شريف هزاع شريف
التقينا انا وهو في دورة الصحافة الدولية الثالثة في الـ(iwpr)([1]) كان من الرمادي ،عاش في بغداد ، كنت ارسم الابتسامة على شفاه الحضور واثير استاذتي بشلال من الاسئلة والاعتراضات والآراء ، سريره قرب سريري ، نبقى ساعات نتحاور في الحرب وقيمة الانسان في العراق ثم نختم حوارنا باستذكار اسماء الصحفيين الذين قتلوا هنا ...كنا نتشارك بالأحلام والكوابيس ايضا!
غريب هذا الموقف الذي نعيشه ، نتعلم من الامريكان علم الحقيقة او نقلها والدخول الى متاهات السياسة واقتناص الخبر ، وهم احتلوا العراق ..اعترف انني كنت اجهل هذا العلم لذا لابد ان اشكر : الكورية جينا جون chon gina والامريكية تياري راث tiare rath والالمانية الرائعة سوزان فِشر([2])، لانني لابد ان العن بوش وسياسته الديمقراطية الحقيرة التي استطاعت بكل بشاعة ان تضع فوق اسم ياسين ([3]) تأشيرة سوداء تؤرخ يوم مقتله بعبوة ناسفة ، يظن الامريكان انها زرعت بيد ارهابي ، وانا اقول ان الـc4 صناعة usa .
ليس مهما بيد من نُقتل اوبسلاح من ، المهم يجب ان نُقتل ...
هل تحب الصحافة ؟ ..
انا احب مهنة الكتابة ، الفلسفة والتصوف وسانجز كتابا في علم ( الحمق ) ساهديه للعرب والامريكان معا.. اتعرف ياصديقي ان الامريكان اغبياء؟
اصمت سينقل ما قلته المترجم لتياري !.
لايهمني فكل الامريكان لايحبون الفلسفة لان الفلاسفة مجانين في نظرهم ، وهم مجانين بذلك لانهم ليسوا فلاسفة .
تياري استاذتي في الصحافة الدولية ، اكن لها احتراما كبيرا وكرها مضاعفا ، لانها علمتني كيف امسك القلم من زاويا جديدة ، سيدة محترفة في عملها امريكية تكره الفلسفة ، في لقائي الاول معها قلت لها : كنت اعتقد ان اسمك تيار لذا ذكرني بقديس ومفكر كبير اسمه تيار دو شاردان ، امتعضت كثيرا قالت انا اكره هذا التشبيه .
الم اقل لك ان الامريكان لايحبون الفلاسفة ؟ انها لاتعرف دو شاردان ، تعتقد انه كاهن من القرون الوسطى يبشر بالخرافة ويحرق الحرية او ربما تظن انه الذي اصدر حكما على جان دارك ..
لم تتوانى تياري من ابداء رأيها فيّ ، انها تحترم ثقافتي ، واعرف انها لاتؤمن بها جملة وتفصيلا لانني لست مثقفا على الطريقة الامريكية ! هي محقة فلغة العصر ليست لغة الفلاسفة بل اللغة الامريكية !!! .
تحاول اقناعي بان خطأ العراقي يكمن في اعتقاده بأنه يفهم في السياسة والاقتصاد والفكر والادب والتاريخ والفن والحب ... الخ ولا يتخصص في اي منهما حتى الموت ، لذا فنسبة الجهل اكبر من نسبة المعرفة من حيث الحقيقة ، بادرت لتغير نظرتها لاسيما وانني ارتكبت خطأ فادحا في لقائي الاول معها ، اردت ان ان اكمل الصورة الحقيقية التي يجب ان ترسمها عني .
العراقي يجيد صناعة الحضارة و الامريكي يجيد فن الاحتلال ! .
ياسين لم يتمالك نفسه من الضحك واعتبرني مجنونا فعلا لانني احاور امريكية بهذا الاسلوب.
تياري تتميز بحس صحفي دقيق اعتبرت ياسين صحفي محترف يمكنه ان يكون في قلب الحدث يرى كل شيء عن قرب ليعرف الحقيقة ، وقالت عني انني احد الفلاسفة المجانين ، اكتب عن الحقيقة من على مكتب بعيدا عن الحدث وكأنني في قلب الحدث ، شكلنا انا وهو ثنائي جميل ودخلنا اختبارات الدروس الصحفية وحصلنا على تقدير ممتاز ، رجعنا من دورتنا ليتحقق حدس الاستاذة تلك لكنها لم تعرف ان حدسها ارتقى ليكون نبؤة مريرة .. قُتل ياسين الدليمي بعبوة ناسفة ابان رجوعه الى البيت حاملا لزوجته وابنته طعام الفطور ..
ياسين يجب ان اذكُركَ الان ..
اتعرف ان دو شاردان في ليلة الفصح صرعته نوبة قلبية ، اخر ما قاله وقتها " ماذا حدث؟ اين انا؟ .. اشعر هذه المرة ان الامر رهيب"([4]) صديقي العزيز مات دو شاردان ليلة الفصح وقتلت انت ليلة عيد الفطر انه شيء رهيب فعلا ..
"إن كان تحديا ، اذا كنت مت لانك لم تنجح ، حسنا ! سنكافح لنصنع ما لم تُرِدهُ كغاية ، سنحاول ، بدورنا ان نحطم سدود عزلتنا " ([5])
كنت اعتقد ان موته في نيويورك قد احدث ضجة عند الامريكان .. كنت على خطأ كبير..لكنك حين مت احدثت ضجة فيّ ، لقد تبعثرت ذاكرتي وايامي كلها ، احاول الان ان اجرجر خيطا من الماضي لانسج لك رسالة قد ترسم الابتسامة على شفتيك " لست فيلسوفا ولا لاهوتيا " ([6]) لكنني اعتقد انك تفتقدني في السماء.
اسمح لي ان القي في دجلة باقة ورد الى/على قبرك الذي اصبح في الهواء لان العبوة سرقت جسدك الهرم بالحقيقة والحب ، وان اكتب عنك سطرا على شاهدة قبرك المفقود بين الاموات ، او على موج النهر (صديقي العزيز.. هناك عبوة ما ، او رصاصة لم تطلق بعد ، تبحث عني في ازقة الموصل القديمة .. قرب السور الاشوري كتبت فيك قصيدة ، اعمق من حضارتي ، لانني ابكيك الان ، السور الاشوري هو المكان الوحيد الذي لم ينتصر عليه الامريكان ، لذا انا احتمي به).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) معهد صحافة الحرب والسلام Institute for War & Peace Reporting
([2]) مديرة برنامج الشرق الأوسط لمعهد صحافة الحرب و السلام (IWPR)
([3]) هو الصحفي الشاب ياسين الدليمي الذي قتل في بغداد اثر انفجار عبوة ناسفة قبل اقل من عام
([4]) اخر الكلمات التي قالها دو شاردان قبل لحظة الزفاف الى السماء في احدى صالونات نيويورك / 10 نيسان عام 1955
([5]) نص لدوشاردان
([6]) ( لست فيلسوفا ولا لاهوتيا بل دارسا للظاهرة ) بهذه الكلمات قدم دو شاردان نفسه للعالم
التعليقات (0)