بدا لي تشكيل "عبد الحميد الغرباوي" مثل "رسم بأشلاء اللغة"، يسير عبر اللون والخط ومساحات اللطخات إلى الحكاية نفسها: حكاية اليومي البسيط ، الساذج، والقريب الذي تستشعره حساسيات المبدعين؛ فأيقنت أن بين الحرف واللون مسافة أصبعين أو أقل، فإذا كان اختيار أحدهما يعني شحذ العين والحواس لالتقاط التحولات والناس والانفعال، فإن اختيارهما معا –أو إلى جانب فنون أخرى- يعني مضاعفة الالتقاط والحساسية بعدد الفنون.
وإن كان الزخم الحكائي في المنجز الابداعي لعبد الحميد هو الطاغي بحيث صار احترافا أسهل من "سرد الحياة" كما يقول، فإنه ما يزال قريبا من الفرشاة، ومنها ابتدأ الحديث بعيدا عن السرد فقال لي:
الفرشاة تقتات من فكري، و من ضوء عيني.. أشاغب ، و أستفز اللون أو الألوان في خيالي، اللون رديف الحرف.. للون هو الآخر مفرداته، حروفه، فقراته، نصوصه التي عن طريقها يعبر الفنان عن مكنونات ذاته..لكن ليس عند كل الفنانين ..و علاقتي شخصيا بالفرشاة، هي علاقة ود و صداقة طويلة، أنا على علاقة مستمرة باللوحة، لكني لا أغازل بياض القماش إلا حين تستعصي عليّ الكتابة، أو حين تمكنني الظروف من الوقت المناسب و الأدوات اللازمة لممارسة شغبي و فوضاي، التي قد لا يستسيغها الكثير من الفنانين الأكاديميين..
2- وللوحاتك المنشورة على "سندباد" سمة توحّدها هي طغيان اللون الحار، مع اعتماد المساحة الضيقة في الغالب، والخط البسيط غير المعقد، وحركة متعددة للفرشاة وغير ذلك... وشخصيا أقرؤها كصدى لعملكم السردي: التقاط مساحات ضوء ضيقة داخل العتمة، وطرح أكثر من قضية –كما قال زكي العيلة – دون ضجيج أو تعقيد، وبساطة التناول السردي والحكائي...، فهل اللوحات هي حكاياتكم نفسها؟
في كل مناسبة أكتشف فيك، أخي، شيئا جديدا..عرفتك قارئا بارعا و ناقدا متمكنا و غواصا محترفا في يم النصوص، و هأنا الآن أجد فيك أيضا ناقدا يجيد القراءة البصرية للوحات التشكيلية، عاشقا للون و الفرشاة، أكيد أن المنجز اللوني التشكيلي هو صدى لعملي السردي، من جهة، و من جهة أخرى، هو ما لم أتمكن من ترجمته إلى متن سردي... أجل لوحاتي هي حكايات، لكنها حكايات المناطق العميقة الغور في نفسي، المناطق المعتمة، و التي عجز الكاشف الضوئي للسرد من الوصول إليها..
3- هل أفهم من هذا أن الفرشاة قد تتجاوز ما تعثر الحرف فيه من "سرد الحياة"..؟
ـ هو ليس تجاوزا و إنما تقاربا أو إن شئت توازيا.. ما تعبر عنه الفرشاة بالأشكال و الخطوط و الألوان حالات نفسية و مشاهد لا يحتملها أو لا يستوعبها القالب السردي، و استعمالي لمفردة (العجز) لا تحمل في معناها قصورا و لكن حدودا يقف عندها السرد.. فلوحة "غرنيكا " لبيكاسو مثلا، لو يتناول مضمونَها، أجزاءَها، مقاطعَها، كاتبٌ سردي معروف و في قيمة بيكاسو، في رواية ما، فما أظن أنها ستكون في مستوى قيمة اللوحة الفنية. المتعة القرائية التي سيجنيها القارئ من قراءته للرواية، ستكون مخالفة تمام الاختلاف للمتعة البصرية التي ستمنحها اللوحة الشهيرة لرائيها، علما أن هذه اللوحة الشهيرة تعكس تاريخا و مرحلة، الأمر الذي سيبدو أكثر صعوبة و تعقيدا مع لوحة من لوحات "سالفادور دالي"... و تبقى السرود، في نهاية المطاف، كل السرود و كل أصناف التعبير، تتزود بالجرعات اللازمة لها للتواجد و الحضور من نسغ الحياة...
