تقولُ القاعدة "إنّ ما لا يُدرَكُ جلُّه لا يُترَكُ كُلُّه" ورغمَ تلك المقولة التي تبنّاها المنطقيّون وأصحاب الفلسفة البيانيّة راحَ المُطبَّقون يتركونُ كلَّ المفاهيم بسبب عدمِ استيعابِهم للنجاح المرحلي وعدمِ قبولهم للتغيّرات التدريجيّة في سلبيات كانوا يودّونَ علاجها وأصرّوا على قاعدةٍ خياليّة تقولُ "البابُ الذي تأتيكَ منهُ الرّيح سُدَّهُ واستريح" فسدّوا أبوابهم ولم يرتاحوا وأغلقوا على أنفسهم فاندثروا ..
ولا علمَ لي كيفَ بُنَيِتْ القواعدُ التي منها يستلهمُ العلماء نتائجُ فتواهم أو مُخرجات أحكامهم سوى ما درستُه وتعلّمتُه بأنّ "الظواهرَ والاستقراءَ والنّصَّ" هي ثلاثيّة القاعدة المطّردة،إلا أنّ لي علماً بأنّ كلّ قاعدةٍ يجبُ أن تنسجمَ مع جميع فروعها التطبيقيّة اختياراً وسلاسةً لا إرغاماً وتعسُّفاً وتطويعاً،والعقلُ الفطري يدعونا لأن نجزمَ بأنّ ما مِنْ قاعدةٍ إلا ولها خُروقاتٌ بسبب الإنسان وليس لأنّها ليستْ قاعدةً أصلاً ..
في جزئيّاتِ حياتنا وتنقّلات أفكارنا بين الحقّ والخطأ والصواب والمرفوض تَعْرِضُ لنا قواعدُ كثيرة نقتنعُ ببعضها ونُحوّرُ بعضاً منها ونضرِبُ بباقيها عرضَ الحائط،ولا يعنينا إنْ كانتْ تلك القواعدُ الملغيّة من تأثُّرنا أصيلةَ الوجود أم افتعاليّة التقعيد،ونبتكرُ من خلال ما نقومُ به من مخالفات وأخطاءٍ واضحةٍ لأهدافٍ شخصيّة قواعدَ نُرضي بها ضمائرنا ولو لم نهتدِ إلى صيغةٍ نُظهِرُها بها للناس ..
والقاعدةُ تقول "إنَّ لكلّ فِعلٍ رَدَّةُ فِعْل" وحيثُ وُجِدَ الحِراكُ في الأشياء وُجِدَ التغيُّرُ لا محالة،فلا سبيلَ لأنّ يُطرَقَ البابُ ولا يصدُر صوتٌ لذلك الطّرق،ولا سبيلَ لأنْ تنتشرَ رائحةُ الياسمينِ ولا يكون في محيط مصدر تلك الرائحةُ وردةُ ياسمينٍ واحدةٍ هي من أثارَ في الأنوفِ طيباً،لكنّ عُتاةَ المُحكَّمينَ وطُغاةَ المُنظّرين أرادوا أن تكونَ القاعدةُ المارقةُ هي الفيصلُ في الأفعال واقتنعوا بأنّ قاعدتهم تقول "إنّ الفِعلَ من صاحبِ الوصايةِ يستلزمُ ردّةَ فعلٍ واحدةٍ متكرّرة هي الاستجابة فقط" فكّرَّروا ما يفعلون واستكثروا على الناس تأوُّهَهم وهم يتألّمون ..
