منذ فجر التاريخ وعبره والى يومنا هذا, لم تكف السياسة ,بأشكالها المتنوعة, البدائية والمنظمة والمتطورة, عن ادعاء إقامة العدالة باسم الآلهة, ثم باسم الإله, وأخيرا باسم الإنسان والمجتمع (وتصدر أحكامها, حديثا, باسم جلالة الملك, أو الشعب, أو الأمة). ولم تتورع حتى في ظل الأنظمة الديمقراطية الغربية, وأحيانا بطرق فجة, عن المحاولات المتعددة الأشكال الهادفة للي عنق القضاء وحرف أحكامه وقراراته لما فيه مصلحة السياسة وأصحاب النفوذ.
هذه الحقيقة التاريخية لا تعطي بطبيعة الحال السياسيين مبررا للتجاوز على القضاء بحجة أن ذلك جرى ويجري منذ قديم العصور والى اليوم, وإنما تبين كم هي مضللة ادعاءات السياسيين بان القضاء عندهم محبوب ومحترم ومستقل وعصي على كل تدخل. وتبين أن لا الآلهة, ولا الإله مصدر حق إصدار الأحكام أو القرارات القضائية باسمها, أو باسمه. و لا الشعب ولا الأمة تعطي هذا الحق مطلقا ودون ضوابط وشروط.
وسنترك الحديث في ذلك لمقالة قادمة. فقضية كلارستام Clearsteam , قضية الساعة وما أثارته من ردود فعل, وتوقعات, حاضرة ومستقبلية من قبل السياسيين والحقوقيين, فرضت نفسها كموضوع للسطور القادمة.
المدعى عليه الرئيسي في القضية المذكورة رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دو فيلبان. والمدعي بالحق المدني هو رئيس الجمهورية ساركوزي, والتهمة تواطؤ المدعى عليه في قضية بلاغ كاذب ينال من سمعة ساركوزي الشخصية ويؤثر في مستقبله السياسي. المدعي والمدعى عليه ينتميان لنفس التيار السياسي والتنافس بينها على الترشيح لرئاسة الجمهورية كان على أشده.. والحكم الذي أصدرته بشأنها محكمة الجنح بباريس ينص على براءة المدعى عليه من التهمة المنسوبة إليه, بعد سنوات من جمع الأدلة ودراستها والتحقيق.
سوف لا ندخل في تفاصيل القضية وعلى الراغب بذلك الإطلاع على عشرات الصحف الفرنسية والأجنبية, ووسائل الإعلام الأخرى. ما يهمنا هنا هو الإشارة للجنوح السافر للسلطة التنفيذية ـ في بلد ديمقراطي القضاء فيه كثيرا ما يفتخر باستقلاليته. فما بالنا بالنظم الدكتاتورية الشمولية ـ ممثلة دون لبس أو تردد بتدخل رئيس الجمهورية نفسه, ليس باعتباره مدع بالحق المدني, وهذا حق يكفله له القانون, وإنما من موقعه, كراس السلطة التنفيذية, في سير القضاء عن طريق النيابة العامة.
ما يُعرف عن رئيس الجمهورية الفرنسية الحالي إعجابه بالقضاء الانكلو سيكسوني. وعن تطلعه لنظام قضائي يحابي النخب السياسة و"نادي الأثرياء" الذي ينتمي إليه. إضافة لطموحه الشخصي بان يسطر انجازا في مجال القضاء يمكن أن يسجل تحولا ومجدا يقرنان باسمه. لقد فعلها نابليون حين جعل القضاء حام للسلطة السياسة بالدرجة الأولى, وفي خدمة النظام الإمبراطوري. ولكنه مع ذلك قدم انجازات كبيرة في التنظيم القضائي وإصدار مجموعات قانونية Codes منها القانون المدني Code civil الذي اعتبره العمل الأساسي الذي سيخلد اسمه بعد أن أتت هزيمة واترلو على كل أمجاده العسكرية. والى يومنا هذا يسمى القانون المدني الفرنسي بقانون نابليون.
