اشتهر المغرب الأقصى على امتداد تاريخ طويل حافل بالأمجاد بعدل قضاته وجرأتهم في الحق، ومن المسلم أن العدل قسيم الملك وأن الدولة الجائرة مصيرها إلى الزوال
ولو بعد حين، كما أن الدولة العادلة منصورة مهما اعترضت سبيلها المحن وتكالب عليها الأعداء، ولعل الكثيرين لا يرون في ازدهار حضارة ما غير جانب العلم والأدب والعمران والاقتصاد والقوة العسكرية وغير ذلك من لوازم قوة الدولة وتوابعها، والحق أن كل تلك اللوازم لا معنى لها ما لم تؤيد بالعدل فبه يبلغ الرقي منتهاه ويصل التمدن مداه، وكذلك كان حال المغرب في كل تلك العهود التي احتل فيها مركز الصدارة بين الأمم مقيما للعدل محافظا على قيمه، وفي كتب التاريخ تمر بنا نماذج مشرقة من مواقف قضاتنا الأفذاذ فلا نملك غير أن نكبر تجردهم للخالق حين يقضون في الخلق. فهذا المنصور الموحدي بجلالة قدره يذعن حين يأمره قاضيه برد أخته إلى زوجها وكانت تركت زوجها مغاضبة واحتمت بحضرته، وهذا المنصور الذهبي العظيم يمتثل لحكم قاضيه في بغلة من بغال عسكره قضى فيها على الخليفة بأداء يمين الاستحقاق فما كان منه إلا أن سلمها لرجل ادعاها لنفسه بالباطل دون أن تأخذه العزة بالإثم ودون أن يلجأ لسلطانه وقوته في حسم النزاع. و القاضي السلمي واحد من هؤلاء الذين شبوا على قول الحق وأنصفوا الناس من أنفسهم و ذويهم. يقول ابن عبد الملك في «الذيل والتكملة»: «كان مشكور السيرة, مشهور النزاهة والعدالة نبيه البيتة، كريم الطباع، أنقى لا يلبس إلا البياض». و يقول ابن سعيد صاحب الغصون اليانعة «ومن المشهور عنه في قضائه العدل في الأحكام وقلة النزق عند اختلاف الخصام».
ولد القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله السلمي بأغمات، حسب رواية المقري في أزهار الرياض ورواية ابن عبد الملك في الذيل والتكملة، وقيل إن أصله من مدينة فاس وبها استوطن في شبابه.
وكان ذا مكانة مرموقة بها، إليه يفزع الناس في الفتيا وأمور الدين، فنبه ذكره ثم صار من جلساء السلطان فأسند إليه خطة القضاء والخطابة.
وقد ابتلي السلمي ببعض المتزمتة الذين يعتقدون أن ليس في الدين فسحة للترويح عن النفس فتسقطوا عثراته وشغلوا أنفسهم بالبحث عن عوراته، ويبدو أنه أوجد لهم على نفسه سبيلا بأشعاره وغزله، وقد يظن البعض أن كل تغزل إنما يقصد به التوصل إلى امرأة بعينها ولعلهم يضعون لهذه المرأة في خيالهم أوصافا مخصوصة تهوي بغزل تلك الثلة من ذوي الأحاسيس المرهفة إلى حضيض الجريمة ليسهل بعد ذلك الإنكار عليهم، فهي ولا شك (حسب أخيلتهم) لا تحل للمتغزل إذ لا يكون التشهي مع القدرة على النكاح، وحسبهم في ذلك أن يستدلوا بقول الشاعر :
ما الحب إلا قبلة و غمز كف و عضد
ما الحب إلا هكذا إن نكح الحب فسد
ومثل قاضينا كان ابن حجر العسقلاني بارعا في الغزل مع عفة وصيانة للجوارح عن الوقوع في الحرام ومخالفة لأهواء النفس وغيرهما جيش عرمرم من الفقهاء والمحدثين كانوا يطلقون الأعنة لألسنتهم ويلجمون جوارحهم عن الزلل
وما كان أقوى سلطان أولئك المتزمتة الذين ألجؤوا أبا عنان المريني نفسه للتغزل خفية في جلسات ممتعة مع لسان الدين بن الخطيب، لم يكن غزل السلمي مجونا ولكنه ترويح مقبول عن النفس لم تقبله عقول أعدائه ومن بديع نظمه في هذا الباب:
لها ردف تعلق من لطيف
و ذاك الردف لي و لها ظلوم
يعذبني إذا فكرت فيه و يتبعها إذا رامت تقوم
وحسب سامعه أن يعلم أن ابن سعيد عده من كنوز المعاني فما يعنينا بعد ذلك أن يعده أعداؤه من خوارم المروءة.
وحدث بفاس من سوء حظ قاضينا - وقلوب الفاسيين متغيرة عليه يومها - أن ابن أخ له غصب امرأة على الدخول إلى بيته فأبعد عن القضاء والإمامة بعد إقامة الحد على ابن أخيه وقتله، وقد أمر المنصور الموحدي السلمي أن يلحق به في مراكش حتى تستقر الأوضاع لما يعلمه من صفاء سريرته وطهارة ذيله، ثم أشخصه بعد ذلك إلى إشبيلية قاضيا، فمثله ممن لا غنى عنه في أعمال الدولة، فحمدت سيرته هناك وظل بإشبيلية إلى أن وافته المنية.
كان القاضي السلمي لين العريكة لا يستهويه الثأر لنفسه وإنما يكون غضبه للحق لا لشيء سواه وتلك لعمري صفة القاضي العادل الذي تستقيم به أحوال البلاد والعباد، ومن أخبار حلمه ما ساقه ابن عبد الملك في الذيل والتكملة من أن أبا العباس الجراوي الذي عرف بشدته وقسوته على مخالفيه نال منه في بعض أشعاره ورماه بالتخنث وبالغ في هجائه ومن قوله :
قينة في فاس تدعى عمرة
ذات حسن ودلال وخفر
نصف السن ولكن يرتجي
رد ما فات بتسويد الشعر
قل لها عني إذا لاقيتها
قولة تترك صدعا في الحجر
هبك كالخنساء في أشعارها أو كليلى هل تجارين الذكر؟
نبغت عمرة بنت ابن عمر
هذه – فاعتبروا- أم العبر
ورغم اجتراء أبي العباس على السلمي فإن أبا حفص «لسمو همته وعلو منصبه أعرض عنه ترفعا عن مقاولته وأنفة من الانحطاط إلى مشافهته» فما أبعد ما بينه وبين من يتخذ علو المنصب مطية لأذى الخلق واغتصاب حقوقهم، ونلمس في رده على الجراوي سموا أخلاقيا تقصر دون وصف معناه الأقلام، قال السلمي حين بلغه ذلك الهجاء : نهاني حلمي فما أظلم وعز مكاني فما أظلم
ولا بد من حاسد قلبه بنور مآثرنا مظلم
ومع كل ما صدر عن أبي العباس مما تقطع بسببه الأرحام وتنفصم معه عرى المحبة والوئام وتحل بقوله الحرب محل السلام، فقد استوهب القاضي نسخة كتاب في السيرة النبوية فريدة في بابها فوهبها له ولم يلتفت لإساءته فكان أبو العباس إذا سئل بعدها عن القاضي قال «ريحانة القضاة».
ومن نوادر ما نقل الرواة في حضور بديهته وتوقد ذهنه أنه خرج ذات مرة مع شيخه أبي ذر النحوي في نزهة فأثرت الشمس في وجهه وكان وسيما فقال أبو ذر :
وسمتك الشمس يا عمر وسمة بالحسن تعتبر
فأجاز السلمي قائلا :
علمت قدر الذي صنعت فانثنت صفراء تعتذر
وإذا علمنا أنه أدرك هذه المكانة في تقريض الشعر في زمن الصبا تحقق لدينا أنه كان سيأتي في نظمه بالمعجزات في كبره لو ترك لحال سبيله ولم يتعرض للتضييق الذي تعرض له على أيدي خصومه.
توفي القاضي السلمي بإشبيلية عام 602ه في رواية المقري وفي صلة الصلة ذكر ابن الزبير أن وفاته كانت عام 604ه مضيفا أنه عزل عن خطة القضاء ثم أعيد إليها وظل قاضيا بعد ذلك إلى أن وافته المنية.
التعليقات (0)