مواضيع اليوم

الفوضى والدراما

محمد أنقار

2010-12-22 13:51:10

0

الفوضى والدراما

 

 


 

 

محمد أنقار
 

 

 

 

 

 

 


افتراضات

الجمع بين الفوضى والدراما في معادلة فنية واحدة يعني قبولَ التحدي المرهِق. فالفوضى نزوع نحو الاستطراد، والتفريع، والتشتيت، والتضاد، والخلط، والثنائيات المتشابكة، والتعقيد، بينما الدراما تقتضي إخضاع كل ذلك للإقناع المنطقي، والتعليل، والتبرير. وإلى جانب ذلك يُفترض في الدراما أن تكون وسيلة متوازنة في تنظيم فوضى السرد الفيلمي. وهي في ذلك شبيهة بوظيفتها في السرد الروائي، مع اختلاف نوعي. ومن الواضح أننا نتحدث هنا عن الفوضى التي يصارعها الفن من أجل إخضاعها لضوابطه ورؤاه. ولن نستطرد في هذا المقام من أجل الحديث عن "فوضى الحواس" التي عاركتها الكاتبةُ أحلام مستغانمي في روايتها الشهيرة، ولا الخوض في مسألة فوضى الواقع الخارجي ومدى انعكاسها على تكوين الشريط السينمائي، مثلما لن نخوض في الإشكال الأزلي الذي تساءل خلاله الفكر عن طبيعة العلاقة بينهما؛ وإنما سنفترض مبدئياً أن الواقع الخارجي وانعكاسه الفني أمران متداخلان ومنصهران في بعضهما بعض، وأن الصورة أو على الأصح الصور الأدبية والفنية عموماً تترجم عملياً ذلك الانصهار. إن فوضى الواقع وفوضى الفن يذوبان في بعضهما ولا يظل ثمة أمام الناقد سوى فوضى واحدة: فوضى الإبداع.
 

شاهين والصخب

لست أدري لماذا أتصور باستمرار أفلام يوسف شاهين وهي في احتداد لا يكاد يتوقف. صخب قريب من الفوضى أو هو الفوضى بعينها. حركات متسارعة مفعمة بالشتائم واللكمات والصراع والعنف والإغراء. هل هي سمات تكوينية في كل سينما العالم الثالث؟. بالنسبة إليَّ تبدأ هذه السلسلة الشاهينية من "باب الحديد" (1958) وتنتهي ب"هي فوضى" الذي أخرجه بالاشتراك مع خالد يوسف. أكيد أن ثمة استثناءات، لكن الهيمنة في السلسلة معقودة للإيقاع السريع الصاخب. وهذا الأمر شبيه بالواقعية الإيطالية القديمة، وطائفة هائلة من الأفلام الإسبانية وبصفة خاصة روائع لويس بـِرْلَنْگا Luis Berlanga. أفلام الصخب، وتداخل الحوارات، وقِصرها، واللغط، والإيقاع السريع المتشنج. أفلام الفوضى؛ لـمَ لا؟. وهي ليست أفلاماً رومانسية على الإطلاق وإن لم تخل قط من مشاهد رومانسية، وشاعرية، وحتى حالمة. والطريف أن خالد يوسف نفسه يبدو كأنه يمضي في نفس التيار الذي بلغ أوجه في "دكان شحاته" (2009).
غير أن وجود عديد من القواسم الفنية المشتركية بين هذين المخرجين لن يعفهما معاً من المساءلة الدرامية.
تنظيم الفوضى

