مواضيع اليوم

القافلة التي لا تمر، عصر الفولاذ، ومعجزات القوى التحتية في مصر

علي مغازي

2009-12-31 19:59:16

0

القافلة التي لا تمر،
عصر الفولاذ، ومعجزات القوى التحتية في مصر

 حقيقة النظام المصري

التنازل عن السيادة يحتمي بالسيادة نفسها. والنظام الذي فرض مربعاته على موكب الرئيس ترك خيمات الفرنسيين وسط الشارع وهددهم بالعنف. ولم يجب عن سؤال تردد كثيرا: «هل هناك قانون يمنع المرور إلى غزة ؟»

لماذا لا تدع القافلة تمر؟

وائل عبد الفتاح

بور سعيد تحولت إلى مدينة مربعات أمنية. أطواق عساكر الأمن المركزي انتشرت في كل مكان لتمنع سكان المدينة من الخروج لاستقبال الرئيس مبارك، أول من أمس. موكب من دون جماهير يسلك طريقا ترسمه مربعات الأمن. بينما في القاهرة، في الوقت ذاته، اخترق المغامرون الفرنسيون القانون المتعارف عليه واحتلوا الشارع الرئيس في مدينة الجيزة (شارع مراد) بجوار السفارة الفرنسية وفرشوا خيمات بلاستيكية. طريقة في الاحتجاج لم يتعودها الأمن المصري الخبير بالطرق المصرية. لكن الفرنسيين احتجوا على منعهم من السفر إلى رفح. والدبلوماسية تورطت في لعبة التبربرات وقالت «لقد خدعونا وخالفوا التعهدات لأنهم قادمون بتأشيرات سياحية». لم يشر الدبلوماسي المصري إلى إمكان وجود تأشيرة سياسية أو للقيام بعبور الحواجز والمعابر لتأييد شعب محاصر.

الرئيس في بور سعيد ألقى كلمة وسط سيناريو يضع التصفيق في مواضع معدة سلفا. إشارة القائد الحزبي ترسم ملامح التأييد الشعبي المختار بعناية. حاشية تبعد رئيسها عن كل ما يزعجه في خريف الحكم وقبل شهور من دخوله معركة الولاية السادسة.

بور سعيد من المدن المغضوب عليها. خرج من بينها مغامر اسمه أبو العربي، حاول إيصال شكوى إلى الرئيس، فظنت أجهزة حمايته أنها محاولة اغتيال. فتكت بالشاكي، ووضعت المدينة كلها على القائمة السوداء.
الرئيس هناك يحتفل بالنصر على العدوان الثلاثي بعد قرار تأميم قناة السويس. القرار كان إعادة تعريف للسيادة المصرية، وسحب مميزات شركة القنال من الأجانب وتسليمها إلى المصريين. السيادة كانت تعريفا أقرب إلى العقلية العسكرية التي سيطرت على الحكام الجدد.

اليوم السيادة أمنية. مربعات حماية الرئيس، وقرارات بمنع العبور إلى المدينة الملعونة (بحكامها وجيرانها ومحتليها). مصر تتنازل عن سيادتها لتحمي غزة. هكذا تقول تصريحات المسؤولين المصريين (نحمي غزة وشعبها بالسور الفولاذي)، لكي تضيع حجة الإسرائيليين لتبرير عدوان جديد.

التنازل عن السيادة يحتمي بالسيادة نفسها. والنظام الذي فرض مربعاته على موكب الرئيس ترك خيمات الفرنسيين وسط الشارع وهددهم بالعنف. ولم يجب عن سؤال تردد كثيرا: «هل هناك قانون يمنع المرور إلى غزة ؟».لا قانون. لكنها السيادة التي تجعل النظام مستقرا. عقلية أمنية هذه المرة وليست عسكرية. العقلية نفسها التي اقشعرت بسببها الموظفة في الشهر العقاري وهي تلقي توكيلات مواطنين عاديين باسم الدكتور محمد البرادعي لتأليف لجنة تأسيسية لتعديل الدستور.

