مواضيع اليوم

الفوضى بين الدين والعلم والفلسفة

فارس ماجدي

2010-04-28 07:52:00

0


 

لقد أظهر التطور المذهل الذي حققته العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية بأن أنظمة الخطاب السابقة والتي هيمنة على العقل بكافة ساقاته الفكرية وتمثلاته ومنجزاته العلمية والقيمية إلى وقت قريب، قد باتت عاجزة أشد ما يكون العجز عن مساوقة المنجزالعلمي والطبيعي ، هذا إذا أخذنا بعين الأعتبار المقولات التي أبدعها العقل اليوناني، كالحتمية والنظام واللوغس والمنطق الصوري والجدل والمادة والصورة والثنائية ومبدأ التناقض ومبدأ الثالث المرفوع والتماثل والتباس المعنى ..الخ، هذه المقولات التي إستثمرها العقل الإسلامي والعقل المسيحي، عجزت عن ملاحقة ما استجد وانبثق من تجارب في الكون وما أنبثق من ظواهرمعقدة. فالحلف القديم على حد تعبير جاك موند قد انهار وتهاوى بفعل الأنساق الحديثة للعلم وانعكاساته على المنظومة القيمية والأخلاقية. وعرف الإنسان في النهاية أنه وحيد ملقا في هذا الكون الممتد بلا نهاية معلومة، وبات عليه إيجاد مسلمات أخرى يفسر بها الخطاب الفلسفي والطبيعي والديني، فالحتمية النيوتينة وقوانين الكسموس الديني وقوانين الكسموس الحتمي لايمكن أن تفسر وتستقرئ الظواهر الجديدة على المستويين الذري داخل النواة وفي الفضاء ،خصوصا ما يتعلق بالإنفجار العظيم ونظرية تمدد الكون وما نجم عن ذلك من إكتشافات مرعبة في الجزيئيات الكونية والمادة المضادة والثقوب السوداء والشواش الكوني.إن ذلك يستدعي إنعطافة في الفكر على صعيد العلوم النظرية والتطبيقية، إن إنبثاق هذه العلوم واكتشاف الزمن مع المبدأ الثاني للديناميكيا الحرارية في سير الظواهر جعل مقولة الحتمية تهتز ولم تعد على الأقل أمكان علمي ظاهري على حد التصور النسبي للنظرية النسبية، لقد أصبحت الصدفة العشوائية تسيطر على الظواهر الطبيعية فالجواذب الغريبة المذهلة التي ظهرت في جميع القضائات والأبعاد الكسرية والشواش والضجة الكونية، جعلت الشكلنة الرياضية والمنطق يبحثان عن سبل أخرى للسيطرة على مسار الظواهر فلم تعد المعادلات التفاضلية للحتمية الرياضية تكفي لحصر الظاهرة والتقاط تغيراتها العشوائية الممكنة وغير الممكنة قي التفسير الرياضي أو التقاط تغيراتها العشوائية ، إذ تبين أن االأحتمال والدالة التوزيعية ودالة الموجة في فيزياء الكوانتم أقدر على البحث في الظواهر العشوائية الكونية، لقد تبلورت حقائق جديدة خلقها تقدم الفيزياء ، حيث تغيرت فكرة الموضوع التي كان منشأها الأنطباع الذاتي، والتي كانت تستند الى التجربة والخبرة اليقينية، كما تغير الشعور الذاتي بالزمان وتقرير أن حادثا يسبق آخر وتم ربط كل آن زماني بعدد، والنظر الى الزمان على أنه متصل ذو بعد واحد كذالك الحال بالنسبة الى تصورات الهندسة الإقليدية وغير الإقليدية، كما تغير تصور المكان، ولقد أظهرت الفيزياء الحديثة ما يسمى بالكتلة والقوة ونظام القصور الذاتي والمتصل الزماني المكاني ذي الأربعة أبعاد، لقد حل الأنفصال محل الإتصال. إن الحقائق التي خلقها هذا التقدم بعيدة كل البعد عن الحقائق التي سيطرت على البشرية قرونا طويلة، وبفضل هذا التقدم الجديد للعلم، كان على الإنسان