ولكن الجمهورية الخامسة بنظامها الديمقراطي ليست الإمبراطورية الأولى بدكتاتوريتها, ولا ساركوزي نابليون عصره. محاولاته لإخضاع القضاء للسياسة , عن طريق ما يسميه إصلاحات جذرية , لاقت وتلاقي عقبات واستنكارا ليس فقط من رجال الهيئة القضائية, وإنما كذلك من تيارات سياسية كبيرة ومهمة في الحياة السياسية الفرنسية, ومنها تيارات في حزبه الحاكم.
ونذكر هنا مشروعه الإصلاحي لإلغاء مؤسسة قاضي التحقيق, الذي هو قاض حكم يتمتع باستقلالية قضاة الحكم, وخاصة بعد ملاحقة قضاة التحقيق بقوة ودون كلل لجرائم فساد سياسي واقتصادي طالت كبار المسؤولين ورجال الأحزاب, وخاصة في التسعينات من القرن الماضي, وفي بداية القرن الحالي, ( تحدثنا عن قاضي التحقيق والمحاولات الأخيرة بإصلاحه إصلاحا يصل إلى الإلغاء, منشورة في العديد من المواقع على الانترنت) بهدف إحالة مهامهم لقضاة النيابة الذين هم في وضعهم الحالي ليسوا إلا نافذة السلطة التنفيذية على القضاء, وأداة لها رغم توافر بعض الاستقلالية هنا أو هناك, ولكن ليس في القضايا التي تتعلق بالأقوياء. إسناد مهام قضاة التحقيق للنيابة وقضاتها دون أن يسبق ذلك إصلاحات قضائية عميقة تحصن هذه الأخيرة وممثليها ضد تدخلات السلطة التنفيذية يعني فقدان القضاء لأهم خصائصه ومنها استقلاله ونزاهته. ويعني نسف قرون من النضال للسمو بالهيئة القضائية إلى درجة السلطة ولنضال القضاة للحصول على استقلال كامل جدير بمهامهم.
بعد النطق بحكم ببراءة دوفيلبان حيا هذا الأخير شجاعة المحكمة التي عرفت كيف تنصر العدالة والقانون على السياسة. مضيفا "افتخر بكوني مواطن في دولة روح الاستقلال فيها حية دائما".
في حين أعلن ساركوزي, بصفته المدعي بالحق المدني, انه سوف لا يستأنف الحكم. في محاولة منه استغفال الرأي العام الفرنسي, مظهرا انه لا يحمل ضغينة شخصية ضد المدعى عليه, الذي نافسه, وسينافسه مستقبلا, كمرشح لتيارهما السياسي في الانتخابات الرئاسية القادمة. واستغفل المواطنين العاديين مرة أخرى بإعلانه انه لا يريد استعمال حقه في استئناف الحكم. موهما بأنه يملك حق الاستئناف ولكنه سوف لا يستعمله. في حين أن حتى طلاب السنة الثانية في كلية الحقوق, كما علق القاضي والعضو السابق في مجلس القضاء الأعلى دومينيك بيلارا Dominique Bellara, يعرف القاعدة القانونية التي بموجبها لا يستطيع المدعي بالحق المدني استئناف حكم صدر بالبراءة . لا يستطيع المدعي بالحق المدني الاستئناف في المواد الجزائية إلا فيما يخص المصالح المدنية. وبما أن الحكم صدر ببراءة المدعى عليه فان ليس على هذا الأخير شيئا ليدفعه. وباعتبار ساركوزي محام التكوين, مارس المحاماة فترة قصيرة, فانه يدرك هذه الحقيقة, وان فاتته فإنها لا تفوت من حوله من المحامين والمستشارين القانونيين.