عندما أرادَ علماءُ "الكلام" إثباتَ وجود الخالق قالوا "إنّ كُلَّ إنسانٍ حادثٌ وكلُّ حادثٍ مخلوقٌ فالإنسانُ إذاً مخلوقٌ ولا مخلوقَ بغيرِ خالقٍ فالخالقُ موجودٌ" ثمّ استطردوا وقالوا "ولمّا استقرَأَ المبصرونَ تشابُهَ الناس في هيئاتهم وتركيبِ أجسادهم ووحدةِ أعضائهم فالخالُقُ واحدٌ إذْ لو تعدَّدَ لاختلفَ إنتاجُه" وبذلك أثبتوا بأنّ لا خالقَ إلا واحدٌ لكنّهم احتاجوا للنصّ القرآني والتوراتيّ والإنجيليّ لكي يقنعوا غيرهم من "اللادينيّين" بأنّ الواحدَ هو الله ..
ومن وصَلَ لهذه القناعة بأنّ "القاعدة" مفهومٌ مشتركٌ بينَ كلّ المتصارعين في حضاراتهم والمتنافسين في موروثهم الثقافي والدّيني سيُدرُكَ بأنّ فتنةَ "تنظيم القاعدة" داءٌ عظيمٌ تسلَّقَ كلّ "قاعدةٍ" إسلاميّة ودينيّة وتمسَّكَ بأصولٍ يدّعي أنّها تسوقُهُ إلى ما يريد وتقودُه إلى ما يصبوا إليه فأضرَّتْ هذه الفتنةُ بقواعد الدعوة الربّانيّة لدينِ الله الواحد وخالَفَتْ كلّ قاعدةٍ فقهيّة تُحاربُ الضّرر ..
صحيحٌ بأنّ "القاعدة" ردّةُ فعلٍ غيرُ متوقّعة في الحجمِ لما يُعاني منه المسلمون في مشرق الأرض ومغربها من قهرٍ وظلمٍ وتضييقٍ من أعدائهم،ولكنّ الذي ليسَ بصحيحٍ أنّ "القاعدة" تستندُ لقاعدة مستلهَمَةٍ من ًأصولِ الدّين الحقّ ونصوص الشريعة المُفسَّرة من الراسخين في العلم،وواقعيٌّ جداً أن تصلَ الحروبُ بينَ من اقتنَعَ بفتنةٍ أنّها دينٌ وبينَ من اقتنعَ بقوّةٍ أنّها حقٌّ،ولكنَّ الواجبَ على من يعرفُ "قاعدةً" تقولُ "ولا تسبّوا الذينَ يَدعونَ من دونِ اللهِ فيَسبّوا اللهَ عَدْواً بغير علم" أن يجتهدَ والمساحات الثقافيّة والعلميّة في سبيلِ إعادة الأمور لقواعدها سالمة ..
تنظيمُ القاعدة يتبنّى "محاربة الكفار وضربَ مصالحهم" والقاعدة تقول "الفتنةُ أكبرُ من القَتل" وتنظيمُ القاعدة يضعُ قاعدةً لأمريكا "بأنّها لن تهنأَ بالعيش والرّغد ما لم يكن العيشُ الرغيدُ واقعاً لأهل غزّة" والقاعدةُ تقول "إنْ تكونوا تألمونَ فإنّهم يألمونَ كما تألمون وترجُونَ من اللهِ ما لا يرجُون" وتنظيمُ القاعدة "يُرسِلُ نُشطائه لموتٍ مُحقّقٍ وتصفيةٍ مؤكّدَة لمن يحملُ النواسفَ أو المتفجّرات" والقاعدة تقول "قُلْ هلْ تَربَّصونَ بنا إلا إِحدى الحُسْنَين" وليسَ التربُّصَ لحسنةٍ واحدةٍ فقط ..
لم يبقَ مسلمٌ في كلّ الدنيا إلا ويعرفُ بأنّ العودة "للقاعدة" التي انطَلقَ منها الرسول صلى الله عليه وسلمّ في دعوتَه بأمر ربّه "واصبرْ نفسَكَ مع الذين يدعونَ ربهم بالغداةِ والعشيّ يُريدونَ وجهَه" هي طوقَ النّجاة من فتنةِ "تنظيم القاعدة" وهي الخلاصُ الواضحُ من قاعدةٍ تهدمُ كلّ قواعد الدّين بتهوّراتٍ أودَتْ بمُقدّرات الأمّة واستحقاقات الشعوب الإسلاميّة إلى مرمى سهامِ كلّ عدوّ ومُتربّص ..