ما هو خطر البرادعي على السيادة؟ وكيف ستضرب مسيرة «شريان الحياة» السيادة نفسها؟ وقبل كل هذا، هل هي سيادة الرئيس أم سيادة الدولة؟

هل ستتأثر سيادة الدولة المصرية إذا عبرت مجموعات من المناهضين للسياسات الإسرائيلية عن تضامنهم مع أهل غزة وعبروا وفق القانون المعابر بين مصر وغزة؟ وهل ستضرب السيادة في مقتل إذا تكتلت مجموعات مصرية من أجل تغيير الدستور؟

محكمة القضاء الإداري أقرت قبل أيام بعدم أحقية جهاز الاستخبارات في الموافقة على الأفلام السينمائية. وقالت ضمن حكمها «التاريخي» إن الموافقة على الأفلام ليست من أعمال السيادة الوطنية، وإنه إذا أردات الاستخبارات أن تتدخل باعتبارها حامية هذه السيادة، فعليها أن تثبت أن العمل الفني يعرض السيادة هذه لخطر.
حكم يعيد طرح فكرة السيادة، لا أحقية استخدامها. وهناك فرق بين استخدام الفكرة على سبيل فرض السلطان وتحقيق مصالح النظام الضيقة، وتعريف السيادة بما أنها مفهوم متفق عليه.

هل تغير مفهوم السيادة؟ قبل أشهر سمحت السلطات المصرية بمرور ناقلات أسلحة عبر قناة السويس متوجهة إلى العراق وأفغانستان. ليست المرة الأولى طبعا. والنظام كان يسرب التبرير السهل والسريع «إنها توازنات عالمية». لماذا إذا لم تمر قوافل غزة؟ هل المنع هنا هو جزء من السماح هناك. كلاهما يمارس مفهوما يحافظ على سيادة النظام على الشعب لا على سيادة الدولة.

هذه مفاهيم تحتاج إلى التوقف عندها لا الجدل المميت في شأن «أمن مصر وأمن الأشقاء» و«الخوف من حماس» والقلق من «زعبرة» الإسلاميين في غزة لتهديد الأمن القومي وفي القاهرة لزعزعة الاستقرار.
كاد الاستقرار كله أن يهتز بسبب مباراة كرة قدم. وتجرأ الجميع، من أصغر مذيع في فضائية لا تجد مشاهديها، إلى ابن الرئيس (علاء)، في شحن الدولة لحرب مع الجزائر.

جرجر جمهور الكرة العصابي دولة بكاملها إلى معركة تافهة في إهانة للسيادة الوطنية أو لمفهومها المحترم. وتحولت هذه الاستباحة إلى استعراض سياسي لنظام يعيش مرحلته الانتقالية.

نظام مبارك تسلم دولة مجروحة من انتهاك حدودها في ١٩٦٧. ولم تداو أمجاد ١٩٧٣ الجروح. ورغم الوعي الغريزي لهذه الجروح، إلا أن حكمة النظام تركزت فقط في إدارة الجروح لا علاجها، أي إيقاظ الجرح كلما تطلبت المصلحة.

وهذا ربما يفسر لماذا لا يدع الأمن المصري القافلة تمر، بينما يترك الكلاب تنبح بطريقة عادية تماما.

 

عصر الفولاذ

وائل عبد الفتاح

إنه غرام بالفولاذ. الحكومة المصرية أرسلت ٤ من ماكيناتها العملاقة إلى الحدود. مهمتها محددة: رسم الحدود من جديد. رسم بالفولاذ هذه المرة. ألواح بطول ١٤ مترا تغلق الأنفاق بين مصر وغزة إلى الأبد. فتحات التنفس بين رفح المصرية والفلسطينية تردم الآن بمهارات البنائين المصريين المعروفة في بناء الجسور ومد الطرق. الشركة نفسها تتخذ خبرتها الأولى في الفولاذ. خبرة تناسب مرحلة سياسية جديدة يقود فيها نظام مبارك العرب إلى عصر «الجدار».