الاستغفال الثالث, وليس هنا مجال تعداد الاستغفالات التي تلجأ إليها السياسة, يتمثل في إعلان ساركوزي بان السيد جان كلود مارين نائب الجمهورية Procureur de la République لدى محكمة الجنح في باريس, الذي طلب للمدعى عليه دوفيلبان عقوبة السجن لمدة 18 شهرا مع وقف التنفيذ, و بغرامة مالية قدرها 45000 يورو, قام من تلقاء نفسه باستئناف الحكم دون الخضوع لأوامر وزير العدل, وبالتالي رئيس الجمهورية في غياب أية استقلالية, حسب القاضي بيلارا, والدليل ما يجري اليوم. رغم ادعاء نائب الجمهورية المذكور أمام وسائل الإعلام بأنه لم يتلق أي أمر مكتوب من وزير العدل, مع أن نائب الجمهورية ليس بحاجة في مثل هذه الأمورلأمر مكتوب. فإذا كان هذا الأخير قام باستئناف الحكم من تلقاء نفسه لماذا لم يجر ذلك إلا بعد اجتماع في قصر الرئاسة حسب مصادر دو فيلبان الذي اعتبر قرار الاستئناف المذكور "فضيحة". إنها مناورة سياسة يريد منها ساركوزي التأثير في القضاء لتسوية مسائل شخصية.
اتخاذ السياسة القضاء وسيلة تصفية حسابات بين زعماء سياسيين, في القضية موضوع هذه السطور, بين رئيس للجمهورية يفكر ويخطط منذ اليوم لعودة انتخابه لفترة رئاسية جديدة عام 2012 , ورئيس وزراء سابق, في عهد شيراك, يسعى هو أيضا لتحقيق طموحاته السياسية بالوصول لرئاسة الجمهورية, ساعيا لان يكون مرشح الحزب الذي ينتمي إليه ساركوزي نفسه. في هذا التنافس السياسي والصراع الذي يخرج عن قيم الجمهورية التي يعتز بها الفرنسيون, يبقى الخاسر الأساسي هو القضاء, واستقلال القضاء, بما يلحق به من فقدان ثقة المتقاضين والمواطنين به.
جعلت الجمهورية الخامسة من رئيس الجمهورية "ضامن استقلال الهيئة القضائية". (المادة 64 من الدستور).غير أن مسألة توازن العلاقات بين السلطة السياسية والهيئة القضائية, التي ما تزال إلى الآن بعيدة أو حتى مستعصية على الحل, تبقى سببا أساسيا في رجحان الكفة وبشكل كبير لصالح السياسة.
الهيئة القضائية (كما يسميها دستور 1958 ولا يصفها بأنها سلطة) تحتفظ بكونها "هيئة" قائمة بذاتها, ومرفق عام معا, Autorité judiciaire et service public. وعلى خلاف الدساتير الأوربية فان الدستور الفرنسي لا يخصص عنوانا للقضاء, وإنما تحدث عنه تحت العنوان الثامن, في 3 مواد هي المادة 64 التي تؤكد على استقلال الهيئة القضائية. والمادة 65 المخصصة للمجلس الأعلى للقضاء. والمادة 66 التي تنص على أن الهيئة القضائية حارسة للحريات الفردية.
من هذا الواقع, ومع بقاء دور المجلس الدستوري ضعيفا كما هو الحال عليه اليوم, والوضع غير المرضى للمجلس الأعلى للقضاء, وأزمة هوية النيابة العامة, كما يلاحظ دنيس سالاس القاضي والأستاذ المحاضر في المدرسة الوطنية للقضاء, ومع تأخير الإصلاحات القضائية في هذا المجال, فستبقى دولة القانون في فرنسا غير كاملة الانجاز.
في قضية كلارستام المذكورة, وبعد استئناف الحكم الذي برأ دوفيلمان, وطريقة تقديم هذا الاستئناف. وحسب المفهوم الفرنسي لفصل السلطات, يصبح تعبير القاضي دومينيك بيلارا بان "ساركوزي قد وقّع نهاية مبدأ فصل السلطات. لقد قتل ساركوزي مونتسكيو" , صحيحا إلى حد بعيد.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)