أقولها لكل من يبخس الفنون حقها. إنها فعلاً الغذاء الروحي للنفس إذا ما توصلنا للمعرفة الكاملة عن كيفية الولوج لعالمها ومسك زمامها فما أسهل أن نصنع أكاديميا ناجحاً. أو طبيبا ماهراً، أو مهندساً مبدعاً أو موظفاً كفء، وما أصعب أن نصنع فنانا حقيقيا، فذلك وقبل كل شيء يحتاج لموهبة ومقدرة على الإبداع غير المتوفرة لكافة المخلوقات. وكذلك ولمن يؤمن بها ويسهر على رعايتها ويدفعها للظهور حالما تنبىء بوجودها ويكرس لها الجهد والمال بكل فخر واعتزاز أن في بيته فناناً.
الفنون كلها، وبشكل عام نور ينداح أمامه كل ظلام. سواء كان ظلاماً يعبق بدواخل النفس الإنسانية أو خارجها. فتتخلص النفس من شوائبها وتحلق وراء نبلها، وتبرز فضائلها. إنها ثروة حقيقية لا تثمن.. ووليمة للروح لا تنتهي.. وقد جاء هذا العصر بكل تقنياته وتقدمه فجعلها مشاعاً للجميع سواء لمن له القدرة على ممارستها كإبداع وخلق أو لمتمتع بنتاج العقول المبدعة. فأقبل الناس عليها بحب وتشوق وبانفتاح عاطفي عظيم.
ان استجابة الانسان لأي عمل فني وتفهمه كمغزى روحي، يخاطب دواخل النفوس البشرية فيريحها من عناء تفكيرها المستمر في صعوبة اجتياز متاعب الحياة، قد أدرك ان تفاعله مع الفن يخوله التعمق بأسرار الحياة الإنسانية فيتغلب على سلبياته، ينبذ عواطفها الرخيصة ويتسامى بحسه الفني بل ويعتبره الحافز النبيل لكفاحه من اجل إيقاظ الإنسان الحقيقي الأكثر حكمة واقتدار على خلق السعادة له ولمن حوله.
إن القدرات الفنية للمبدع كانت أو للمتلقي، لا تتأتى بشكلها المبدع ما لم تقترن بسلامة نشوء العقل منذ الصغر وخلال فترات نموه وحتى يكبر علي حب وتذوق الفنون عامة او احدها كحب الكلمة والنغمة مثلا. فنظم الكلام وابداع صياغته شعريا معنى ومبنى ومن ثم اتساقه بإيقاع سلس جميل، سواء في عقل وروح الفنان المبدع، أو في أذن مستمع متذوق إنما يدل على أن كل منهما قد امتلك حواسا فنية رفيعة المستوى سمت به عن مستوى البشر العاديين.
إن مقولة العقل السليم بالجسم السليم ليس معنياً بها الغذاء والكساء والنوم ولكن يعني تهذيب البدن بالرياضة وتهذيب النفس بالموسيقى أو أي من الفنون الجميلة، لأن ذلك كفيل بخلق صحة جسدية ونفسية تعين الانسان لأن يكون قادراً كاملاً خلاقاً.
إن كل فن من الفنون ما هو إلا ميدان واسع من ميادين الثقافة والحضارة والرقي، يحتاجها الإنسان المتميز في كل مراحل تطوره، فالنغم الجميل والكلمة الراقية حين تستقر بالوجدان وتتأصل يطفو ما بها من كمال وجمال في نفس الفرد المتذوق فيصبح حلو الشمائل كثير الفضائل، يحس بشفافيته المكتسبة من حبه للفنون نفاذ بصيرة ليبتعد عن كل ما هو نشاز في الطبيعة. يعمر قلبه بحب كل ما هو خير وجميل وتفيض مشاعره الرقيقة الرائعة فلا تسوقه تلك الأحاسيس إلا لطريق الاستقامة والصلاح.
وكلما شب عن الطوق وتعلم وازدادت معرفته الحقيقية والتي هي أهم فضائله غنى وقوة يزداد محبة للفنون وكل ما ينشأ عنها من قدرات وأخلاق وسلوكيات فيتمثل بها. الفنون ضرورة كالقراءة والكتابة بل يجب ألا نتوانى عن تنميتها وتفهم ما غمض منها مثلما نتعلم كافة العلوم. إنها توسع مداركنا وآفاق رؤانا لقيمنا ومثلنا العليا، فتعلم كيف نحقق جوهر كل الفضائل. جوهر الشجاعة والعفاف والحرية والصدق فليس في الدنيا أجمل من أن يزين حسن الخلقة حسن الخلق. فمن يتذوقها أو يبدع فيها يبدع في الكثير من أموره الحياتية ومعايشته الاجتماعية وتزيد من قدراته على المحبة والارتباط بأهله وبيئته وببيته ووطنه.
التعليقات (0)