هي السنة نفسها التي احتفل فيها العالم بالذكرى العشرين لتحطيم سور برلين. يبدأ العرب إقامة أسوارهم الفولاذية. تقدم بوحي من إسرائيل وبترويج من مزاجها كدولة معزولة. الغريب ليس الاتفاقات السرية (يقال إن السور الفولاذي من شروط صفقة شاليط). ولكن التأثر بالمزاج الإسرائيلي. العرب بدلا من السعي إلى تكسير الحدود بطريقة تناسب الميل في العالم إلى تكوين كيانات كبيرة (الاتحاد الأوروبي المثل الكبير)، وبدلا من الميل إلى الدخول في العالم. يفضل العرب تنفيذ أوامر العالم، ولو كانت بأسلوب مستفز أو ضد المصالح المباشرة.
تفضيل يصاحبه السماح بالبكاء على العروبة المسلوبة. والغناء للمجد القديم والتعامل بالحنين اللازم لأيام الصفاء القومي. الأسوار العربية موضة جديدة. بدايتها في رفح. الفولاذ بضاعة ستشهد الأيام المقبلة رواجها الفعال. والغريب أن الحكومة المصرية تتصور أن الفولاذ يمكن أن يكون سريا.

تحدث أحمد أبو الغيط عن «ضرورة عدم تدخل أي دولةٍ في القرارات التي تتخذها مصر في الحفاظ على أمن وسلامة أراضيها». أبو الغيط دافع بمنطق السيادة، وقال إن من حق مصر إقامة أي إنشاءات داخل أراضيها، أو وضع أي أجهزة للتنصت، وأن ذلك أمر سيادي لا مندوحة عنه.

كلام وزير الخارجية المصري بلاغة من نوع خاص، لأن السيادة لا تتمثل فقط في إنشاء الأسوار، بل إن الأسوار المتعلقة بالجغرافيا السياسية شيء لا يخص فقط الدولة صاحبة القرار، لكنه هوى عالمي قسم ألمانيا قسمين، أحدهما في معسكر سياسي، والآخر في المعسكر النقيض.

تكسر السور مع نهاية الحرب الباردة. لا نتيجة قرار سيادي من الدولة في ألمانيا. الهوى السياسي في العالم يحرك القرارات «السيادية» من ناحية. كما أن السيادة عندما تصبح شعارا مطلقا تتحول إلى قدرة معطلة أو مبرر جاهز.
هذه القدرة المعطلة لا تستوعب الفرق بين معطيات صفقة سياسية والمعنى الذي يتركه فعل مثل إقامة سور الفولاذ. معنى يطلب العزلة من دولة ما زالت تصر على أنها «كبيرة» المنطقة.
يمكن أن تكون النية طيبة. والحكومة المصرية تريد تمرير الصفقة وحماية شعب غزة من الغضب الإسرائيلي وحماية نفسها من تسللات «حماس». لكن القصة مختلفة وتعبر عن شيخوخة مذعورة. لا تتعلق بالنظام وحده بل بالمناخ السياسي الذي يؤدي فيه النظام المصري دورا محوريا.

الشيخوخة مذعورة تقيم أسوارها، وفولاذها يعبر عن الخوف لا الشجاعة. ورغم أن إقامة سور برلين وتحطيمه كانا بقرارات تعبر عن التوافقات الدولية. فإن الهدم كان تعبيرا عن الشجاعة، والفرح حفر خربشاته الملونة وإن لم يضع بلسما سحريا على المشاكل كلها.

السور بفولاذه مرحلة جديدة تحكم فيها الشيخوخة وتتحكم، ليس في النظام وحده. السور هو الحل السهل للاختباء والريبة من التعامل مع الجار (الذي تحولت أحلامنا المشتركة معه إلى لعنة وميراث غضب).
اختيار الأسوار هو علامة على الانسحاب بمعانيه المتعددة. هكذا مثلا مُنع الدكتور نصر أبو زيد من دخول الكويت (خوفا على حياته)، كأنه علق على سور فولاذي غير مرئي. وعندما أرادت مجموعات من الصحافيين الرد على المنع باستضافته في قلعة تشهد معارك سياسية للسيطرة عليه، مُنع الدكتور أبو زيد من تسلق فولاذ النقابة الذي لا أحد يعرف من أصدر قراره السيادي بإقامته عاليا.