4- بين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا " وربما التشكيل أيضا" ، أي المساحات تمنحك متسعا للاشتغال؟
خوضي للكتابة الروائية لم يكن اختيارا، و رغبة في أن أترك لي بصمة في هذا الفن الجميل، أو لأبرهن عن قدرتي في اقتحام متنه، بل فرضته ظروف، و ما بين الرواية الأولى و الأخيرة ، عبارة واحدة كنت أرددها : " لن تتكرر التجربة".
و تكررت التجربة ثلاث مرات.. أما القصة القصيرة، فهي الكل في الكل، هي الحبيبة، فاتنتي، معذبتي، و التي لا أبتغي لي فكاكا منها..تسع مجاميع قصصية، دليل جنوني بها، و العاشرة في الطريق..
القصة القصيرة جدا؟.. حكايتها حكاية، قرأت بعض نصوصها منذ أزيد من عشرين سنة و لم أعرها أدنى اهتمام، كانت تتستر خلف الأقصوصة أو تتماهى فيها، و الأقصوصة، كما تعلم،أصغر من القصة القصيرة، و شيء ما كان ينفرني منها، كنت أبحث فيها عن الحكاية، عن الإشباع، و خاصة الإشباع القرائي، أو المتعة القرائية، فلا أجدها، كانت تصيبني بالغصة القرائية، مثل الشارب العطشان الذي أخذته شرقة ماء..و حين بدأ الحديث عنها، هنا في المغرب، عبرت عن موقفي منها، قلت إنها محاولة لقتل الحكي.. فالنص القصير جدا للغواتيمالي أوغوستو مونتيروسو و الذي جاب العالم طولا و عرضا و المسمى "الديناصور"، أقرأه عليك: " حين استيقظ،كان الديناصور لا يزال نائما"..هذا النص أثار ما أثار من تعليقات، و أتى أديب عربي، و تحدى هذا النص معلنا أنه كتب أقصر قصة في العالم، و كانت: " أف".. تصور أن نسير كلنا على هذا المنوال: " يع".." وا".." نعم".."لا"...ألا ترى معي أن كل لفظ من هذه الألفاظ يحمل دلالة بل دلالات اجتماعية و نفسية؟..
5- صحيح.. وألا ترى أنت أن التهمة الموجهة للمبدعين من كون "اقتراف الحداثة أمر مفتعل" تنسحب على هذا القص بشكل واضح؟
ـ تصور أني منذ أن اتُّهمت باقتراف فعل الكتابة و حوكمت بموجب التهمة أن أظل حاملا لوح الكتابة على درب الحياة، مادمت حيا، لم أفكر و لو للحظة عابرة، خاطفة في أمر الحداثة... لم أهندس أو أخطط لها في ما أكتب...ما يسمونه حداثة هو عامل طبيعي كامن في أصل الحياة، هو فعل إنساني مرتبط بتحولات العقل البشري.. نحن نعيش يوميا حداثة جديدة..
إذن أين تكمن " الحداثة المفتعلة"؟..
في تصوري تكمن في من يعزفون على أوتار التجريب باقتراف أفعال فيها الكثير من "البهلوانية" و الشقلبة و الحركات العشوائية و الفوضوية، و بتجن يشارف التشويه، هؤلاء كثيرون لهم قوتهم و أتباعهم جمهوريتهم و جمهورهم الذي لا يتردد في التصفيق لهم في كل محفل و ناد و في كل مناسبة يكون الاحتفاء فيها بإصدار من إصداراتهم المليئة بكائنات نصية مشوهة..
الهؤلاء ألَّهوا كتّابا ينتمون إلى قارات بعيدة و أصيبوا بتخمة قراءة دراسات و أشكال تعبيرية هجينة فتقيأوا مزيجا غريبا من الكتابات...
6- ومن أين أتيت أنت إلى القصة القصيرة جدا؟
نص " الديناصور" جعلني أقف منه موقف المتهكم، و الرافض.. قرأت بعده، نصوصا أخرى فوجدتها إلى الشعر أقرب منها إلى القصة، بعض نصوص الماغوط يمكن اعتبارها قياسا على ما سبق قصصا قصيرة جدا..و قرأت نصوصا أخرى فأحسست أني أقرأ نكتا.. إلا أن بعض الكتاب العرب و من بينهم مغاربة طبعا استطاعوا و بدراية و فنية أن يحافظوا على الكثير من مقومات وشروط الحكي في سطور لا تتجاوز الخمسة أو الستة.. و في مرحلة متأخرة نسبيا، قلت:" ألا يمكن أن أكون مخطئا في موقفي، متعصبا و بشكل أعمى للقصة القصيرة؟.. لمَ لا أجرب؟... وبدعم من أولئك الكتاب الذين استحسنت كتاباتهم، خضت التجربة، فكتبت نصوصا.. بعضها أصاب الهدف و بعضها الآخر أخطأه.. والتجربة مستمرة لكن بكثير من الحذر.. ليس مثل بعض الذين استسهلوا هذا الفن العصي، فشرعوا يكتبون عبارات لا علاقة لها بالإبداع إطلاقا من قبيل:" النار..النار..أحبك" تحت يافطة ( قصة قصيرة جدا)...و خلاصة القول ستظل القصة القصيرة سيدتهم وقائدة مركب الحكي في يم السرد الشاسع بلا منازع..
7- نعم، يفترض أن تكون قائدة الحكي بحكم النشأة الأولى "للحكاية البدائية"، لكن أن تكون "سيدة الحكي" فشخصيا أجدني متحفظا بهذا الشأن..
ـ لك الحق في أن تتحفظ، إلا أن التحفظ بلا سند و برهان يبقى تحفظا سلبيا... فهل ترى أنت غير القصة القصيرة يمكن أن يتربع على عرش الحكي؟...
8- شخصيا أنظر إلى أجناس الحكي كخطوط متوازية، لا هرمية فيها.. ثم أستحضر أحكام القدامى مثل: "أشعر بيت" و "أهجى بيت".. وغيرهما.. هي كانت ذات ارتباط بالذائقة الشخصية، وتظل في كل الأحوال غير موضوعية.. أما إن كنتَ تقصد الانتشار ونسبة المقروئية، فهنا تحديدا أتحفظ، لأني لا أملك إحصاء ما يؤكد أوينفي..
ـ أبدا، أبدا لا علاقة لقولي بتعصب أو شوفينية ضيقة ولا بالهرمية، و بأشعر بيت و أحسن قصة إلى آخر ما في اسم التفضيل من تعابير و استعمالات.. لكن في الحكي، القصة القصيرة ، هي الأساس..و لا تنس أني اشتغلت على الرواية..
9- عن طقوسك الكتابية، (إذ أجد عددا من قصصكم مهووسة ب "المرأة" و " الطفل" ) هل اختيار "التيمة" لنص ما هو غواية شيطانية، أم نتاج تنظير وأفق فكري معين؟
غواية شيطانية؟..
وقانا الله من غوايات الشيطان الرجيم...لا هذا و لا ذاك أخي حسام...أنا لست منظرا و لا مفكرا (من المنظور الأكاديمي للكلمة)... لا هذا و لا ذاك، أنا أكتب القصة، و كل قصة أنشرها تحمل بطاقة هويتها، و أشياء أخرى... و حسبي هذا و نعم الوكيل.
10- لكن أيضا العديد من القصص التي تكتبها تشتغل على "الفاعل السلبي"، أو "الأبطال المؤسلبة" أو "نفي البطل" أو غيرها من التسميات..
ـ أنا لا أختار نوعية أبطالي قبل الشروع في الكتابة..لا أفكر في ما إذا كان يجب أن يكون البطل سلبيا أو إيجابيا.. أنا أتفاعل مع محيطي و بيئتي، و أستجيب إلى ما التقطته عيناي و سمعته أذناي و اهتز له قلبي، أنا لا أشتغل على فاعل معين، لذا إذا ظهر في نص من نصوصي أو بدا للملاحظ ما قد يسميه اشتغالا على " الفاعل السلبي" في العدد الكبير من قصصي فذاك مجرد صدفة، و الأصح لأنه العنصر الطاغي في الواقع، أظن أن قراءة مفصلة لمجمل ما كتبت انطلاقا من مجموعتي الأولى " عن تلك الليلة أحكي " سنة 1988 و إلى غاية مجموعتي الأخيرة " عطر..معطف و دم" 2005 قد تعطي صورة أدق عن نوعية الأبطال في قصصي..
11- دعني أسألك بالمناسبة ذاك السؤال التقليدي، هل أنصف النقد كتاباتك؟
ـ و هل عدم إنصافه لي أسكت صوتي ، أو أضعف من عزيمتي و إصراري على مواصلة الكتابة ؟..شرف كبير لي أني أعرف في الساحة الداخلية و الخارجية بفضل كتاباتي و نشاطي المتعدد الأوجه بالدرجة الأولى و ليس بتطبيل و تزمير جوقة من النقاد يعرفهم الداني و القاصي بارتزاقهم و تملقهم..و من كتبوا عني هم نقاد شرفاء، نزهاء و لهم بعض الفضل الذي لا ينكر على كل حال..
12- والقارئ؟ هل من سمة /مفتاح إليه؟
و أين هو القارئ؟..نحن الآن نتحدث عن مفاتيح و عن قارئ معاصر، و نعلم علم اليقين أننا منذ أزيد من أربعين سنة و نحن نلهث بكتاباتنا خلف قارئ، مجرد قارئ..أقل من مئتي قارئ يقتني خلال سنة أو سنتين مجموعة قصصية .. أبتسم حين يخبرني قاص و باعتزاز و فخر بأن مجموعته نفذت. ألف و خمسمئة نسخة هو أقل عدد يمكن أن يصدر من أي إصدار سواء أ كان شعرا أم قصة أم رواية، و عندما يقول كاتب ما " لقد نفذ كتابي" فهذا يعني أنه باع هذا العدد بأكمله فهل هذا صحيح؟ و هل صحيح أنه استرجع التكلفة يضاف إليها الربح الصافي؟...أرى أنه مجرد وهم... القارئ الحقيقي هو ذاك القارئ الذي لا تعرفه و تراه صدفة حاملا كتابك مارا من أمامك...ياه كم هو ذاك رائع لو يتحقق في الواقع
13- أكثر من ثلاثين سنة كتابة قصصية، وأكثر من مئة نص سردي منشور، واحتراف بلغ القدرة على الكتابة القصصية " في منتهى السهولة" ( مقارنة مع سرد الحياة) –كما تقولون-،.. ألا تفكرون في تأسيس ورشات رقمية/أو غير رقمية للكتابة السردية قد تُنتج أو تكشف عن اشتعالات أخرى؟
والله هي اشتعالات و ليس اشتغالات... شخصيا فكرت، و طويلا و عميقا فكرت، لكن مع من؟.. ولما لا ؟..ما المانع في ذلك؟..فقط يحتاج الأمر فقط إرادات و تعاون مستمر و نيات حسنة، و نفس طويل و أبطال في العدو، صنف المسافات الطويلة، و قليل من المال...
14 - انشغلتَ على مساحة – لا أدري حدودها – بما أسميته "أسئلة القصة القصيرة بالمغرب".. هل هناك ملامح محددة ومشتركة تتضح للقصة القصيرة بالمغرب؟ أو ما الخلاصات الأساسية لهذا المجهود؟
الاتفاق يكاد يكون شبه تام على الدعامات الرئيسية التي تقوم عليها القصة القصيرة، إلا أن لكل قاص -وهذا طبيعي- طقوسه الخاصة و طريقة تعاطيه لهذا الجنس الأدبي الجميل.. أنا بصدد التفكير لإصدارها في كتاب، أحتاج فقط إلى دراسة تحليلية على ضوء ما جاء في ردود الأصدقاء والصديقات تكون مدخلا لها..
15 - بعد هذا العمر –ما شاء الله – من الكتابة والترجمة، ما الذي منحتك إياه علاقتك بالحرف والكلمة؟
ـ منحتني الشباب الدائم..و الإحساس بأني كائن فاعل و متفاعل...
16- الشعراء يتبعهم الغاوون، والقصاصون ما الذي يتبعهم؟
يتبعهم ظلهم...الوضعية عكس ما تتصور، فالقاصون أو القصاصون لا يتبعهم أحد.. هم الذين في ركض مستمر خلف الصور و الألوان و الوجوه و الأصوات و الحركات و الأشياء..سندهم في ذلك درجة الحساسية لديهم، و مدى و سرعة تفاعلهم و تجاوبهم مع ما يعتمل في محيطهم، بيئتهم، و مع ما يحدث من تحولات سواء على الصعيد المحلي أو العالمي...
حاوره: حسام الدين نوالي
التعليقات (0)