الطّفل بطبعه مجبول على التّقليد، يُقلّد غيره في كلّ شيء، فهو مقلّد في لغته ومِشيته، وأكله وشُربه، وعاداته وتقاليده، وطريقة ضحكه وأسلوب كلامه، بل في جميع أخلاقه وسلوكيّاته. ابن العربيّ يتكلّم العربيّة، وابن البريطاني يتكلّم الإنجليزيّة، يقلّد كلّ منهما أبويه ومجتمعه، و(تشومسكي) في نظريّته القائلة (بالبنية العميقة)، يصرّح بأنّ الطّفل مطبوع على تقليد أيّ لغة، يقول: « يمتلك [الطّفل] معرفة فطريّة بمبادئ القواعد العامّة، فهو قادر على أنْ يتعلّم أيّة لغة بشريّة». فنلاحظ قوله: "أيّة لغة بشريّة"، لنفهم منها أنّ الطّفل كالعجينة الطريّة، يقبل التّشكّل بأيّ شكل، فما شئت أنْ تصنع منه صنعت، بشرط وجود مؤثّر واحد، هو (القدوة) الّتي يقلّدها في كلّ ذلك.
تذكر بعض كتب ( علم النّفس ) قصّة طفلةٍ رضيعة أُلقيتْ في إحدى الغابات مع الحيوانات، فَعُثِر عليها وقد بلغتْ السابعة عشرة من عمرها وهي تمشي على أربع كالحيوانات، وتشرب وتأكل مثلها، ولا تتكلّم بحروفٍ وإنما تُصدر أصواتاً فقط؛ لأنها عاشتْ مع الحيوانات فقلّدتها. فهذه القصّة الواقعيّة تُؤكّد ضرورة وجود (إنسان مثاليّ) في حياة الطفل، يحاكيه في كلامه وفي أكله وشربه ومشيه. وكما قال أحد المفكّرين المعاصرين: "إن الإنسان لايكون إنساناً إلاّ إذا ربّاه إنسان".
إنّ أسرع الجوانب تأثّراً بالقدوة، هي الأخلاق والسلوكيّات والطّباع، فإنْ كانتْ القدوة حسنة نشأ الطفل على الأخلاق الحسنة، وإنْ كانتْ القدوة سيئة نشأ على الأخلاق السيئة، ولذلك كان السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- يهتمّون اهتماماً كبيراً جداً بتوفير القدوة الحسنة لأبنائهم، ابتداء من الحاضنة، وانتهاء بالمعلّم، فهذا (عتبة بن سفيان) يختار معلّماً لابنه، فيوصيه وصيّته الشّهيرة قائلاً له: "ليكنْ أوّل ماتبدأ به من إصلاح ابني، إصلاح نفسك، فإنّ أعينهم معقودة عليك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت". ولقد أصاب –والله- في هذه الوصية، وأنعم بها من وصية، فالقدوة كالعود، إنْ مال مال الظّل معه، وإن استقام استقام الظّل مثله.
ولهذا فعلى (القدوة) أنْ يبدأ بإصلاح نفسه؛ ليُسمَعَ قولُه، ويُقبلَ إرشادُه، ويُنتفعَ بعلمه، ويُحتذى بسيرته. وما أحسنَ قولَ الشاعر:
(يا أيها الرجل المعلم غيـره هلا لنفسك كان ذا التعلـــيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكــيم
فهناك يُقبل ما تقول ويهتدى بالقول منك وينفع التعلـــيم )
وإنّ أبلغ منْ هذا الشّعر ما قاله عليّ رضي الله تعالى عنه: "من نصب نفسه للنّاس إماماً، فعليه أنْ يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكنْ تأديبه بسيرته، قبل تأديبه بلسانه".
ولذلك نستطيع القول: إنّ كثيراً من السلوكيات الخاطئة لدى أولادنا ترجع إلى أحد أمرين: إما عدم وجود (قدوة) أصلاً، وإما وجود (قدوة) ولكنها سيئة فتأثّر بها الأبناء. (فالطاووس) فيما يُحْكى، مشى يوماً مِشية المختال، فمشى أبناؤه مثله، فعاتبهم على ذلك، فقالوا : إنما قلدناك، فأنت البادئ والملوم. وهذه الحادثة تُروى في حبكة شعرية رائعة:
مشى الطاووس يوما باختيال فقلده بمِشيته بنــوه
فقال: علامَ تختالون؟ قالوا: بدأت به ونحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوج واعدل فإنا إن عدلت معدلـوه
أما تدري أبانا كل فرع يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
فإيجاد (القدوة الصّالحة) لأبنائنا، هو أوّل خطوة في مرحلة التّربية والتّهذيب والتّعليم.
ومن هنا نفهم بجلاء ووضوح البعدَ التربويَّ القرآني في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). [الأحزاب: 21]. فهي دعوة ربّانيّة صريحة للاقتداء بسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، تلك الشّخصيّة النّموذجيّة الكاملة، الّتي باقتدائنا بها نتّجه نحو الكمال، ونرتقي سُلّمَ الفضائل.
التعليقات (0)