"هي فوضى" شريط سينمائي مصري من إنتاج سنة 2007. إخراج يوسف شاهين وخالد يوسف. ومن البدهي القول إنها "فوضى" في حاجة ماسة إلى تنظيم. حالات من الرّكام المشعَّث Chaos. "هي فوضى" تنـزع نحو التنظيم. كيف؟. في السينما كما في كل الفنون يُفضي التفكير في التنظيم بالمبدع إلى التفكير في الصنعة، أو في بلاغة التصوير، أو في عموم التكوين الجمالي. سمِّ الوسيلة ما شئت، لكن لابد في نهاية المطاف من تنظيم فني. ولا بد في نفس الآن من جرعة من الفوضى في كل فن. يقول نيتشه:
«الفنان يعرف أنه لن يكون لعمله التأثير الكامل إلا إذا جعل المتلقيَ يعتقد أن فيه شيئاً من الارتجال، أن ظهورَه للوجود لا يخلو من معجزة بسبب فجاءته، لن يفوته كذلك أن يسهم في هذا الوهم وأن يُدْخِلَ في الفن، في بداية الإبداع، عناصرَ الإثارة المُلْهَمَة، عناصرَ الفوضى التي تخبط خبط عشواء، عناصرَ الحلم المتيقظ، كلَّ الحيل الهادفة إلى تهييء روح المشاهد أو السامع بحيث تعتقد في انبثاق مفاجىء للإتقان».
إثر ذلك يحق لنا أن نتساءل عن الكيفية التي يمكن أن تُسهِم بها الدراما في وظائف الإقناعِ، والتنظيمِ السينمائي، وسكْبِ بعض الفوضى في فيلم يوسف شاهين وخالد يوسف.
موضوع الفيلم
حاتم (خالد صالح) أمين الشرطة في عهد جمال عبد الناصر حسبما يُستنتَج من صورة معلقة في دار أم وكيل النيابة العام. وتقوم الوقائع على فكرة تجاوز حاتم حدَّه في استعمال سلطته الرسمية حيث راح يبتز ويساوم عديداً من مواطني شوبرا أكبر حارات القاهرة. وهو على العموم مارس جل أنواع الموبقات؛ من رشوة، وخمر، وتحرش، واغتصاب، ومحاولة القتل، ثم أخيراً الانتحار. وفي خضم هذه الموبقات ينبثق موضوع الفتاة الوديعة نور (منة شلبي). هي أستاذة اللغة الإنكليزية التي تتعلق الشاب شريف (يوسف الشريف) وكيل النيابة العام وابن ناظرة المدرسة (هالة صدقي) التي تشتغل فيها نور. وتعيش الأستاذة مع أمها بهية (هالة فاخر) في شقة مجاورة لشقة حاتم فتثير الفتاة انتباهه فيتجسس عليها، ويتخيلها جنسياً، ويتحرش بها، ويتوسل بمختلف السبل من أجل الظفر بها. لكن الفتاة لم تستجب فضطر إلى ممارسة العنف معها. وفي ذات مرة أعد لها فخاً ساذجاً واستدرجها إلى جانب من النيل واغتصبها. وفي معمعة هذه الوقائع بسط الشريط أمام أعيننا قصة النائب العام وخطيبته المستهترة سيلفيا وغيرها من قصص الفساد السياسي والتعذيب والانتخابات.

مفهوم الفوضى

تصويرُ الفوضى ومحاولةُ تنظيمها ثم بثُّ الرسالة من خلال كل ذلك هي المهمات الأساس لمخرجي هذا الشريط وكل المجموعة الفنية التي شاركت في الإنجاز بمن فيهم السيناريست ناصر عبد الرحمن. وعندما نقول "فوضى" لايجب أن يتوقف الذهن عند ما هو اجتماعي أوسياسي فحسب؛ وإنما يفترض أن يمتد حتى إلى أدوات الإنتاج ذاتها ووسائل تحقيقه على المستوى الفني. وفي هذا السياق يمكن أن تُنجَز دراسات نقدية عدة تختصص كل منها باختبار مدى نجاعة كل وسيلة سينمائية في معالجة الفوضى وقدرتها على تنظيمها. ومن البدهي القول إن الأنسب إنجازُ دراسة شاملة تقيس الدرجات الفنية لكل تلك الوسائل مجتمِعة. وحيث إن تلك "الغاية الأنسب" تقتضي دراسة مفصلة وطويلة لهذا العمل السينمائي؛ سنكتفي في هذا المقام باختبار مدى نجاعة تلك الوسائل من منظور المكون الدرامي الذي يُفترض حضوره بقوة بين ثنايا كل الوسائل المعتمدة في الإنجاز.

مركز الفوضى

ألح الشريط على ترسيخ دلالات الفوضى في مخيلة المشاهد بمختلف الإمكانات المتاحة. ولقد اعتمد الإلحاح على الموضوعات مثلما اعتمد التكوين. أي إن التعويل على الصورة السينمائية الشاملة ذات الرسالة كان حاضراً بقوة. من بين تلك الإمكانات التركيزُ على الشخصية الرئيسة المهيمنة وتسليطُ الأضواء عليها أكثر من غيرها. إن الضابط حاتم هو المركز، ومن خلال حركاته وأساليب تفكيره نكتشف مختلف مظاهر الفساد، وشبكات الفساد، وضحايا الفساد. فقد عاش حاتم طفولة شقية عرف فيها الجوع والمعاناة والتشرد. وفي كبره استغل وظيفته فأمعن في الانتقام من المجتمع الذي أصبح بالنسبة إليه عدواً يجب أن يحارَب، وضحية يجب أن تُخدَع، وبقرة حلوباً يجب أن تُبتز، وبراءة يجب أن تُغتصب. وهو لم يرقَّ قط لضحاياه: أستاذة الإنكليزية الشابة، والمصوِّر، والراهب، وصاحب المقهى، والبائع، والسارق، والشرطي الآخر، والقائمة تطول.

المركز والتفريعات

وعلى الرغم من وجود الشخصية المركز أو الشخصية البؤرة تَم الاعتماد كذلك على أسلوب التفريعات. هل هي استطرادات زائدة أم تشتيت متعمَّد للصورة؟. هذا السؤال يجرنا إلى عمق الدراما وتطبيقاتها العملية. ذلك أن اختيار أسلوبي المركزية والتفريعات في نفس الآن لا يعني بتاتاً مبدأ التناقض. إن التركيز والتفريع وجهان لعملة واحدة. ولقد اقتضتهما معاً حَبكة العمل من دون أن يعني الاقتضاء أنهما متنافران. ذلك أن التفريعات تعود في الشريط باستمرار إلى الشخصية المهيمنة. هي قصص قصيرة جداً تنتهي بحلول أو تظل خواتمها معلَّقة. ولعل الصراع المحتد فيما بين تلك القصص هو الذي يوحي إلى المشاهد بدلالات الفوضى.
يبدأ الشريط بتصوير صراع الانتخابات وفوضاها بأسلوب مباشر وينتهي بانتحار الضابط حاتم بنفس الأسلوب، وما بينهما قصص عدة: حامد يتحرش بالأستاذة ثم يغتصبها. حامد يتلقى الرشاوى. يعذب المساجين؛ مع التركيز على بعضهم. يبتزهم. يستغل السجينات؛ مع التركيز على سجينة بعينها. وباختصار يمكن القول إن كل شخصية في الشريط لها مع حاتم قصة. وهذا التفريع/التركيز متعمَّد، حافزه الرغبة في إلصاق أكبر قدر من الشرور بالشخصية المهيمنة. وعن طريق تجميع الكثرة في الواحد تتأكد مرة أخرى دلالات الفوضى.

المطلق والدراما

حاتم إذن شر مطلق. كثرةٌ في واحد. لكن الإطلاق والكثرة في الواحد لايتحققان في هذا الشريط بصور متوازنة. ذلك يعني إذن وجودَ مظهر من مظاهر ارتباك الحبكة الدرامية. إن حامد شر مطلق، وضباط آخرون شر مطلق، وخطيبة الوكيل شر مطلق، والأستاذة نور خير مطلق، وأم الوكيل طيبوبة مطلقة، وعون الكوميساريا العجوز خير مطلق.
ليس ثمة إذن شخصيات بين بين. بل هناك الشر المطلق في مقابل الخير المطلق. والمطلق كما هو معلوم ليس من سمات البشر خاصة إذا تعلق الأمر ببشر شريط سينمائي يُفترض فيه عدم الانسياق مع عناصر الجذب المتطرفة ويتطلع عوض ذلك إلى ما يحقق التوازن ويضفي على الشخصيات من السمات ما يضمن لها إنسانيتها. ثم إن جوهر الدراما ذاته لايعني الصراع بين الأطراف المتباينة فحسب وإنما يعني كذلك صراع الإنسان مع نفسه. ومن أجل أن تتحقق هذه الغاية الأخيرة يُفترض تشكيل الشخصية السينمائية من شتى المتناقضات.

اختلال الصورة

إن الجمع بين العناصر المركزية والتفريعية والمطلقة يفضي إلى اختلال الصورة؛ أي اختلال التوازن بين الخير والشر، وبين الصخب والأغنية الحالمة، وبين الواحد والمتعدد. صحيح أن هيمنة الإيقاع الصاخب لا تنفي وجود مشاهد وديعة خاصة تلك التي كان يختلي فيها حاتم بنفسه من أجل مناجاة الصورة الفوتوغرافية لنور، أو حين استدراجها إلى الجلوس معه على كورنيش النيل. لكن ذلك لم يكن دائماً مقنعاً. فانصياع الأستاذة الرافضة باستمرار لخطة حاتم تم بسذاجة غير مبررة. وتحول شريف من حب سيلفيا إلى حب نور تحقق بسرعة وبطفرة واحدة. صحيح أن الأفعال التي صدرت عن سيلفيا كانت كلها لاأخلاقية، لكن ذلك تم بسرعة واعتماداً على خطة تكديس السلبيات في كائن واحد. (أولم يكن شريف على علم بكل تلك السلبيات أوببعضها حينما تعرَّف إلى سيلفيا أول مرة؟). وفي خاتمة الشريط هدأ الصخب وتم التركيز على حاتم وهو يستعد لكي يطلق الرصاص على نفسه من دون أن يعمل أحد على صده عن محاولته بحيلة سينمائية أو بأخرى. مجرد محاولة قصد تكسير الرتابة. وحتى قماش اللوحة الثمينة الذي مزقه حاتم بخفة وطيش لا يبدوان مقنعين على الرغم من تحقق الدلالة التي قصد المخرجان والسيناريست إلى إيصالها للمشاهد (الأمية الفنية لحاتم).
إن المطلق نقيض الدراما. وحتا الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية التي تعطي سماتها الانطباع بأنها مطلقة لم تخل شخصياتها من تركيبات درامية متناقضة. وحينما نضطر إلى تشخيص الفوضى سينمائياً يلزما عدم الانسياق مع سلاسة التصوير الخطيِّ الخادع. إن تركيب المتناقضات في الشخصيات يغدو شرطاً. أما الإطلاق فيوقعنا دوماً في فخي المبالغة وعدم الإقناع.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !