الحلقة الاولى
1921 ـ 1958 ( في الأصل رسالة ماجستير تحت عنوان القضية الكردية في عهد عبد الكريم قاسم 1958 – 1963
لم تكن القضية الكردية في العهد الملكي وليدة أحداث آنية ، أو فراغ أو مجرد صدفة ، بل كانت تتويجاً لنضال الكرد الذي قاده الشيخ محمود الحفيد في ثورته ضد الأنكليز . ولم يكن أعلان الشيخ محمود الحرب على الأنكليز في آيار 1919 إلا نتيجة منطقية لتلك التوجهات التي بدأت منذ يوم 30/ تشرين الأول/ 1918 ،وخلافاً لما أورده بعض الباحثين الذين أعتمدوا بدء الحركة في21 آيار 1919 ، ففي الواقع أن التاريخ الثاني هو تاريخ بدء الحركة عسكرياً ، فقد سبقت الحركة العسكرية وتوجهات سياسية لتحديد مسار الحركة.
وما أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ، حتى أنتهز الشيخ محمود الفرصة في إعلان الثورة ضد الأنكليز عام 1918 ، بعد انسحاب الأتراك من المنطقة، ومن ثم تشكيل إدارة مدنية كردية ،وجعل لغة الدولة ، اللغة الكردية ، وأصدر جريدة لذلك .
ولكن الأنكليز لم ترق لهم فكرة الدولة هذه لأن تخطيطهم كان مختلفاً ، أو على الأقل لم يروا أن هذه الحركة تنفع مصالحهم ، فقاموا بالقضاء عليها بحملة عسكرية ، وجرح الشيخ محمود ، وأسر ونفي إلى الهند حتى عام 1922 .
ومن جهة فأن الوضع الداخلي في العراق كاد كله أن يخرج من يد الأنكليز بعد ثورة عام 1920 ، فأتخذوا مجموعة من الأجراءات لتهدئة الناس ، والتحكم في الأوضاع ، ومن جملة ذلك إعادة الشيخ محمود إلى السليمانية ليتولى إدارتها من جديد .
ومنذ تأسيس الدولة العراقية في الثالث والعشرين من آب 1921 لم تأخذ تنفيذ المطاليب القومية المشروعة للكرد ، مما دفعهم إلى مواصلة نضالهم ، وهو ما أكده المفتش الأداري في لواء كركوك وديالى في التقرير الذي كان يقدمه أسبوعياً إلى مستشار وزارة الداخلية أن الشيخ رشيد ابو بيلي من أهالي حلبجة قد كتب إلى رفعت بك ، أن نية الحكومة تتجه في تسليم كردستان إلى الآثوريين في المستقبل القريب ، الأمر الذي كان على الكرد أن يتحدوا ، والعمل بشكل مستقل .
وهناك دعايات في مدينة كركوك وعموم اللواء تبث بأن عناصر نشطة أمثال عزة باشا وأحمد خان وأغا حسين بك النفطجي تؤكد على إعداد مضبطة موقعة من قبل شيوخ القبائل ، هدفها خلق ولاية كردية تشمل ألوية السليمانية وأربيل وكركوك وجزءاً من الموصل تحت الحكم الكردي .
كما كان الشعب الكردي يتطلع للأستقلال ، وزاد من حرصه هذا نصوص معاهدة ( سيفر ) ، والتي أقرت بحق الكرد في الأستقلال ، وحتى بعد إقرار معاهدة لوزان في عام 1923 ، فأنه كان لأستمرار مشكلة ولاية الموصل وأثارتها على المستوى الدولي عدة ايجابيات للمسألة الكردية في العراق منها .
1ـ أعادة القضية الكردية ـ على الأقل في العراق ـ إلى طاولة المداولات الدولية، وأثارت في شأن حقوق الكرد مناقشات دولية للمرة الثانية بعد مؤتمر الصلح ومعاهدة سيفر ، وهو ما أدى إلى تجدد الآمال للكرد ، والأعتراف بحقوقهم من جديد .
