جرت العادة أن نقرأ في الصحف العربية العريقة مقالات وتقارير مزيلة بأسماء كتابها منقولة من مدن وعواصم عربية وعالمية مثل: واشنطن، سيدني، برلين، لندن، دمشق، بيروت ..الخ، مؤخراً اقرأ وبشكل يومي مقالات وتقارير مزيلة باسم القامشلي إلى جانب اسماء كتاب وصحافيين كبار يعملون في خيرة الصحف العربية والدولية، هؤلاء لم يكتفوا بنقل مشاهداتهم من بعيد عبر اجهزة الكمبيوتر ورسائل البريد الالكتروني بل قطعوا آلاف الكيلومترات وعبروا حدود ومعابر بعضها مصنفة كمناطق حرب! وبعضها الأخرى مصنفة ضمن أخطر المناطق في الشرق الأوسط، لنقل مشاهدات وحقائق عن مدينة القامشلي والتجربة السياسية القائمة هناك وما يحيط بها من حكايات واحلام لقاطنيها وعابري السبيل! والمتخفين تحت رداء الدين والقومية!!
هذا النشاط الصحافي والإعلامي الغير معهود الذي تشهده المدينة وكمية المشاهدات والقصص المنقولة من هناك يومياً أمر مستحب ومبعث للفخر والراحة بأن يتحول مسقط رأس الإنسان إلى محط أنظار واهتمام العالم.
السؤال الذي تبادر إلى ذهني هل هذا الانفتاح والاهتمام الإعلامي مصادفة، أم ثمة من يقف ورائه؟ ولا سيما أن معظم التقارير والمقالات تركز على مشروع "الإدارة الذاتية" وتفاصيل العاملين عليها ومن يحميها من أحزاب وفصائل مقاتلة على الأرض، وبعيداً عن أي حديث آخر أو إشارة إلى المكونات الأخرى في المدينة وتنوعها الغني، فضلاً عن تركيزها على التاريخ الحديث للمدينة الذي بات يفرض كأمر واقع على كل من يدخل هذه الرقعة الجغرافية قادماً من الخارج، لذلك لا يبدو لي هذا التركيز مصادفة لا من حيث الشكل ولا المضمون ولا التوقيت حيث تجري هناك على الضفة الكردية الأخرى معارك سياسية ودبلوماسية حول الاستفتاء والاستقلال.
أحد الكتاب اللبنانيين وصف المدينة في مقالة له، بإقليم "روج آفا"، العتيد الذي يتقاطع مع حدود ثلاث دول هي تركيا التي فصلت الاكراد عن عمقهم الكردي بجدار إسمنتي ومرتفع، والعراق الذي يقف فيها نهر دجلة حاجزاً بينها وبين اقليمها الأم كردستان، وسوريا التي تتولى فيها خطوط الجبهة مع "داعش"في الرقة ودير الزور رسم حدود إقليم "شمال سورية".
ومشروع فيدرالية الشمال يبدو أنه سيصبح واقعاً قريباً بدلائل تحركات النظام الذي يستعجل رسم حدوده مع الإقليم الكردي، وفاعلية القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة إلى جانب الحراك الإعلامي والسياسي والدبلوماسي النشط على ضفتي الاكراد، وإن كانت الفيدرالية شكلاً من أشكال الحل في سوريا، إلا أن إقرارها من دون توافق مجتمعي مع غياب نظام مركزي ستكون الفيدرالية استغلالاً لعدالة القضية الكردية وزجّاً بالأكراد في خانة الاتهام بطالبي "الانفصال"، وفي هذه ظروف شبيها بما حصل في شمال العراق مطلع التسعينيات عندما استفاد الأكراد القوميون من "المظلومية الكردية" في عهد صدام حسين، ومن ظروف دولية لما بعد حرب الخليج الأولى والثانية ليضعوا اللبنة الأولى لانفصالهم عن العراق، والذي بات اليوم أقرب من أي يوم مضى.
تبقى "روج آفا" اسماً دخيلاً يحب الأكراد ان يطلقوه على مناطقهم في هذا الإقليم، إلا أنه ليس اسماً للقامشلي ولن يكون بديلاً عنه، وهذه قضية أخرى، فالمدينة التي عانى فيها الاكراد طويلاً من سياسات التعريب والتي لا يبدو الشفاء منها سهلاً!ليس بالضرورة ان تدخل فصلاً جديداً مناحتمالات "التكريد" المحفوفة بالمخاطر.
كان أحد الحكماء يقول: "ينبغي أن يبكي المرء في أمسيات النصر، لأن المنتصر غير قادر أبداً على مقاومة إغراء تكرار عمله" وكان يقال أيضاً إن التعرض للخداع أكثر من مرة أمر غير مقبول، وأن الأكذوبة لا تنجح إلا مرة واحدة.
وإذا كان أكراد العراق أطلقوا في أيام محنتهم مع صدام حسين عبارة "لا صديق للكرد سوى الجبال" فان اكراد سوريا يحلو لهم أن يطلقوا على تجربتهم عبارة لا صديق للكرد سوى "السماء" في إشارة إلى الطائرات الأميركية التي تتولى تغطية حربهم وتجربتهم السياسية الوليدة، وما بين الجبال والسماء ثمة "القامشلي" التجربة الحية والحقيقية التي تتسع حدودها "المنفتحة" لأبعد من تسميات وصداقات آنية.
التعليقات (0)