العرب في عصر الأسوار. شكلهم مضحك ومثير لفكرة عن لعبة إلكترونية جديدة. تتحرك فيها ماكينات الحفر العملاقة لترسم حدودا فولاذية على مناطق كلما ضاقت كان النجاح أكبر وأقرب إلى الهوى العربي في عصر الفولاذ السياسي.

وهو عصر لن يتوقف عند غزة ـــــ فالتسريبات تقول إن خطة القاهرة ٢٠٢٠ تتضمن خطة إخلاء القاهرة من بعض الأحياء وتحويلها إلى مدينة «جميلة» حولها أسوار من فولاذ (أيضا غير مرئية) تمنع دخول الفقراء.
هذه الحالات عبثية تشبه روايات كافكا، حيث تتحول الدول إلى متاهات عالية الأسوار. متاهات تفرض سيادتها كاملة.

 

معجزات القوى التحتية في مصر

وائل عبد الفتاح

إنها القوى التحتية التي تحكم مصر. تتحرك بسرعة لتملأ الفراغات المسموح بها من القوى العليا. حركة هذه المرة هستيرية لأن «العليا» متشنجة وشيخوختها شرسة. الجميع في انتظار معجزة تحدث في القوى العليا، لكن المعجزات لا تتحقق إلا من أسفل

عودة «الإخوان» إلى الكهوف

محمود عزت هو القوة الخفية على ما يبدو. رجل الظل. محرك الأحداث من وراء الستار في جماعة «الإخوان المسلمين». قوة محمود عزت كشفت أنها الوحيدة والمؤثرة في جماعة تدار بهيراركية تقترب من الكهنوت السري. من أين قوة عزت؟ تبدو للمقربين منه أنها قوة الاستغناء. الرجل الأقرب من منصب المرشد لا يريده. وهذا يمنحه حق منحه لمن يشاء أو يرى أنه المناسب لتنظيم عاش ٨٠ سنة تقريبا ولا تزال نواته الأصلب في القلب.

نواة تطرد الجديد وتحوله إلى قشور تتطاير عند أول صدام، كما حدث مع «تيار الانفتاح»، الذي كشفت انتخابات مكتب الإرشاد الأخيرة عن أن وزنه النسبي أقل من أن يتحول إلى رقم في معادلة الجماعة، وأن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الرمز القوي للتيار، سقط في انتخابات المكتب. سقوط مثل صدمة أكبر من سقوط محمد حبيب، النائب الثاني للمرشد والمرشح «الطبيعي» لخلافة مهدي عاكف، الذي تنتهي ولايته بعد أيام.

«إنه انقلاب». هذا صوت من خارج «الإخوان» رأى في تركيبة مكتب الإرشاد نجاحا للتيار القديم المسمى «الحرس الخاص»، نسبة إلى التنظيم السري المسلح الذي تكون فترة الأربعينيات في الجماعة وأعلنت أنها حلته بعد ١٩٥٤.

الصوت الخارجي وجد صدى داخل الجماعة. صدى ضعيف. لكنه أقرب إلى إحساس بأن قوة التنظيم في قديمه. وسر الجماعة في نواتها الصلبة لا في محاولات تطويرها لتقترب من موديل الأحزاب المسيحية في أوروبا أو الأحزاب الإسلامية الحاكمة في تركيا.

«الانقلاب» استعادة لقوة الجماعة القديمة. جماعة إعادة تربية المجتمع على كتالوغ وضعه حسن البنا ومجموعة المؤسسين الأوائل في ١٩٢٨، تأثرا بالأحزاب الفاشية الصاعدة في أوروبا أو بالمناخ الذي أفرزها بعد الثورة الصناعية، وطرح أسئلة الهوية بعنف وقوة.

الجماعة تمزقت أخيرا بين صورتها القديمة حول نفسها وتفكيكها إلى جسدين كبيرين: جماعة دعوة وحزب سياسي. التمزق ازداد في الفترة الأخيرة، بعدما استقر الإخوان على أرض سمح بها النظام، واستراح لاقتسام سلطة «افتراضية»: الحكم والثروة للنظام وحاشيته والسقف الأخلاقي للإخوان بشرط عدم تجاوز الحدود.

تقسيم افتراضي عبر به النظام فترة حربه مع الإرهاب المسلح لجماعات أصولية خرجت من عباءة «الإخوان» بأفكار أكثر راديكالية وتوجهات أكثر عنفا. جماعات رأت أن اعتدال الجماعة ودخولها في مناخ الدولة «صفقة خيانة».

«الإخوان» يدفعون اليوم فاتورة خروج من العمل السري إلى العمل «شبه العلني» أو اللعب في المساحة بين الحظر والتصريح. أولا لأن الدولة قررت استعادة الأرض التي تنازلت عنها، وثانيا لأن هناك أجيالا لم تمر من بوابة العمل تحت الأرض وتعاملت مع الجماعة على أنها صوت الحق والمعارضة القوية الوحيدة المستمرة، والأهم أنها الصوت «الإسلامي».

عصام العريان، الطرف الآخر في فريق تحديث الجماعة، اختار أسلوبا مختلفا وأعاد اندماجه مع النواة الصلبة. وُصف الاندماج بأنه «صفقة مع محمود عزت» وتعبير عن ذكاء مشترك جمع بين رغبة الحرس الخاص في استعادة الجماعة بالكامل، وبين واجهة حديثة من دون جمهور تقريبا (عصام العريان). النواة الصلبة أرادت أن يدخلها التجديد من دون قوته المضطربة في نموها، وهذه على ما يبدو ليست من صنع الأمين العام لمكتب الإرشاد، محمود عزت، بل أقرب إلى عقل خيرت الشاطر، العقل المحترف في نسج الخيوط المتناقضة.

الشاطر (النائب الأول للمرشد) أكد حضوره الفعال رغم إقامته في الزنزانة. وتعامل مثل الأمير الغائب، الذي لا تضيع فرصته أو مساحته لأنه رهن الاعتقال. وهذا ما أزعج محمد حبيب، النائب الثاني، الذي أطيح من مكتب الإرشاد، فغادر القاهرة إلى مقر إقامته القديم في أسيوط (الصعيد). ومن هناك أصدر بيانا «إلى الإخوان في مصر والعالم»، وحمل تهديدا واضحا بالاستقالة، وأعلن الخصومة مع تركيبة مكتب الإرشاد الجديدة.

هذه واحدة من المرات النادرة التي تطفو فيها خلافات الجماعات إلى السطح. وتتحول إلى معارك صحافية وتلفزيونية. شقوق لا انشقاق. هذه أوصاف أقرب إلى ما يحدث في الجماعة. تتسع الشقوق وتضيق حسب حركة الألواح المتصادمة في القمة. التصادم في هذه اللحظات على اللحم، كما يقولون في الأوصاف الشعبية، من دون عوازل. فالجماعة تتحرك من دون رصيدها المعنوي في معارضة النظام، وخصوصا بعد صمتها المريب واستكانتها في مواجهة حملات الاعتقال ثم انسحابها من الحديث حول معركة الرئاسة، وظهور ما عرف بالصفقة بين النظام والجماعة.

هي ليست صفقة، لكنها قبلة حياة يمنحها جيل مهدي عاكف لكي لا يكون المرشد الأخير. هي عودة إلى العمل تحت الأرض تفاديا لضربة حاسمة تطيح التنظيم. وهي عادة «إخوانية» في تلقي الضربات بالاختباء وتجنب الصدام المباشر.

الدخول في الكهوف مرحلة لن تكون سهلة هذه المرة، وخصوصا مع وجود حزب منشق عن الإخوان تحت التأسيس (الوسط) يستقطب شرائح من المرتاحين لموديل الحزب الإسلامي الحديث أكثر من جماعة الدعوة المسيسة. كما أن النظام قرر السماح بأوسع مساحة من ضرب أفكار «الإخوان» في مقتل. ولم يكن من الممكن في ظل التفاهم مع «الإخوان» السماح بفيلم أسامة فوزي الجديد «بالألوان الطبيعية» المتصادم مع نظرة متخلفة تعتبر الفن حراما، وتضع الرسم في مواضع الكفر. وفي الوقت نفسه يتم تصوير مسلسل عن حسن البنا ضد رغبة الجماعة أو العائلة.

مرحلة الكهوف لن تكون استراحة محارب كما كانت في الفترات السابقة. كيف ستكون؟ هذا سؤال الأيام المقبلة التي من المفترض أن ينتخب «الإخوان» فيها مرشدا جديدا وهناك اتفاق شبه نهائي على أن يكون محمد رشاد البيومي، أستاذ العلوم المحافظ القريب من الطبيعة الهادئة لا الخشنة التي تميزت بها فترة مهدي عاكف. وربما هذا أول ملامح الكهوف الجديدة لـ«الإخوان».

نرجسية الجهل

نصر حامد أبو زيد ممنوع من دخول نقابة الصحافة في مصر. واقعة تكشف عن خوف من شيء ما، ربما من القلق الذي أثارته أبحاث أبو زيد، وتحريكه لحال الطمأنينية الراكنة إلى «نرجسية الجهل»

الغريب ليس منع نصر حامد أبو زيد من دخول نقابة الصحافيين. الغريب فعلا هو القوة التي تجعل أحدا ما يفكر في منع شخصية مثل أبو زيد من دخول نقابة «الرأي» و«الحرية». من أين أتت هذه القوة؟ غالبا هي قوة الجهل.

الفخر بالجهل ينتشر ويتخذ من نرجسية «الفرقة الناجية» ورقة صدقية من نوع خاص. الجهل الفخور يتدعم بمنطق جيش الدفاع عن العقيدة أو التقليد. جيش خلاص ينتمي إليه الشخص بمجرد تصوره امتلاك «الحقيقة المثالية».

«بيزنس» خاص له وكلاء وعملاء. تتسرب فيه فكرة الفريضة الغائبة. جعلها سيد قطب وعبد السلام فرج الفريضة السادسة في الإسلام، وتكونت بسببها جماعات تغيير بالهجرة والعنف، وارتاح إليها مؤمنون يريدون رفع رصيدهم من «الثواب» عند الله والفوز بالجنة المنتظرة.

جيش الخلاص ينتشر لأنه بلا نظام ولا يتطلب سوى الإيمان بالفريضة الغائبة، وبأحقيتك في «تغيير» الآخرين قبل التفكير في تغيير نفسك. القياس على الموديل الجاهز. المتعارف عليه من السلف. المتوقف عن التطور منذ 15 قرنا. هذا هو الجهاد المنتظر.

وغالبا فإن صاحب قرار منع نصر أبو زيد لم يفكر في قراءة أحد كتبه في يوم من الأيام. تعامل معه كرمز لمعركة شرسة يريد الجهل فيها إعلان نفسه حاكما للعقل، ومسيطرا على الحياة في مصر.

ليس معنى هذا طبعا أن أبو زيد يقدم حقيقة بديلة، أو أنه داعية أفكار جديدة. لكنه رمز للخروج عن قطيع الباحثين في الجامعات، الذين يسيرون وراء الخطوط الحمراء ولا يعرفون سوى المعروف مسبقا ولا يثيرهم الاكتشاف.

نصر أبو زيد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب أبحاثه في جامعة القاهرة عن المناهج الجديدة في دراسة النص الديني. قدمها عام 1993 للترقي إلى درجة الأستاذ، فاصطاده قناصة التكفير واتهموه بأنه مرتد. واكتملت الدائرة المرعبة بدعوى التفريق بينه وبين زوجته، أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة، الدكتورة ابتهال يونس. خرج نصر أبو زيد في 1995 إلى أمستردام، لتبدأ رحلة «منفى ثقافي». الرحلة لم تنته كما بدا من عودة أبو زيد إلى القاهرة قبل سنوات. واقعة نقابة الصحافيين أكدت أن هناك من يفكر في اعتبار نصر أبو زيد رمزا للفكر القلق الذي يجب مطاردته ومنعه عن الناس.

