القراءة حياة القلوب
بقلم: مولاي محمد اسماعيلي
www.malghad.com
من النادر جدا أن تسمع اليوم في المجتمعات العربية نقاشا حول مضمون كتاب جديد صدر حديثا، الكلام تحاصره النخبة في أماكن خاصة، ولا يخرج إلى العلن إلا في ما ندر، وحتى عند الباحثين الذين يشتغلون في الحقل الأكاديمي سواء لإتمام رسائلهم، أو إنجاز بحوث خاصة لمراكز دراسات أو مؤسسات بحثية، تجد أغلبهم يتعاملون مع قراءة الكتب وكأنها عبئ ثقيل على أكتافهم يعملون من أجل إتمام الكتاب والتخلص منه في أقرب وقت ممكن، وكأن الكتب أصبحت حصة تعذيب لهم، لذلك تراهم عندما يُتمون قراءة كتاب ما، يرددون بكل سعادة أن الحمل خف وأن التعذيب انتهى، يا له من قبيح هذا الزمن الذي فقدت فيه الأشياء معانيها الأصلية، وأصبحت الأمور ترى بطريقة مخالفة للصواب تماما.
في الأمس غير البعيد عندما كان للقراءة والمطالعة معنى، يتسارع الباحثون والطلبة والناس العاديون من أجل الظفر بنسخة من كتاب جديد ولج إلى الأسواق، وكان تبادل المؤلفات يتم بطريقة فنية وجميلة، يستفيد منها الجميع وتُقرأ الكتب، وتُفتح حول مضامينها نقاشات تستمر إلى ساعات متأخرة من الليل، ساعات كلها استعراض لأفكار الكتاب، هناك متفق وهناك معارض، الكل يُدلي بدلوه في هذا المولود الجديد في عالم الكتب، والجميع يستمتع في هذا الصالون الثقافي المفتوح إلى الصباح، وعندما يقفل كل واحدا راجعا إلى بيته يفتح نقاشا آخر مع زوجته حول الكتاب، ولو من قبيل إطلاعها على أفكار الكتاب، وأهم المواضيع التي تطرق إليها المؤلف، أما مكان العمل فتلك ورشة أخرى وحلقة مفتوحة لدراسة الكتاب والنقاش في مضامينه، الكل سعيد لأنه قرأ الكتاب قبل الآخرين، والنفوس كلها تواقة للإصدار الجديد الذي سيصدر مهما كانت أفكاره، ومهما كانت المجالات التي يتناولها بالدرس والتحليل.
في زمن حب الكتاب، الناس كلهم نخبة، وغالبيتهم تجد في منزله مكانا لدرر وجواهر نفيسة اسمها الكتب، والمنزل الذي لا توجد فيه مكتبة يعتبر ميتا ولا يصلح لشيء سوى دفنه والترحم عليه، ألم تكن لغة أولئك الناس لغة قوية في التحرير والكتابة والإلقاء، كثرة القراءة والمواظبة عليها، تُعلم الإنسان كيف يقرأ بدون أخطاء لغوية وإعرابية، وتُعلمه أيضا كيف يحرر ويكتب، هذا إضافة إلى أن الشخص الذي يقرأ كثيرا تتهذب نفسه، وتتزن كلماته وحركاته، وتتوغل الحكمة إلى وجدانه، فإذا تحدث أفاد الناس، وإذا سكت ألفته يستغرق في بحر من التفكير والأفكار التي تتلاطم أمواجها في عقله.
لو قام أحد منا بدراسة في المجتمعات العربية الآن، ليطرح على الناس سؤالا واحدا لا غير "كم من كتاب قرأته في حياتك؟" سيدرك أن الإجابات ستكون صادمة، وسيجد أن الغالبية الساحقة لم يسبق لها أن قرأت كتابا واحدا في حياتها، وسيجد أن غالبية من أتموا كتابا واحدا لم يتوفقوا بعده في قراءة كتاب ثان أو الاستمرار في القراءة، ستكون فئة قليلة جدا لن تتجاوز في أحسن الأحوال 1% هي التي أتمت قراءة بضعة كتب في حياتها، فماذا ننتظر من امة لا تقرأ؟ طبعا لن نجد فيها سوى الجهل والأمية، وكل الأمراض المستعصية على الشفاء، وأقصد هنا الأمراض المعنوية وليست العضوية فالجهل منتشر بين الناس، والأمية تضرب أرقاما قياسية مخيفة، أما التعليم فلا ينتج إلا جيوشا من العاطلين الذي لا يعرف أغلبهم أساسيات تكوينهم، ولا كيف يلجون سوق العمل بتخصصات لا يتقنونها، القليل منهم فقط نجا من المعضلة الجماعية التي تسمى شواهد بلا مستويات، كل مناحي الحياة في المجتمع ستقف بسبب عدم القراءة، وإذا تحركت مشت كما تمشي السلحفاة، في وقت يسير فيه الآخرون بسرعة الضوء، وكتبهم ومجلاتهم العلمية واختراعاتهم الحديثة تملأ الدنيا صخبا ونقاشات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
لن نكون طوباويين إذا قلنا بأن حل كل هذه المشاكل التي نعاني منها، هي في العودة إلى الكتاب، والتصالح معه، فبدون هذه الخطوة ستبقى الأحوال على ما هي عليه وسيبقى المجتمع رازحا تحت ظلمات الجهل والأمية إلى أجل غير مسمى.
القراءة بها نعرف من نكون، ومن أين أتينا، وإلى أين نسير، بها نعرف تاريخنا المجيد المبثوث بين دفتي أمهات الكتب التاريخية، بالقراءة سنعرف ماذا فعل أجدادنا من أجل نشر المعرفة والعلوم في كل بقاع الدنيا، بالقراءة سنطلع على أسرار هذا العالم الفسيح، بل وحتى أسرار عوالم أخرى خارج عالمنا هذا، بالقراءة سنعرف بحق أن الله تعالى موجود، ولن نقف عند إيمان العجائز الذي يسلم بوجود الله دون أن يعرف كيف، عندما نعرف الله بالقراءة سنحبه، وسنعبده بوعي وعلم ومعرفة.
القراءة هي سر الوجود، ألم يتعلم آدم في بداية الاصطفاء القراءة كمفتاح للمعرفة واستحقاق أن يكون خليفة لله في الأرض، "وعلم آدم الأسماء كلها" "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم"، بالقراءة تحول الإنسان من كائن متوحش إلى كائن عاقل، يفكر ويُسير الحياة بنوع من التوازن والنظام، إن القراءة هي النور الساطع على النفوس يُهذبها، وهي الحياة التي تُبقي القلوب نابضة بلا كلل.
التعليقات (0)