أن يعثر على طريقه خلال هذا التيه من الوقائع الجيده المغايرة، وتنظيم إنطباعاته الحسية والعقلية بشكل منطقي يقوم لا على الإعتقاد في الإنسجام الباطن لهذا العالم، ولكن على فكرة الشواش والتشظي وفي كل هذا الإشتباك المعرفي والتصوري، إنه نوع من النضال الدرامي بين التصورات القديمة والتصورات الجديدة، يهدف الى نزع البداهات وتدمير القناعات السائدة وأنظمة المقولات التجريبية المسيطرة على الأنساق اللغوية والفكرية وتفكيكها، وهو ما يسمح بحدوث المراجعة الكبرى وصولا الى تحقيق مستويات من الفهم مختلفة وتغيرقيم الوعي، كما أنه ليس صحيحا أن العلم الطبيعي لا يعرف غير الإضافات ولا سبيل الى معرفته بالتراكيب والكيفيات، لأن ذلك يعني أن معرفته تقصر على معرفته بالعلاقات والظواهر فقد، وهذا يجانب الحقيقة التي يسعى اليها العلم، ومن هنا يتجلى المعنى الحقيقي والعميق للفيزياء الحديثة، التي لم تكن آلية تفسير كما خيل إلى البعض وإنما هي نظام من القضايا الرياضية المستنبطة على أعمق نحو ممكن ، ما يهمنا هنا هو أنه قد تغير الطرح الفلسفي وأنتقل الى مستويات أخرى قلب مفاهيمه رأسا على عقب وهذا ما أدى الى نهاية مفجعة وكارثية للتصور الحديث للفلسفة أي ما يعرف بفلسفة الحداثة وبداية عصر ما بعد الحداثة، حيث أخذ الإنسان عموما ومن خلال أدوات جديدة مادية ونظرية يفكر في بناء كون فلسفي جديد لهذا القرن الجديد الذي لا يزال في بداياته. فلم يعد العقل يبحث في الوحود لأن الوجود صامت لا يتكلم، وأن لغة الفلسفة القديمة التي اعتمدت اللوغس والتمثل والأنا المفكره لم تعد قادرة على فهم التحول في المفاهيم التي أنتجتها الفيزياء الحديثة والمقولات المركبة والمتداخله والمتشابكه لنظام الأشياء والوجود التي أفضت إليها، لم تعد اذا قوة المخيال القديم قادرة عن اللحاق بالصور الكاوسية المتشظية التي افرزتها العلوم الطبيعيةالرياضية، وأصبح البحث الآن في اللاوجود في العشوائي والصدفوي والكاوسي والمتشظي والمتناتل والشواش والضجة، لم يعد للقيمة معنى معنى، ولم يعد حتى للوجود معنى، لا يعدو كل ذلك عن كونه نصا أو نصوصا وان تفكيك النص والوصول البنيه الغير متجانسة والعثور على توتراته الداخلية والمتراكبة هو الذي أدى الى ألإختلال والكشف غير المسبوق للفلسفة الحديثة، إن القوى المتنافرة بين الأستنطاق والكتابة وأنظمة الفكر المعروفة العقلانية وغير العقلانية، هي تماما كما تحيل إليه الفيزياء الحديثة، قوى خيالية تعتمد على التصوير الخيالي وعلى صور لغوية خيالية ومسلمات ميتافيزقية مرتبطة بالخيال، فالنص الفلسفي مكبل بالكثرة، والوجود مكبل بالعدم، واللغة مكبلة في تعابيرها بالستعارات التقليدية والمجاز، و صور الفكر محددة في قوالب صورية خيالية محدودة منغلقة في قالب لغوية والدين محدد بقبلياته التقليدية الخيالية.
