المشهد الأول من القاهرة :
انتاب المحامي مرض مفاجئ .. فأناب عنه محام شاب ليعتذر إلى محكمة الجنايات .. وليلتمس منها تأجيل نظر جناية لحضور المحامي الأصيل .. إلا أن القاضي رفض التأجيل وشرع في نظر القضية في غياب المحامي الأصيل منتدباً محام آخر .. إلا أنه في ظل تمسك المتهم على بمحاميه الأصيل فقد أصر المحامي الشاب على طلب التأجيل معتبراً ذلك حقاً من حقوق المتهم والدفاع أيضاً وواجباً تفرضه العدالة ..
إلا أن القاضي إعتبر لغة المحامي غير لائقة وتمس هيبة القضاء فأمر حرس المحكمة على الفور بالقبض على المحامي وحشره بقفص الاتهام وهو برداء المحاماة بجوار المتهم الذي وقف ليدافع عنه !!!..
المشهد الثاني من أسوان:
دخل السيد الضابط الحجرة فلم يعجبه منظر أحد المحامين الذين كان جالساً واضعاً قدماً على الأخرى.. فنهره الضابط طالباً منه إنزال قدمه.. فتحرج المحامي وطلب من الضابط أن يتحدث معه باحترام.. إلا أن الضابط زاد في الإساءة ونكاية في المحامي فقد قام بوضع القيود الحديدية في يد المرأة التي كانت بصحبة المحامي ليحرر لها محضراً ..
فانزعج المحامي منبهاً الضابط إلى أن هذه السيدة جاءت كشاكية ومجنياً عليها وليست كمتهمة!!!
إلا أن الضابط قال له .. انت هاتعلمني شغلي يا .... فرد المحامي الإساءة عن نفسه ..
وهنا قام الضابط بالاعتداء على المحامي بالضرب والركل .... إلخ
المشهد الثالث من وجه بحري :
دخل المتهم غرفة التحقيق بصحبة محاميه الذي أفزعته تلك الإصابات والجروح المتورم بها جسد المتهم.. والتي زاد عليها توبيخ وكيل النيابة للمتهم وإهانته.. فما كان من المحامي إلا الاعتراض طالباً إثبات ما لحق بالمتهم من إصابات وتعذيب..
إلا أن المحامي قد ناله ما ناله من جزاء "مستحق" على تجرؤه في حضرة السيد النائب عن الشعب بما لا يختلف عن المشهدين عاليه كثيراً !!..
هذه ثلاثة مشاهد رمزية تنتصب خلف كل منها مئات وربما آلاف النماذج المتكررة على امتداد خريطة مصر.. والمتفاوتة من حيث الجسامة والإساءة والإهانة ..
وللأمر جذور ولا شك ضاربة في عمق هذا المجتمع .. حيث انعدمت العلاقة الضابطة والفاصلة بين الحقوق والالتزامات.. وصار الارتجال سيد الموقف أو سيداً موازياً أو موارباً أو موارياً لسيادة القانون ..
والأمر يبدأ من لحظة إختيار كوادر أو أعضاء هذه السلطات ..
حيث يسود شعور "شديد القوة " بين الناس يروجه العامة ومحيط من يتم اختياره وترشيحه وإنجاحه بتسلل الواسطة سواء بالمال أو بالحسب أو بالنسب أو بالتوصية.. وكذا غياب الكفاءة العلمية والذهنية في اختيار من يقومون على أخطر وأهم المناصب الماسة بحياة ومعاملات وعلاقات ومنازعات وقضايا ومشاكل الشعب ..
فنتج عن ذلك إفرازات اغترت بغرور السلطة .. وارتدت رياش الطواويس.. وصارت تمشي في الأرض تيهاً وتجبراً .. وكلها يقين أن مناصبها تمكنها من أن تخرق كرامة الناس وأن تبلغ الجبال طولا!! ..
إفرازات اعتقدت أنها من القداسة والحماية بمكان تسمو بهما على كل كائن وعلى كل رأس وعلى كل شيئ في هذا البلد .. تفعل ما تشاء . وترى ما تشاء.. وتأمر بما تشاء .. وتزدري من تشاء.. وتسحق وتمحق من تشاء.. !!
إفرازات صارت تضع السلطة والبطش والتعنت والتعسف أمامها بينما ازدرت الحق والعدل والانصاف خلف ظهورها.. فمالت بميلها موازين الأمور..وضاع بضياع بوصلتها أمان الصدور..
وصار العدل غريباً في أرضه .. وبات الحق مطلباً عزيز المنال عند الناس .. والشعور بالفوضى وشريعة الغاب أدنى لأحاسيسهم وأقرب ليقينهم بعد أن رأوا بأعينهم أن الموكلين عنهم وحماة حقوقهم والمترجمين لمظالمهم والمتحدثين بألسنتهم.. أصحاب الأرواب السوداء!! .. القضاء الواقف !! وحملة لواء الدفاع عنهم أمام منصات القضاء ..وفي ساحات المحاكم ..وفي حجرات التحقيق ..وفي دهاليز أقسام الشرطة يهانون ويمتهنون ويسحقون تحت الأقدام التي تشاكلت أنواعها وتداخلت ألوانها ما بين قضائية أو نيابية أو تنفيذية..
وعند الاحتجاج أو التلويح بالإضراب من المنتمين لمهنة المحاماة اعتراضاً على تلكم الإهانات والإساءات والإعتداءات المتكررة حد الانتظام والمصاعدة حد الظاهرة يكون العلاج واحداً دائماً هو تدخل القيادات الأمنية ممثلة غالباً في مدير الأمن.. والسياسية ممثلة في المحافظ .. والقضائية ممثلة في رؤساء المحاكم .. أونيابية ممثلة في المحامي العام أو النائب ..
ويتم "تطييب" خاطر المحامين المهانين المنكسرتين "بكلمتين" وكأن شيئاً لم يكن .. وبراءة الأطفال في أعين السلطة ورجالتها بكل أطيافهم وأنواعهم واختصاصاتهم ... ثم تعود ريمة لعادتها القديمة .. وهكذا دواليك !!
فسقطت هامة المحاماة وصار المحامي مدعاة لشفقة الناس بعد أن كان ملاذاً وحامياً لهم ..
وصار المحامي مثار سخرية "الهيئات " والملتحمين بالسلك القضائي والتنفيذي ..
وصار المحامي هدفاً وصيداً لمن أراد أن يستعرض شواربه ..ويفرد عضلاته.. ويعوض نقص شخصيته.. ويفرغ ساديته وشوفينيته ابتداء من أصغر مخبر مروراً بأمناء الشرطة ..والضباط.. وموظفي المحاكم.. ومعاوني النيابة ..ورؤسائها.. انتهاء بمنصات القضاء ... فتهاوت المهنة ..وتصاغرت ..وفرغت من محتواها ودلالتها.. وطويت رسالتها ..
وباتت مجرد مهنة للباحثين عن لقمة العيش المغموسة بمرارة الهوان وزاد من ذلك تلك الضحالة.. والفقر الفكري .. والأنيميا المعلوماتية .. وسقم الرافد القانوني.. وتعمد التقزيم .. وقتل الملكة التي يعاني منها فرسان المحاماة ..
لتسقط بذلك راية أخرى من رايات الحرية ..
ولتتهاوى قلعة أخرى من قلاع الحق..
ولتنمحي ضمانة أخرى وربما أخيرة من ضمانات العدالة ..
وليعلو ويعلو..
صوت الأنين !! ...
التعليقات (0)