القلق هو الفعل الغائب في مصر. جيش الخلاص يجر المجتمع إلى اطمئنان، تكون فيه مصر وطنا لدين واحد أو تيار سياسي واحد أو عائلة واحدة، أي أقرب إلى قبيلة يحكمها فكر واحد وحزب واحد وحقيقة مطلقة لا يعلم سرها إلا الكهنة والحكام. وهذه كارثة مهربها الوحيد هو القلق.

تجلي اليأس

تجمع ينتظر تجلي «العدرا» (خالد دسوقي ــ أ ف ب)تجمع ينتظر تجلي «العدرا» (خالد دسوقي ــ أ ف ب)أين ستتجلى «العدرا» اليوم؟ تسابق المصريون طوال الأيام الأخيرة في مطاردة طيف السيدة العذراء. المصريون، مسلمون ومسيحيون، طافوا بكنائس يحدث فيها التجلي المقدس. تجلي «العدرا» علامة، بعيدا عن حقيقة الظهور وهل هو ظهور افتراضي أو حيلة من ألعاب الكهنة. التجلي معجزة يرفض الكهنة مناقشتها، ويعتبرها الغلاة تجديفا واعتداء على العقيدة. لا يهمهم أنها إهانة للعقل أو تحد ثقيل للعلم.

التجلي علامة على يأس كبير. كما كان ظهور العذراء بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ علامة انتظار معجزة للخروج من الهزيمة. يومها، عندما ظهرت في كنيسة الزيتون وسط تهليل إعلامي ودعم كهنوتي وسياسي، استغل نظام عبد الناصر المعجزة لتأكيد التأييد الإلهي له رغم الهزيمة. دلالات الظهور الآن مختلفة بالتأكيد. ربما هي إعلان يائس عن الرغبة في الخروج من الوضع القائم. والبحث عن قوى علوية في لحظة انتقالية. وربما هي محاولة لإعادة جزء من توازن القوى بين المسلمين والمسيحيين في مصر. ظهور كبيرة الأيقونات المسيحية دعم علوي من السموات للأقباط الذين يشعرون بالاضطهاد.

البابا شنودة أصدر بيانا يؤكد فيه تجلي العذراء، لكنه في تصريحات تالية أنكر علاقة الظهور بالأزمات في مصر. أنكر العلامة السياسية وأراد بقاء المعجزة. المعجزة تمنح البابا سلطة. وتجعله مشاركا في الكعكة، بينما يفتح ربط التجلي بأزمات اليأس العمومي باب جهنم لأنه يكشف عن سر انتظار «الغلابة» للسيدة صاحبة التجلي.

اللعبة سياسية تتفق فيها السلطات على حذف العقل. حرب ميتافيزيقا. انشغل فيها غلاة المسلمين بالنقاش حول ظهور الرسول. يريدون معجزتهم لتواجه معجزات «النصارى». معجزة تصوب باتجاه معجزة، والعقل في استراحة المتعب. ينام انتظارا لتذكرة الجنة.

سلطة رجال الدين تعتمد على الآليات نفسها التي تصنع من العقل عدوا. تمنع بعض المواعظ التفكير لأنه يهدد العقيدة ويغضب الله، بينما الحقيقة أنه يزلزل سلطة رجل الدين. وبالآلية نفسها يصبح الديكتاتور سيدا على شعب ينتظر المعجزات ويعتبر أن الحاكم قدر لا يمكن تغييره.

يعيش الديكتاتور ورجل الدين في نعيم الجهل والغفلة والعقل المبعد في ثلاجات لا تفتح، نعيم الطاعة والتسليم لا التفكير.

معجزة «العدرا» في الستينيات كانت تأييدا لنظام مهزوم. واليوم ظهورها هو احتجاج لاواعٍ على نظام استقر طويلا. التجلي كاشف بعد أكثر من ٤٠ سنة. فلا السماء نصرت المهزوم ولا جعلت النصر يمسح آلام الهزيمة. كما أن الحاجة للمعجزة هي في الوقت نفسه إعلان للعجز.

 مقالات لـلكاتب وائل عبد الفتاح في جريدة الأخبار اللبنانية

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات