، وإنما يبدأ بمنطق سيادة القانون وترتيب الوضع الداخلي ثم النظر في مجمل العلاقات عبر معيار المصلحة، والمصلحة –هنا- لا تحددها إلا مؤسسات مستقلة وموثوقة لا تقبل بالهزيمة والانزلاق.
إذن، هناك معركة جديدة سيخوضها النظام الناشئ تهيئ مصر لبناء نهضوي جديد، تمثل الفصل الثاني من فصول الاستقلال وهي معركة جوهرية لأنها معركة استقلال مؤسسات الدولة وتحريرها من قبضة العسكر الذين هم بالفعل ذيل المشروع الأمريكي أو يده الضاربة. وحينما ينتصر النظام الجديد على المؤسسة الفاشية المرتهنة سياسيًا بالغرب وهنا أقصد المجلس العسكري تحديدًا ولا أقصد العسكر على وجه العموم، هنا فقط تكون القضية الفلسطينية قد حققت أهم إنجاز لها بعد الثورة، وهو إنجاز يليق بمكانة مصر.
القضية الفلسطينية ليست فتح وحماس والمصالحة، وإن كانت هذه الملفات بحد ذاتها تمثل سيناريو الخريطة السياسية للدور المصري؛ أعني أن الخلاف الفلسطيني الفلسطيني ليس خلاف مصالح كما يشخصه البعض، بل هو خلاف مبادئ واستراتيجيات؛ خلاف بين قوى تابعة لمنظومة قيم غربية تريد فرض هيمنة وتصفية القضية، وقوى أخرى تمثل المشروع الوطني المقاوم، المصر على الثوابت، الرافض لكل أفكار التجزئة والتنازل والتهويد.
مصر واتفاقات السلام مع الجانب الصهيوني:
لا شك أن الجانب الصهيوني هو المستفيد الوحيد من هذه الاتفاقات، والمعني بترسيخها وإطالة أمدها إلى حد الديمومة، وهو يعلم أن ما حققه عبر ثلاثين سنة من اختراقات نوعية على المستوى العسكري والأمني والاقتصادي والسياسي ما كان ليتحقق لولا هذه الاتفاقات، وإذا كانت الثورة قد باغتته وكادت أن تقلب كافة المعايير المتفق عليها إلا أن الضامن الوحيد لديه في الحفاظ على هذه المنجزات النوعية يتمثل في إفشال هذه الثورة، وعدم تمكين المؤسسات المصرية من نيل استقلالها الفعلي، وهذه هي معركته الحقيقية مع دولة ما بعد الثورة، من خلال أدوات الضغط الفعلي المتمثلة في أمريكا والمجتمع الأوروبي خارجيًا والطابور الخامس الموالي له داخليًا؛ صحيح أن المشكلة الأمنية في سيناء بدأت تقلقه وتمثل له هاجسًا جعله يضطره لإعادة برمجة التوزيعات العسكرية على الأرض، إلا أنني أزعم أنه لن يتورط في فتح جبهات من هذا النوع تشغله عن دوره الفعلي في إفشال الثورة، وهذا التصور يجعلني أخالف تلك التحليلات التي ترى أن من أولى أولويات هذا الكيان توجيه ضربة قاصمة للمقاومة في غزة حتى لا تبقى غزة وسيناء معبر تهديد فعلي في المرحلة الحالية مما يعني أن قواعد اللعبة قد تغيرت وأن يد الاحتلال مكبلة، وأنه يعيش حالة إرباك وترقب ومراهنة على مشروع إفشال طموح الثورة.
وإذا كنا قد اتفقنا على هذه الجزئية؛ فإن عدم المس بهذه الاتفاقات حاليًا من الجانب المصري لا يعني بالضرورة موافقة مبدئية على استمرار منطق التفاهم السياسي عبر جغرافيا المنطقة.
مصر والخيار التفاوضي:
الجانب الفلسطيني الرسمي -المتمثل في سلطة رام الله- يعلم أن أكبر تهديد لسلطته يتمثل في توقف النهج التفاوضي الذي عبر عنه كبير المفاوضين صائب عريقات في كتابه المثير للجدل "الحياة مفاوضات" واعتبره عباس نهجًا استراتيجيًا لا بديل عنه، حيث كرر في غير مشهد: "أننا حينما نفشل في التفاوض سنلجأ إلى التفاوض، ولا بديل عن التفاوض"، لكن وراء هذا التخوف الفلسطيني الرسمي حقيقة مرة على أصحاب المنهج التفاوضي؛ أن المنهج التفاوضي قد أثبت فشله، وأن المفاوضات عمليًا متوقفة، ولم يبق منها إلا الجانب الأمني بل ولا يسمح إلا بهذا الجانب، هذه الحقيقة التي كان النظام المصري السابق يواريها ويتستر عليها، إلا أن النظام الجديد لا يمكن أن يلعب دور المخادع الكاذب المغيب للحقائق؛ ولذا فإنني أرى بأنه سيتريث كثيرًا قبل أن يخطو أي خطوة باتجاه دعم العملية التفاوضية، وهذا يعني أن جعبة النظام السياسي المصري الجديد ستكون مفرغة من متطلبات القيادة السياسية المتلهفة لبث روح التفاوض بأية طريقة وبأي ثمن، مما يعني أن الجانب الفلسطيني سيفقد ورقة هامة من أوراقه التي لطالما تشبث بها من أجل بقاء سلطته؛ فإذا كانت مصر الداعم الأساسي لمشروع التفاوض الذي تبنته السلطة قد غير مواقفه وانحاز إلى الجانب الأكثر تصلبًا ورفضًا لهذا المنطق، فإن السلطة ستكون قد تلقت واحدة من الضربات القاضية القادمة من مصر ما بعد الثورة.
وإذا أضفنا إلى هذه الضربة؛ ضربات أخرى، تتمثل في عجزها المالي وفسادها الإداري، فإن ذلك يعني أن بقاء السلطة بنهجها الحالي قد أصبح على المحك.
مصر وفلسطين الدولة والشعب:
لا ينكر منكر؛ أن سنوات الحصار على غزة في عهد المخلوع حسني مبارك قد كشفت عن وجه غريب لمصر الكنانة، تمثل في الحصار الخانق والملاحقة الأمنية المرعبة لكل أبناء القطاع المقاومين، حتى كاد الناس يؤمنون إيمانًا يقينيًا بأن غزة تقع بين عدوين لدودين (الجانب الصهيوني الغاشم شمالًا والنظام المصري المتواطئ جنوبًا)، هذا على مستوى الشعب؛ أما على مستوى الدولة؛ فلم يكن لمصر أي دور فاعل لتحقيق حلم الفلسطينيين في تحرير أرضهم، أو نيل حقوقهم عبر المحافل الدولية، ولم نر ضغطًا عمليًا لمصر عبر مجلس الأمن أو غيره من المحافل الدولية لتطبيق قرارات الأمم المتحدة العديدة والصريحة، لكن مصر ما بعد الثورة مطالبة بالنظر إلى فلسطين باعتبارها دولة عربية محتلة، وأن تحريرها يقع ضمن واجبات مشروعها القومي، فإذا كانت المصلحة القومية لدى نظام مبارك تعني حصار غزة فإن مصلحة مصر القومية بعد الثورة تعني فك الحصار وإنهاء الاستيطان وإعادة اللاجئين، وتنفيذ القرارات الدولية ذات العلاقة.
[1] انظر: دان تشريجي، أمريكا والسلام في الشرق الأوسط، ترجمة، محمد مصطفى غنيم، ص13،دار الشروق، 1993. [2]- كان ذلك من خلال اتفاقية كامب ديفيد التي تم التوقيع عليها في 17 سبتمبر 1978 بين الرئيس المصري محمد أنور السادات ورئيس وزراء "إسرائيل" مناحيم بيغن تحت إشراف الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر.
كاتب وباحث فلسطيني. "حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر" |
التعليقات (0)