2ـ اللجنة التي شكلت لدراسة المنطقة من قبل عصبة الأمم ، توصلت إلى نتيجة مفادها ، أن المنطقة ليست تركية ولا عربية ، وإنما ذات هوية كردية ، وأن سيادة الهوية واللغة الكردية في المنطقة أمر لا يتطرق إليه الشك .
3ـ بعد قرار عصبة الأمم في ضم ولاية الموصل إلى العراق ، ورفض مزاعم تركيا في عام 1925 ، أوصت العصبة بناء على تقرير اللجنة المذكورة السابقة بمراعاة الأكثرية وحقوقها في تشكيل حكم محلي والأحتفاظ بهويتها .
في تموز عام 1927 زار صادق باشا وهو كردي ساكن في بغداد بزيارة مدينة كركوك ، وبث فيها دعاية على أن الأنكليز مصممون على منح كردستان الأستقلال .
أما لواء السليمانية ، فقد شهد في آب عام 1927 مشاورات سياسية تكمن في وجود ميول واضحة عند طبقة التجار لمغازلة عناصر من العرب في العراق ، اعتقاداً منهم أن قوتهم تتزايد ، ولكن الحزب الكردي ( لحزب الديمقراطي الكردستاني) الفتي يرى في مطالبة الشعب فرصة للمطالبة بحقوقهم بالأستقلال ، وإن عدداً من أعضاء الحزب لديه آمال للحصول على فقرة خاصة بالأكراد في المعاهدة الجديدة التي هي قيد المصادقة الآن .
وتابع الكرد في لواء أربيل بحماس كبير في الصراع السياسي في بغداد ،إذ تمنى الكرد أن ينتصر الشيعة لأنه في حالة بروز مشكلات جدية في جنوب العراق ، فأن موجة من الفوضى سوف تحدث في لبلاد وهي بدورها سوف تخدم الأكرادقي الشمال .
ومن هذا المنطلق ،طالب الكرد بأن يتوحدوا حتى لا تمتد أيدي الظالمين وأغراضهم المسممة ويصبح لهم نفوذ في المنطقة .
قامت الحكومة بعد ذلك ، إخضاع المناطق الكردية وتثبيت نفوذها ، وإحكام سلطتها المركزية ، وبنت العديد من المخافر للشرطة والجيش ، وهو مما يشكل استفزازاً وتحدياً لسلطة العشائر الكردية ومنها عشيرة ( بارزان) التي انتفضت ضد هذا الوضع بقيادة الشيخ أحمد البارزاني في المدة ما بين ( 1927 ـ 1932) ، ودخل في جولات قتال مع الحكومة ، حتى أنهارت بسبب الدعم البريطاني العسكري المباشر للجيش العراقي ، ولجأ الشيخ أحمد إلى تركيا التي سلمته إلى العراق عام 1934 ، إذ فرضت عليه الأقامة الجبرية في السليمانية بعد أن نفته قبل ذلك لجنوب العراق .
وفي عام 1932 أعلن عن نهاية الأنتداب البريطاني على العراق ،ورشح للدخول في عصبة الأمم ، وثار الشعب الكردي من جديد لأن المعاهدة العراقية البريطانية لم تشر إلى الحقوق القومية الكردية .
وقاد الثورة الشيخ محمود البرزنجي مرة أخرى ، ومعه النخبة المثقفة وجماهير الشعب الكردي ،وخرج الآلاف إلى الشوارع ، وفتح الجنود عليهم النار ، وسقط بضع عشرات من القتلى ، وهو ما أدى إلى أشعال فتيل الثورة .
وقد أدى ذلك ،إلى مطالبة الكرد عصبة الأمم في بتنفيذ قرارها المؤرخ في كانون الثاني 1926 ، إلا أنها رفضت ذلك ، الأمر الذي شجع الحكومة في أن تقمع الثورة بالنار والحديد بمساندة القوات الجوية البريطانية ، فأضطر الشيخ محمود مغادرة العراق إلى إيران .
وفي عام 1932 قام أحمد البارزاني ، بحركة مسلحة ضد حكومة الملك فيصل الأول معلناً رفضه لخطة الحكومة في تأسيس الإدارة المدنية ، ودعته في أعادة الخارجين عن طاعته من أتباعه ، ولما فشلت الحكومة في تسوية النزاع سلمياً ، فقد أتخذت قراراً بفض النزاع بالقوة وهو ما تم القضاء عليها في عمليات عسكرية استمرت خمسة أشهر ، أضطر بعدها اللجوء إلى تركيا بصحبة أخيه مصطفى وصديق ومعه مائة من أتباعه في حزيران ، وقد تم تسليمهم إلى الحكومة العراقية بعد أعلان العفو عنهم في عام 1934 .
وبعد منتصف عام 1935 تشكلت في السليمانية جمعية بأسم (( فدائيي الوطن )) ،وهي جمعية غير رسمية ، كان الهدف منها هو السعي في سبيل خدمة القضية الكردية وتنظيم المضابط ضد الموظفين الإداريين الذين يخالفون مبادئهم ، والتي شنت حملة عنيفة ضد مباحثات الوفد العراقي الذي زار طهران برئاسة نوري السعيد ، حينما طالبته إيران بتنازل العراق عن شط العرب ، وأعطاء قسم من أراضي خانقين والأشتراك في حصة نفط خانقين .
والتقى جمال بابان العضو البارز في حزب الوحدة الوطنية ، الذي تأسس في ايلول عام 1934 ، أهالي السليمانية لكسب تأييدهم للحزب المذكور عن طريق الشيوخ والسادة والباشوات في المنطقة .
وكان هدف جمال بابان من كسب تأييد سكان السليمانية لحزب الوحدة الوطنية هو من أجل اسقاط وزارة ياسين الهاشمي ، إلا أن تحركات بابان ولدت النفور والبغضاء بين سكان المنطقة .
وفي عام 1936 جرى أول انقلاب عسكري في المنطقة العربية ، وقاد الأنقلاب ضابط كردي يدعى بكر صدقي ، الذي أعطى زخماً عظيماً للقومية الكردية بالعراق ، على الرغم من أن بكر صدقي نفسه لم يكن قومياً .
وكان بكر صدقي رجلاً ذا أطماع ذاتية أكثر من أي شيء آخر ،وكان مستعداً أن يوجه أكبر الضربات للحركة الكردية ، ثم أن النشاط الذي دب في صفوف الوطنيين الكرد ما هو إلا أنعكاس للمد الذي مثل جميع القوى الديمقراطية في البلاد من المرحلة المبكرة التي أعقبت الأنقلاب .
وعلى الرغم من اغتيال صدقي في عام 1937 ، إلا أنه ترك شعوراً لدى الحركة الوطنية الكردية من أن بكر صدقي كردي الأصل ، ومن ثم أصبحت هذه الحركة تدخل مرحلة التنظيم الحديث والبناء السياسي .
والجدير بالملاحظة ، حاول بكر صدقي أن يستغل الورقة الكردية لتحقيق طموحاته ، إذ يقول سفير الرايخ في بغداد حينذاك ( فريتز غروبا) في مذكراته التي نشرها بعد الحرب العالمية الثانية ما يأتي : ( عندما أخبرني بكر صدقي برغبته في الدفاع عن كردستان تحدث معي بصورة سرية وقال لي بأنه كردي ، وأنه وضع هدفاً معيناً نصب عينيه هو تأسيس دولة كردية ) .
ومع هذا كله ، فأن التاريخ لم يسجل له أنه حقق مكسباً وطنياً أو قومياً للشعب الكردي ،بل كان مبتغاه الوصول إلى السلطة ، مستغلاً الورقة الكردية .
وعندما أغتيل بكر صدقي عام 1937 ،أعتمد النظام الملكي في تعامله مع المسألة الكردية أسلوب تقريب الشخصيات الكردية الموالية ومنحها الأمتيازات وجعلها نقطة الوصل بينه وبين الكرد .
التعليقات (0)