حين عاد ديك الجن من رحلة الصيد كان محتاجاً إلى كأس مشعشعة بالثلج تترك الحليم سفيهاّ ، كانت السماء متصالحة مع الأرض في ذلك اليوم ، فقد أمطرتها بماء هتون ، لم يترك بقعة عطشى في وهاد أو نجود إلا رواها ، لم ينظر ديك الجن إلى المطر نظرة صاحب الأرض الذي يعرف معنى عطشها إلى الماء ، بل كان همّه الذهاب إلى الحان ، ومعاقرة الصهباء ، ومجالسة الندامى ، ليقصّر الوقت ، ويطيل العمر باللذات .
امتطى صهوة جواده ، وأطلق ساقيه للريح ، وما هي إلا دقائق حتى كان قريباً من بستان فينان ، ارتاحت بظله حانة قديمة يزين مدخلها لوحة لباخوس ، يتقاطر من لحيته ماء العنب بلون كالمهج ، ويقوم على الخدمة فيها غلام مقلّص السربال، جمع في لسانه سحر هاروت ، وفي وجهه فتنة يوسف .
غير بعيد ، في قصر حاكه النعيم ، وحجبت حسن ساكنه جدران شاهقة ، تمدّدت (رسيس) على فراش ناعم تحلم بعودة ديك الجن ، ومع كل ليلة من ليالي الانتظار الطويلة ، تضطرم الأشواق في حناياها ممزوجة بنيران الرغبة ، فلا تترك زاوية من جسدها المتلهّف إلا وتجتاحها .
- أين الديك يقطف ثماري الناضجة ؟ فقد أوشكت على السقوط في يد جانيها .
- لا يزال في الوقت متسع لكأس أنهل منها وأعلّ .
تتأوّه (رسيس) ، وتسري في جسدها شحنات من الشبق تجرف ما تبقّى من صبر،
بينما ديك الجن لا يصبر عن كأس حتى يتعتع لسانه السكر .
- مولاتي ، هل لك حاجة فأقضيها ؟
- لم أدعُك ياغلام ، امض لشأنك
- مولاتي ، اعذريني إن تجمّد الدم في عروقي ، وغاب عقلي ، وخشعت جوارحي أمام جمالك .
- لعلك نسيت نفسك أيها الغلام ، ونسيت أنني سيدتك .
- بل سيّدة قلبي .
- أين تعلمت تنميق الألفاظ ، وتزويق الكلام ؟
- أنطقني حسنك ؛ فله الفضل في المعنى والمبنى .
- وكيف تواتيك الجرأة على التغزّل بي ؟
- أستميحكِ العذر ، فوالله ما أدري أجرى بذاك لساني ، أم نُفث في روعي ؟
- انصرف الآن قبل أن آمر بجَلدك .
ديك الجن يعبّ من كؤوس الطِلا ، و(رسيس) تتجرع كؤوس الحرمان ، تتململ الأفعى في إهاب الجسد ؛ فيضيق عن فحيح الرغبات .
- إليّ بالغلام .
- ما زلت على أعتاب بابك ، تغادرني روحي إن أغادر .
- عجباً لجراتك ! ماذا تأمل من سيّدتك ؟
- ما يأمل صادٍ في صحراء .
- فإن أنلتك ما تبغي ؟
- أدخل الجنانَ قبل الأوان .
تكشف (رسيس) عن بعض كنوزها ؛ فيشهق الغلام، ويدور في محوره كقطب في رحى ، يرتجّ جسمه في اهتزازات متناوبة ، حتى تلمسه كفّ سيدته ، وتحيط عنقه بذراعها ؛ فيخور كالثور ، وتتهدهد أركانه ، تنثر (رسيس) غلائلها فوق إهابه الأسود ، وينزلق الحرير فوق الفولاذ فيزيده ملاسة وقوة . الديك يرشف رحيق الخمرة ، و(رسيس) ترشف رحيق غلامها ؛ والليل يبسط رداءه عليهم .
مع آخر كأس في الدنّ تستبدّ بالديك الغُلمة ، فيصحو من سكره ، وكأنه لم يكن طوال الليل قتيل الصهباء:
- أيتها الجنّ ، يا ربّات الشعر، احملنني إلى من أهوى ، فقد أطار لبّي طيفُها ، قاتل الله الخمرة ؛ إذ شغلتني عن رضابها ساعات ، كنّ أطول من دهر ، المسافة إلى محبوبتي بين السَحر والنَحر ، وإن كانت مفاوز ، وفؤادي الآن فارغ إلاّ من هواها ، أمدّني يا شعرُ بالقوافي ، واعزفي يا قيثارتي لحناً أثيرياً ماخطر على قلب شاعر ، ولم تسطّره قريحة في سِفر العاشقين .
