في هذا الزمن العربي الرديء, الحرون, السائر عكس مسار الزمن, المشدود بمخلفات القرون, الرافض أبوة العصر الحديث حسبا ونسبا وسكنا, وشكلا وجوهرا. المستقر عميقا في عقول غالبية معايشيه المسكونين بدواعيه. في هذا الزمن لا يقرأ هؤلاء المسكونين إلا ما ساد من هدي غابر قرونه. لا يتحدثون دون إسناد أحاديثهم إلى أحداثه. ولا يكتبون إلا من وحيها. يساهم خيالهم في تجميل ما لم يكن أهل الزمن أنفسهم يعتبرونه جميلا. يعظمون ما لم يكن معظما. ويحرمون ما لم يكن محرما. ويُقوّلون مشاهيره ما لم يقولوه أو يقرروه. ويلبّسونهم ما لم يلبسوه. يريدون حتى جر البادية والصحراء إلى حيث المدن العصرية وقيمها, والحضارة ووسائلها, ليتم تصحيرها والعيش فيها كعيش السابقين من الأسلاف ممن فرضت عليهم الطبيعة وشروطها طرق عيشهم, وعادات الطعام واللباس, وطرق الكلام والسلام, ورعي الإبل الأنعام. يرفعون كل ما ساد في ذلك الزمن إلى الأسطورة. وكأن عالم الأساطير لا يتعارض مع قرننا الواحد والعشرين.
الرافضون هؤلاء لعصرهم وإنسانه أينما كان وكيفما كان, لا يرون في ذلك الزمن القديم تاريخا يدرس, ولا تراثا تستنبط منه دروس وعبر, يُؤخذ صالحها ويطرح طالحها. وإنما أخذه بكليته بما ساد فيه وما لم يسد. ما ثبت وجوده وما لم يثبت.
يقرؤون ويعيدون القراءة ويكررون دون ملل أو كلل, وبين كل قراءة وقراءة خلاف فهم وتضارب تفاسير في أسه صراع ذوات مختلفة التكوين والخصائص, وتعدد اللغات واللهجات, واختلاف المكان والأصل والقومية والهوية, وكل العوامل الوراثية. وكل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والطبقية. ورغم الكتابة نسخا واستظهارا, لا تتطابق الكتابات ولا تصل للمتلقي كما أراد الكتبة أو الناسخون إيصالها لهم. فولدت وتلد من ذلك وعنه مللا ونحلا ومذاهبا وطوائف. أما ما يكُتب فكرا ونقدا واختلافا, فيحرق أو يتلف أو يُحرّم أو يُسخّف ويُهمل. ويهدر دم الكاتب مصنفا مع الزندقيين وأعداء الله والمؤمنين, ويحشر في زاوية العلمانيين المظليين ببدع القرن الواحد والعشرين.
مع أن تحريم القراءة بغير كتب مفروضة, والكتابة في غير مواضيع محددة ومحدودة, وإلغاء الفكر بالتعطيل, لم يكن من تعاليم العصور القديمة المراد الرجوع إليها. فقد عرفت تلك العصور ازدهارا فكريا وأدبيا وتفسيريا واجتهاديا واسعا وعميقا, طالت حركته ثقافة الآخرين, ولامستها وتفاعلت معها فأبدعت, وترجمت أعمال وأفكار الإغريق, ترجمات عرفتها أوروبا حينها. ولم يُكفّر المبدعون المترجمون وإنما انتشر صيتهم واحترامهم في العالم القديم, وما زال يُعترف لهم بالفضل إلى يومنا. وما زال العرب يُذكرون بهم دون سواهم كمساهمين في بناء صرح الحضارة الإنسانية.
كما إن عصور الانحطاط التي عرفت انحدار مضمون الأفكار ومستوى الأعمال المعرفية, والأدبية والفلسفية ــ مبررة بظروفها وزمنها ــ لم تشهد حركة تكفيرية وتشكيكية, وإرهابا فكريا, وملاحقات, وتشنجا, وتشددا في ضبط المقروء والمكتوب, باتساع وعنف ما هو سائد في وقتنا الحالي. ولم يكن الحنين للماضي يبلغ درجة الهوس ورفض الحاضر والمستقبل, والتحدي باللحية والسروال, وقتل النفس لقتل الآخر ذو الرأي الآخر, وإلا لما خرج الانحطاط من انحطاطه, وصولا إلى نهضة, مؤقتة, يحاول معاصرونا الحاليون ممن ذكرنا العودة عنها للدخول في سبات انحطاط جديد.
لم ير هؤلاء من تطور العلوم والتكنولوجيا والتقدم والحداثة في زمننا الحالي, في كل الميادين, إلا كفر أصحابها و مخترعيها ومطوريها. لم يروا فيهم قيما وأخلاقا وعلاقات إنسانية. قبلوا التمتع بمنجزاتهم, والتنعم بوسائل مبتكراتهم, والعلاج بأدويتهم ومستشفياتهم. وتحاربوا فيما بينهم بعتادهم. رفضوا رفضا قاطعا فلسفاتهم وآرائهم وأفكارهم. ومع ذلك ومن الصفوف الخلفية الخلفية, والمواقع الهامشية, وبمقدرة كلامية خارقة, وأشعار فخرية وهجائية, ترفعوا عليهم أصلا ونسبا وحسبا, وخلقا وقيما في الحياة الدنيا. واقفلوا في وجوههم, في الآخرة, كل أبواب جنات النعيم المفتوحة لهم وحدهم حصرا, رافضين فيها كل شراكة وشركاء, حتى من أبناء جلدتهم ممن لا ينظرون كما ينظروا, ولا يؤمنون بكل تفاصيل ما يؤمنوا. فجعلوا أنفسهم مركز الكون ومحوره. فحولهم ومن أجلهم كل شيء يدور.
ليست القراءة والكتابة مراقبة وملاحقة ومحددة من قبل المهووسين بالرجوع الفكري, وحتى الجسدي, إلى سالف العصور, والعودة للصحراء والتصحر, وإنما كذلك و بشكل اشد ضيقا واد لجة وانتهازية, من قبل القابضين على السلطة ـ ليس كالقابضين على الجمر وإنما كالقابضين على الكنزـ فكل كلمة تقرئ وكل حرف يكتب يجب أن يشيد بالسلطان, و يصب في خدمة السلطة وتوجهاتها. ومن هنا خُلق الإعلام الموجه, والتعليم الموجه, والتربية الموجهة لإنتاج الإنسان الموجه. ولهذا ومن اجله خُلق كتبة السلطان و"مفكري" السلطة وفلاسفتها". ومن هنا اللقاء مع أي توجه فكري سلفي أو تقدمي حين يصب مباشرة او بشكل غير مباشر في خدمة السلطة والسلطان.
القراءة والكتابة الهادفة لخدمة السلطان ليست بالضرورة قراءة في كتب مطبوعة أو صحف ورقية مكتوبة, فكثيرا ما تجاوز الزمن ذلك. فالخدمات يجب أن تكون عصرية وسريعة ومتطورة مع تطور وسائل التكنولوجيا. مواقع الانترنت وشبكات الاتصال بأنواعها, والمحطات التلفزيونية الأرضية والفضائية عممت أمية القراءة والكتابة, وأغنت ثقافة الاستماع والإصغاء, والقبول بالسكوت. الحوارات الموجهة بأساليب اقتتال الديكة, لا تحط فقط بموضوع الحوار, ولا بمستوى المتحاورين, وإنما ينال من قدر المستمع المُستخف به, ومن كرامته, ومن أفكاره, ليصبح مجرد متلق سلبي عليه القبول أو صم الأذان.
القراءة والكتابة الحرة والهادفة سقطت سقوطا حرا أمام المسلسلات التلفزيونية بمواضيعها الهاربة في غالبيتها من الواقع ومشاكله, ليس دائما حبا في الهروب وإنما اتقاء لكل مكروه, أو استجابة للمطلوب من دعاية تجميلية للشمولية والثقافة الأحادية. مسلسلات تأخذ وقت الإنسان من صحوته في الصباح إلى السكوت عن الكلام المباح قبل فجر اليوم الجديد. وتغنيه عن القراءة والكتابة. (مع الاحترام الشديد للكثير من مؤلفيها المتنورين في مثل تلك الظروف, وللمخرجين أصحاب المهنية العالية, وللكثير الكثير من الممثلين والممثلات أصحاب القدرات الفنية الرائعة التي لا يمكن للمنصف إلا أن يشيد بها ويقف احتراما لها).
القراءة يجب ان تكون لمنتج داخلي محلي. والكتابة في موضوع داخلي محلي مختار, وتخضع لموافقات وتراخيص من مراجع عالية الثقافة شما وتوجسا وتفسيرا وإدراك عواقب. الكتابات التي تمر بغير تلك الطرق وان فلت بعضها من الرقيب فان القارئ نفس يعرض عنها خوفا وتحسبا, فقد تكونت لديه, بفعل الزمن وتراكم التجارب, الحاسة السادسة والاستشعار عن بعد.
الكتابات القادمة من الخارج لا تعرف طريقا للقارئ في دول الأسوار الحديدية. فالرقيب في داخلها لا يعتمد المقص وإنما الحجب. حجب المواقع وكل ما ينشر فيها من غث وسمين. كل المواقع التي يمكن أن تسرب ثقافة غير ثقافة السلطة أو سياسة غير سياسة السلطة أو مفاهيم لا تخدمها و ترضيها.
حتى المواقع المهنية الداخلية, رغم فقر مهنيتها, لا تنشر كتابات إلا بموافقات غير المهنيين من أصحاب العقول الأمنية, فلا مصداقية لها لدى القراء من المهنيين ومن غيرهم , إذا افترضنا زيارات من هؤلاء لها. تكفي زيارة لتلك المواقع ليرى الزائر فيها مجرد أشعار ومدائح لا تتلاءم مع طبيعتها والهدف من إنشائها, أو كتابات مهنية مطعمة بجمل وعبارات تعبر عن طاعة وولاء. (بعض المواقع المهنية القانونية في العديد من الدول العربية لا ينشر فيها إلا مقالات لا تتجاوز أصابع اليدين الاثنتين في السنة ولا يقرؤها, من غير كتابها, إلا ما يزيد قليلا على أصابع اليد الواحدة في السنة. لا تقبل من المقالات ما يعكر سياسة النشر فيها, أو ما قد يغضب مديريها و ومدراء مديريها).
القراءة والكتابة في المدارس بأنواعها, وفي المعاهد والجامعات في الزمن العربي الرديء, أصبحت محو أمية. في غياب المناهج الحديثة, وطرق التدريس والوسائل المعروفة في كل المعاهد والجامعات العالمية. وعليه فليس من الغريب أن لا يكون لها تصنيف في قوائم الجامعات والمعاهد ولو في المراتب الخلفية. كما تبين التقارير الدولية.
غالبية المثقفين في الزمن العربي الرديء ـ لا نتحدث هنا عن مثقفي السلطة ـ لا يكتبون, وبعض من يكتب يحاول خرق حصار الرقابة ضمن شروط تلك الرقابة. فقد تعود أن يصبح رقيب نفسه بنفسه, وكثيرا ما يذهب بعيدا فيضع لنفسه خطوطا حمراء مصنفة عند الرقيب على أنها صفراء.
وكثيرا ما تؤكد مواقف بعض المثقفين صحة مقولة المثقف الانتهازي وصدقها, خاصة في أيامنا هذه. فهو في الوقت نفسه, وحسب الظروف والمكان والزمان, مع الأنظمة الشمولية طيلة غياب شروط قيام الديمقراطية. مع الأحزاب الحاكمة, وضدها حين توافر أسباب التعددية. مع الحريات وحقوق الإنسان إن نضج الإنسان. ضد الطائفية ولكنه يتفهم ظروفها. مع الحداثة إلى حدود, ومع رافضيها ضمن قيود. مع القومية ومع العولمة. مع العلمانية إن توفرت شروطها. مع الاستمرارية خوفا من نتائج الانقطاع. مؤيد ومعارض. قابل ورافض.غاضب متفهم.. مع كل ما لا يغضب أحدا. وضد كل ما يحرك بعنف آسنا. مع القراءة و الكتابة الهادئة والهادفة لمحو الأمية.
في الزمن العربي الرديء لا يمكن حصر مجالات الرداءة. فهي ليست فقط رداءة قراءة وكتابة.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)