ولعلّ التصدّي "لتنظيم القاعدة" الذي أهلكَ الحرثَ والنّسلَ الإسلاميّ قبلَ الغربيّ ينقُصُه "القاعدة" بكلّ معانيها ومراميها اللغوية والمنطقيّة والاجتماعيّة لتكونَ الجهودُ واحدة والمحاربة متوافقةٌ مع الأهداف الراسخة للدين الإسلامي الذي لا يرضى بأنْ يؤخَذَ الكُلُّ بجريرة البعض والعالمَ الإسلاميّ أجمع بقومٍ اتّخذوا من "قاعدة "الشرّ يعمُّ والخير يخصُّ" قاعدةً لتصرّفاتٍ لا مسئولة ..
إنّ بناءَ فكرٍ إسلاميّ مستندٍ لقواعدَ راسخةٍ في هذا الدين الأصيل منبعاً وبلاغاً هو الأوّلُ على قائمة أولويّات الساسة الحكماء والقادة الفطنين ولو أخَذَ منهم عُمُراً وزمناً ومالاً،وإنّ إيقاظَ النائمين والغافلينَ عن قواعد الفقه الإسلامي في حربه وسِلمه ومعاهداته وعلاقاته مع التكتلات غير الإسلاميّة هو المهمّة التي لو بادرَ إليها مسئولو التعليم والاجتماع في عالمنا الإسلامي لظهَرَ للصغير والكبير والذكر والأنثى أنْ لا "قاعدَةَ" لتنظيم القاعدة ..
وفي القرآن الكريم تنبيهٌ لطيفٌ إلى أنّ التعبير بكلمة "القاعدة" يوحي بأنّ من أرادَ القضاءَ على شرًّ لا بدّ أن يبدأ من "القاعدة" كأساسٍ للإزالة الناجعة والوافية وفي ذلك قال تعالى "فأتَى اللهُ بُنيانَهم من القَواعدِ فَخرَّ عليهم السَّقفُ من فوقِهم" وحريُّ بنا أن نأتيَ لأوهامِ "تنظيمِ القاعدة" من قواعده بقواعدنا لنسلَمَ ويختفون ..
وفي قاعدة حفظ الضروريّات الخمس "الدينُ والعقلُ والنفسُ والمالُ والعِرض" أكبرُ وأفضلُ الأراضي خصوبةً وإنباتاً لإثباتِ الباطلِ على من يقتنعُ بفكر "تنظيم القاعدة" لأنهم يستخدمونَ ذاتَ هذه القاعدة في توجّهاتهم وأدلّتهم ناظرينَ لحفظِ الدين بإهلاك النفس والمال والعقل والعرض،وهو حقٌّ أُريدَ به باطل،لأنّ حفظَ الدين في المكان الموجود به أولى من التهوّر بالدين في أمكنةٍ تسبُّ الله ورسوله،وحفظَ الأنفس المعصومة بشهادة الحقّ أولى من حربٍ غير متكافئة يتصدّرُ لها الشيطان بتأجيجِ نارها بُغيةَ الفرقة والتشرذم ..
وكما أنّ الأنفَ بالأنف والأُذن بالأُذن والسِّنّ بالسِّنّ والعينَ بالعين والجروحَ قصاص فإنّ الفكر بالفكر والقاعدة بالقاعدة الهجومَ بالتصدّي والخرابَ بالبناء والاحتيالَ بالاحتراز والإفشال بالحذَر والأخذ على يدِ الظالم أولى من محاربة عدوّ بعيد ..
التعليقات (0)