يطوي ديك الجن الطريق على أجرد كأنه شهاب يخرّ من سماء ، و(رسيس) تطوي غلامها تحت جناحيها ، وتسكب عليه أنوارها ، فيفحّ فحيح ثعبان ، ويتقلّب مثل صِلّ أسود في أعطاف جسدها الورديّ .
- حتّام تخدع نفسك ياديك ؟ أتظن أني أرضى مصير الأرض التي يقتلها العطش ؟ أتحسبني قانعة بقصر مشيد ، وعيش رغيد ، وأنت تقصِّر الليل في حانة بين سمّارك المجانين ، تنشد الأشعار ، وتبني بالقوافي بيوت العزّ والشرف المنيع ؟ ألم تسمع نداءات جسدي ، وصراخ الدم في أوردتي ؟ أما علمت أن الصبر عُدّة الزهّاد والعاجزين ؟ وما كنت ناسكة يوماً ، ولن أكون من العاجزين . أوَ طننتَ أنني فرس عذراء لا تبيح ظهرها إلا لمالكها ، أو ناقة ذلول لا يسلس خطامها إلا بيديك ؟ تبّاً لك أيها الديك الذي لايتقن سوى الصياح ، فلطالما كتمتُ في انتظارك شهقات روحي ، وكممت تنهدات جسدي الحزين !
- هيّا أيها الفرس الأصيل ، اطو بساط الأرض إلى (رسيس) ، لم تبق في جسدي خليّة إلا تفجّرت شوقاً ، ولا جارحة إلا تجلّت قصيدة غزل .
تجمّعت في السماء سحب داكنة ، وتلاحقت شعل بروق يخطف نورها الأبصار ، وراحت قواصف الرعد تهتك أستار الأمان . انتفضت (رسيس) من حلمها ، واستشعرت خوفاً مُريعاً سرى في جسدها المحموم ، لكن قبلات الغلام المشبوبة كبتت غريزة الخوف ، وأمدّتها بطاقة لا تنفد من الشعور بالأمان . جمح الفرس بديك الجن ، فطامن اللجامُ من جموحه ، وبدا سيّده فوق ظهره واثقاً من سطوته عليه ، وتوجيهه نحو غايته ، ولو تظاهرت قوى الطبيعة ضدّه .
تشتدّ قهقهات الرعد ، وينقدح البرق شراراً كالسعير ، يئزّ السرير بلذّة ممزوجة بالألم ، يتهالك الجسدان تعباً وشبقاّ ، تسرح نظرات الغلام في معالم الجسم البليغ، ويهمّ بالكلام ، فتضع (رسيس) كفّها على فمه :
- اترك الكلام للشعراء ، فما رغبت فيك من أجل القوافي ، بل لأنك علّمتَ جسدي كيف يبدع ألحانه ، وحين تفقد هذه المهارة ، سأعود إلى شاعري أتسلّى بالقريض .
ينفرج الباب عن ديك مثل جمرة ، بعمامة حمراء ، ووجه كالورس ، كان العاشقان ملتحمين ، وقلباهما يخفقان من اللهفة ، لا من الخوف ، وحين علاهما سيف الديك، امتزجت دماؤهما كأنها دماء جسد واحد . راح السيف يمعن ذبحاً ، فلا يُسمع إلا صوت حدّه يحزّ مقطع العظم ، أو صوت انبجاس الدم يشخب بإيقاع منتظم شجيّ .
حين أنهى ديك الجن مهمته التاريخية ، كان مضجع (رسيس) وردياً ، تفوح منه رائحة المسك ممزوجاً بالدم المطلول . لكن الملحمة لم تكتمل ، فقد حمل ديك الجن الأشلاء ، في كامل وعيه ، وأعدّ لها محرقة عظيمة جعل وقودها كل أشعاره ، راحت النيران تزغرد ، وهي تلتهم الجسدين ، فتعلو شعلتها زرقاء صافية تنشر الدفء في صقيع القلوب . وما هي إلا ثوان حتى تحوّلا إلى رماد أنعم من الحرير. خشي الديك من أن يصبح الرماد هباء منثوراً ، فراح يعجنه بدمع عينيه حتى إذا صار طيناً لازباً ، شكّل منه كوبين ، ثم شواهما ، فتصلّبا كأنهما جسدان رشيقان .
قال السارد العليم : إنه رأى ديك الجن يتردد كل يوم على حانة مجهولة ، وحيداً من غير نَدامى ، بصحبته كوبان من صلصال ، يشرب الخمرة في أحدهما مرة ، وفي الثاني مرة أخرى ، وينشد :
أعملتُ سيفي في مجال وشاحها ومدامعي تجري على خدّيها
فوَحــقِّ نعليـها وما وطئ الثرى شيء أعزّ عليّ من نعليـــها
حتى أسلم الروح .
عدنان كزارة
التعليقات (0)