هل يمكننا الاقتناع بتحول العقيد "القذافي " بين عشية وضحاها إلى مسلم غيور على دينه إلى حد إعلانه نفير الجهاد على سويسرا؟ وما هو السبب الحقيقي لتلك الحملة لهستيرية المستجدة على سويسرا حكومة وشعبا؟ وهل حقا أن السبب الأساسي يعود إلى ذلك الاستفتاء الذي أجراه أحد الأحزاب السويسرية قبل ما يزيد على ثلاثة شهور حول رفع الآذان في المساجد في سويسرا؟وما الذي ذكّر القذافي الآن بهذا الاستفتاء؟ ولماذا لم يتنطح في حينه على نتائج هذا الاستفتاء ،ليتحفنا بخطبه النارية التي تتمسح زورا وبهتانا برداء الإسلام وتدعي الدفاع عنه والحرص عليه ؟ وكيف لنا أن نقتنع بتحول سويسرا ، فجأة، حكومة وشعبا من ملة أمينة على أموال العقيد وأولاده وحاشيته ،إلى"ملة كافرة" تستحق القتل والرجم، كما تستحق أن تكون هدفا لإعلان الجهاد؟
ترى ما هو السبب الحقيقي لغضبة القذافي تلك وهل حقا ما يدعيه العقيد لنفسه من أسباب،أم أن هناك أسبابا أخرى لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالغيرة على الإسلام والمسلمين؟
وجدير بالملاحظة أن دعوة العقيد الليبي لإعلان الجهاد ما كان لها أن تأتي لو لا إعلان الحكومة السويسرية مؤخرا عن قائمة تضم 183 شخصية ليبية ممنوعة من دخول الأراضي السويسرية ، وعلى رأس هؤلاء الممنوعين أفراد عائلة القذافي نفسها.
ربما حسب القذافي وأزلامه أنه بإمكانهم استغفال الناس، أو أن بإمكانهم استغلال مشاعر المسلمين الدينية وحرفها عن مقاصدها من خلال تهيجها للانتقام من سويسرا لتثأر له ولعائلته لتلك الإهانة التي وجهتها له السلطات السويسرية بمنعهم من دخول الأراضي السويسرية.
وربما كان من المهم أن يعرف الناس عندنا أن سبب الأزمة بين السلطات الليبية وبين الحكومة السويسرية ،لا علاقة بكل تلك التخرصات التي أعلنها القذافي . وأن ما أعلنه هو ذر للرماد في العيون ، وما هو إلا محاولة لإخفاء سوء تربيته لاولاده وخصوصا الديكتاتور الصغير المرشح أن يرث والده في حكم ليبيا ،هانيبال الذي ظهر في تعامله مع خدمه في زيارته الأخيرة لسويسرا بصورة المتوحش والبدائي الذي لا يقيم وزنا لقوانين وأعراف وقيم المجتمع الذي استضافه. أراد أن يتصرف كما يتصرف في ليبيا التي تحولت على يد زمرة القذافي وحاشيته إلى أشبه ما تكون بمزرعة للمواشي يتصرف بكل من فيها كما يشاء.
لم يخطر في ذهن هانيبال وزوجته ، كما لم يخطر ببال العقيد الأب، وجود شيء اسمه قانون في سويسرا ، وربما كانوا معذورين لأنهم ولزمن طويل جدا ،عاثوا فسادا وداسوا بلا رحمة على كل قوانين المجتمعات البشرية والمتحضرة في ليبيا ، إلى الحد الذي أنساهم وجود مجتمعات أخرى تخلصت منذ زمن بعيد من عهد الرق والعبودية .
لقد هال العقيد وابنه أن يطبق القانون السويسري على من يعتبرون أنفسهم آلهة، ولعل صور هانيبال مكبلا في الأغلال بعد اعتدائه الهمجي والوحشي هو وزوجته على اثنين من خدمهما ، هو القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال ، فالعدالة السويسرية التي يذكرنا فحواها بمقولة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار" كانت هزت بلا ريب هيبة نظام القذافي القائمة على التخويف والإرهاب أمام شعبه ،وهذا ما اعتبره العقيد سابقة تؤسس لمحو ظاهرة الخوف والرعب من الديكتاتور وابنه الذي اعتقلته الشرطة في جنيف كأي مجرم ليلقى العقاب الذي يستحقه على فعلته. ولهذا السبب أيضا ثارت ثائرة العقيد على سويسرا وبادر إلى إلى التصعيد مع حكومتها ، التي ردت بمنع عائلة القذافي من دخول أراضيها الأمر الذي رد عليه العقيد بإعلان الجهاد وسحب أرصته من البنوك السويسرية.
وغني عن القول، أن الذي سيتأثر بتلك السياسة التي تجلب العداء بين الدول والشعوب والتي اعتادها نظام القذافي ، هو الشعب الليبي نفسه، ولا نعتقد أن الدولة السويسرية التي تحتل في قوتها الاقتصادية المرتبة الرابعة في العالم تحتاج ليبيا في شيء، ففي سويسرا نظاما للبنوك ليس له نظير في العالم ،وهو نظام قادرعلى جلب كل أموال العالم إليه دون عناء، وهو أيضا قادر، ليس على شراء بلد بحجم ليبيا ومواردها النفطية فحسب، بل هو قادر بصورة مماثلة على شراء المنطقة العربية بقضها وقضيضها ، وبنفطها وبعرانها وصحاريها.
أجل إن الشعب الليبي المغلوب على أمره، هو الخاسر الأكبر نتيجة لحماقات المستبد و"الحاكم بأمره"، وهو الذي سيظل يدفع ثمن تلك السياسات الحمقاء التي لم تجلب لليبيا إلا المآسي والمخازي والأزمات والعداء مع دول العالم طوال تلك الأعوام من حكم الديكتاتورية. وإن الإسلام والغيرة على الإسلام والمسلمين، هي آخر هم من هموم هؤلاء المستبدين الذين لا يفكرون إلا بمصالحهم. وهم جاهزون دائما لاستغلال الدين أبشع استغلال إذا ما اقتضت الحاجة ،من أجل الوصول إلى أهدافهم الدنيئة . .
لا انكر باني قد هممت بالكتابة عن نفس الموضوع ولكن باتجاه اخر قد يشترك مع النص في المنطلقات ولكن يتقاطع معه في اسلوب التناول..ولكني اقر بان مقال الكاتبة الفاضلة قد جعلني ادع القلم جانبا واجلس متربعا كتلاميذ الكتاتيب وانصت باحترام لهذا القول المغمس بالالم الممض الذي يثقل حروفه وينساب من بين اسطره والذي لم تستطع كل هذا الكم من السخرية التي غلفت الموضوع ان تغيب مرارته..فمن المؤسف والمؤلم ان تدار دولة مثل ليبيا –بل أي دولة..او مدينة..او حتى حقل دواجن- بهذه الطريقة الغوغائية الفجة التي تربط مؤشرات بوصلتها بانفعالات وتجليات عقلية لا سوية ملتبسة غائمة مفتقرة للاحساس الطبيعي بالاشياء.. وان ترهن علاقات ليبيا وقنوات تواصلها مع العالم بردود افعال آنية منغمسة بالايهام المتبادل بالعظمة الزائفة الاقرب الى المسخرة والتي يمارسها وباقتدار لافت الحاكم بامره في ليبيا..من خلال انتحال متقافز لمواقع قيادية وهمية مفترضة ذهنيا ما بين عربي الى اسلامي الى"افريكانو"..
ان مثل هذه القرارات الفوضوية سوف تضاف بالتاكيد الى لائحة مشاكل السيد الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في مكابدته –غير المحسود عليها- التحضير للقمة المرتقبة..حيث سيتوجب عليه القيام بعبء مهمة الاقناع الاقرب للاستحالة لبقية القادة العرب بتبني دعوة "الخليفة" للجهاد ضد المؤتمنين على اموالهم ومصنعي ساعاتهم الفاخرة وحلواهم المميزة.. اضافة للمهمة الاصعب المتمثلة في اقناعهم بالحضور اصلا.. وخصوصا بالنسبة للدول التي لا تنفع معها سياسة المواقف المسبقة الدفع..لقلة الحافز المتحصل من يومين من التمتع بصحبة القائد الاممي متميزا هذه المرة بخاصيتي الارض والجمهور.. خصوصا مع تواتر الانباء عن نيته طرح فكرة حل الجامعة العربية واستبدالها باتحاد عربي له رئيس-طبعا- وأن يكون هو الرئيس الأول على اعتبار أن ليبيا هي رئيسة القمة الجديدة..
ان مثل هذه الممارسات المختلقة للازمات والاسراف في اتباع الاسلوب التقليدي للمتحجرات الحاكمة من خلال اضفاء الطابع الديني والايديولوجي على تقاطعاتهم السياسية..ومحاولة تجيير مشاكلهم بسم الحفاظ على بيضة الاسلام ..تزيد من الحاح الحاجة لنظام حجر سياسي على مثل هذه الانظمة المختطفة لشعوبها واتلتي تشكل عامل اقلاق وتشويش على شعوب المنطقة وتطلعاتهم التنموية..
سوف ينبري –كالمعتاد- من يدافع عن"القايد" ويدعي ان له حكمة لا يعلمها الا الله –وقد لا يعلمها هو شخصيا- في تصوراته ..وقد لا يهمنا ان نجادل اصحاب هذا الراي..ولكننا بالتاكيد لن نستطيع ان نتخيل بان ملك الملوك هو النتيجة الطبيعية لحركة التاريخ..ولن نستطيع ان نتخلى عن واجب الاصطفاف مع الشعب الليبي الشقيق وقواه الواعية الرافضة للتصرفات التهريجية المرتهنة لارادة ومكانة ومقدرات الجماهير..والتي لا تتعدى كونها فقرة مسلية في عناوين الاخبار الفرعية..
التعليقات (0)