فالخيال يستمد مواده من واقع تقليدي وتنحصر في فضاء حتمي , هدف الخيال في النص هو الأنفلات من الحتمية وتركيب صور ذهنية غريبة أوخرافية, الخيال يتعامل مع فضاء متجانس وليس هدفه التشظي. ولذلك فهو لم يستطع أن ينفذ الى جوهر الظاهرة، وجوهر الوجود المتشظي، ولم يستطع أن ينفذ الى الكاوس الطبيعي والفكري ، أما العلم الحديث فقد أستطاع أن يحدث ثورة في كل الصور الذهنية والفكرية والوجودية ثورة مغايرة بل متقاطعة مع كل المفاهيم السابقة، لقد اوجد صورا تفوق صور الخيال، فالصور التي تظهر على شاشة الكمبيوتر والتي تم تأسيسها على المعادلات الرياضية المنطقية، تبهر العين والعقل وتجعل العقل يتوه في حقول متشظية لم تألف من قبل. لقد تغير الخيال وتغيرت الصور الذهنية،اصبح الفكر يبحث عن صور تجسد القوى العلمية وقدرتها على التماثل مع الذاتي الكائن، لم يعد العقل يتقبل الصور الخيالية التقليدية سواء الفلسفية أو الدينية وما تحيل إليه من قيم على المستوى الأخلاقي والأجتماعي ، أنه أخذ في النفاذ إلى غير المتجانس إلى فضاءات ذات أبعاد متكسرة، أخذ يبحث عن المتكسر في برامج فائقة الدقة والدهشة مستحدثة بطريقة الكترونية. لذلك أصبح الخيال التقليدي فقيرا بعيدا طريدا وأصبحت الصور الذهنية شحيحة لاتتعدى المحسوس والخرافي والتقليدي . لم يعد الذهن الإنساني يستطيع أن يتخيل صورا فائقة تتجاوز ما استجد على شاشة الكميوتر . إذ التكرار الآلي لمعادلة خطية ينتج صورا خيالية تفوق الخيال ذاته، لقد اعتمد العقل على اللغة لاستحضار الصور الخيالية في الشعر وفي النصوص الأدبية وقد كونت الأستعارة والتشبيه والمجاز والكناية والترميز حجر الزاوية في هذه النصوص ، أما اليوم فقد أصبح الكمبيوتر يصنع لغة فائقة لها دلالاتها المعرفية المغايرة غير النهائية واللامحدودة ولم يعد الخيال الصوري التقليدي الذي ظل يدور في فلك العجيب الخلاب المدهش قادرا على المساس ولو من بعيد فيما كان يهدف اليه كغاية.
وكذلك الخيال الديني ، إذ هذا النوع من الخيال يختلف في موقفه من الأنطلوجيا فالصور الخيالية الدينية هي شبه انطلوجية، ولا يمكن أن تتحول الى ممكنات التشظي الوجودي الظاهري على الأقل، الخيال الديني هو ما يكون التجربة الدينية يدور حول الحقيقة ثم يؤسس مذاهب كثيرة إنه باعتماده على الصور يؤسس حقا إنطلوجيا واقعية وهنا تكمن خطورته، فكيف يفعل ذلك؟ كيف يصبح الخيال الرمزي واقعا ملموسا ويكون حقا أنطلوجيا؟ الفكر الديني مرتبط بالتجربة الدينية، وهذه مرتبطة أشد الارتباط باللغة وبالمخيال اللغوي ، بالمجاز والرموز، إنها تجربة الخيال والمتخيل وليست تجربة واقعية، وتهدف الى الطبيعي الواقعي الملموس، إن تحويل المقول الرمزي الى أنطلوجيا يثير الإستغراب، فهل تم فعل ذلك بالمنطق الصوري؟ وهل يكتسب العرف بالتعريف وجودا؟ وهل هذا الوجود هو وجود دوام أم هو الوجود الملموس؟ لقد سبق أن تعرضت الفلسفة الى هذه الإشكالية الخطرة وقدمت البراهين المختلفة التي حكمت التصور الفلسفي على مدى تاريخ طويل ثم ثبت ان هذه البراهين لا تقوم دليلا حتى صحتها المنطقية . هل الوجود يشتق من التصور أم من المخيال؟ وهل المعرفة القائمة على الوجود تقوم دليلا على الوجود أم على التناهي ؟ المنطق القديم يقدم حلولا تلفيقية في الأغلب الأعم، وعلى أية حال هذا بحث مختلف ليس هنا محل بيانه، اذا للحقيقة الدينية مجالها الخاص وجوهرها الثابت، فهي تختلف عن الحقيقة العلمية والدين في تاريخه الطويل يميل الى دراسة الحقائق الكونية بمنظار لاهوتي ، ثم يحاول اقامة مجتمع متكامل من الناحية السوسيولوجية والسياسية والأخلاقية ويحاول بناء عقائد الفرد الروحية والزمنية ، هذا التدخل في الحياة جعل من الدين مذهبا متكاملا ونظاما فكريا يجد فيه الفرد التفسير والشرح والتأويل لكل المظاهر والظاهرات الكونية والفردية والاجتماعية. وفي داخل هذا المذهب تكون التجربة الدينية خاصة أي لها خصوصيتها ، لكنها تجربة خيالية متشظية كاوسية، ثم هي من الناحية الأخرى تجربة كونية خارجية، وجوهرها الإيمان الصادق والإعتقاد الثابت. وعلى هذا فإن التجربة الدينية متشظية تمر عبر مكونات اجتماعية تاريخية وإن دراسة هذه التجربة من الناحية التحليلية التفكيكية تثير الفضول، ثم هي تكشف مستويات أخرى من الممارسة البشرية العامة، وتكشف كذلك الى أي مدى كان اللاعقل هو المسيطر الأكبر على الإنسان .
وقبل الدخول في دراسة الكاوس الديني ، سنحاول دراسة النظام الديني الذي يكون نواة التجربة الدينية وجوهرها إذ الكون الديني كالكون الطبيعي كاوسي ومتشظي له حقول متفرعة وممتشعبة بطريقة معقدة، التجربة الدينية لها نظامان: نظام منظم وقانوني ، ونظام متشظ له حقول متشعبة وكاوسية، ما الذي يعنيه ذلك؟ لنلاحظ أن النص الديني متسع وذو فضاء لايتناهى وهو يكون سياق التاريخ البشري . إن التمعن الفلسفي في هذا النص أو النصوص يظهر الكاوس والتشظي العام كما يظهر السياق العام للعقلانية بالمفهوم الجدلي ، لا تقوم المعرفة إلا بواسطة القبليات التي هي شروط الموضوعية وهي التي تكون بنية الموضوعات. وهذه القبليات ذاتية موضوعية وجودية أنطوقية، أي أنها توجد في الذات وتكون الشروط للمعرفة، ليس بالوجه الذي ذهب إلية كانط، إنها توجد في الموضوع متحدة مع التجربةومكونة شروطا أخرى للمعرفة. والمعرفة على العموم لا تكتمل ولا توجد على اليقين إلا بوجود هذه العناصر، فالإدراك الحسي في حد ذاته هو أداة للفهم وموضوع له معنى ، كما تعبر عن ذلك سيكيولوجية الشكل ، والمعنى له شروط معرفية وبنية ابستميولوجية تتماهى مع القبليات الذاتية والموضوعاتية.
الموضوع بلا قبليات غير قابل للفهم وبالتالي للإدراك، فليست الصيغ الأولية هي الأساس في تكوين المعرفة لأن العدد اللامحدود لهذه الصيغ لا يكون المعرفة، فوجود القبليات هو شرط ضروري للمعرفة، لأن القبلي هو هذه البنية التي تكون الموضوع وتكون وحدته الزمانية المكانية ، وميزته من حيث جموده وحيويته وتعبيره أو صفته العاطفيةالإنفعالية أو هالته الخيالية، الإدراك وبطريقة مباشرة له دلالته إذ هو القبلي المعطى كما توحي سيكيولوجية الشكل فالتجربة تصبح صحيحة بشرط أن تكون تجربة محكومة بالقبليات ، والقبليات هذه ليست شكلانية لها محتوى بعدي، بل توجد في صميم الموضوع المعطى للعارف، وهي تختلف عن قبليات كانط وديوي وسبينوزا إذ هي بدائية سابقة على التدجين المعرفي الخارجي،يرى هوسرل أن وجود القبليات التي يدعوها بالطبيعية لاتوجد في الطبيعة العامة للموضوع ولا في طبيعة الذات أي أن القبلي يعطى في نفس الوقت كالمعطى كمعنى محايث للموضوع، القبلي هو جوهر لكن ليس كل جوهر قبلي ، وهذا القبلي عادة ما يكون مباشر فدون أي تفكير فأنا أميز بين حلاوة الفاكهة في الثمرة وانسجام للراقص.

كاتب أردني مقيم في نيوزلاندا

الفوضى

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !