ظل عبد الإله حبيس البيت الذي يقيم فيه مع شقيقته هدى بانتظار حل مشكلة قائمة مع جاره الفلاح نايف، لاسيما وأن الأخير طالما يحاول احتكار مياه الري لجهة سقاية أرضه ذات المساحة الشاسعة على حساب جيرانه الآخرين في الأرض التي أستأجرها، وطمعه في أن تَسدّ العَجز الكبير الذي خسره في الموسم الماضي، بزراعتها ببذار القطن الذي لم يحصد منه سوى الخسائر المتكرّرة نتيجة إصابته بالحشرة اللعينة، ما يعني أنها أتت على كل الموسم الذي كان ينتظره بفارغ الصبر، ورغبته بتسديد ما يترتب عليه من ديون متراكمة أنهكت كاهله!.
بعد مضي أكثر من شهرين على هذه الحال، حاول أحمد إصلاح ذات البين بين شقيقه وجاره نايف دون جدوى.بقيت الخلافات قائمة بينهما، وبسببها نشب خلافٌ آخر بين عبد الإله وشقيقه البكر أحمد، على ضوء الخسائر التي لحقت بهما في الموسم الماضي بسبب إقدامهم على زراعة البطيخ الأحمر، وتحملهما الكثير من الديون، بدون طائل.. وهما الشقيقان المنحدران من أب عربي الأصل، وأم يونانية، كانت تربطهما مع بعضهما البعض علاقة ود ووئام واحترام.
وطوال الفترة التي قضاها أحمد في اليونان، وهو البلد الأوربي الجميل برغم الفقر المدقع الذي حل بأهله، تعرّف هناك على أصدقاء عرب طالما يلتقيهم ويشرح لهم وقائع الحياة المعاشة في هذا البلد، لاسيما وأنه صار يعرفُ عنه الكثير عن طباع أهله وعاداتهم، وتمكّن أحمد من إكمال دراسته الجامعية، وحصوله على أعلى المراتب العلمية، في كلية الهندسة الميكانيكية التي تفوّق بها تفوَّقاً مذهلاً لفت إليه أنظار الطلاب والمدرسين اللذين يدرسون فيها فنون العلوم الحديثة.
شاءت الأقدار أن يتم التعاقد معه، نتيجة إمكاناته العلمية المتفرّدة مع إحدى الجامعات العربية، وتمكّن من أن يُؤسس له مكانة علمية، وبتفوّق لامثيل له، نتيجة اهتماماته ومتابعاته لكل ما ينشر في الدوريات العربية والأجنبية، خاصةً وانه يتقن اللغة الانكليزية كتابةً ومحادثةً اتقاناُ متميّزاً، وكان طموحه أن يكون رئيساً لتحرير إحدى المجلات العلمية، إضافة إلى رغبته الجامحة في التدريس.
وفي هذه الجامعة، لفت إليه الأنظار، وحقق نجاحاً قلَّ مثيله، وتقدم في دراساته العلمية، وأثناء تدريسه في الجامعة هذا لم تفتر عزيمته في متابعة تحصيله العلمي، وبتفوّق، ونال أفضل المراتب العلمية.
ومن خلال علاقاته الطيّبة مع الطلاب الذين يقوم بتدريسهم، تعرّف في حينها على إحدى الطالبات المتفوّقات، والتي تنتمي إلى أسرة معروفة في البلد الذي يقيم فيه، وتكللت العلاقة بينهما بزواج ناجح. وبعد مرور خمس سنوات من زواجه رزق بثلاثة أطفال، أكبرهم أسامة، وأختين جميلتين، سعاد ولبانة.
ترسّخت علاقاته مع المحيط العائلي، وبصورةٍ خاصة، مع أسرة زوجته وأقاربها، وبتواضعه الجَمّ، وأخلاقه الحسنة وأسلوبه المتفرّد، كسب ود أهلها المترفين الذين عرضوا عليه، مع مرور الوقت، أن يكون المدير الفنّي في شركة الألبان التي يملكونها.
وافق على شغل هذا المنصب، ولكن بشرط أن يتابع دراسته في الجامعة التي كان لها الفضل الأكبر في وصوله إلى هذه النهاية السعيدة التي يحلم بها كل مجتهد، بزواجه الموفق من زوجة صارت أم لثلاثة أطفال، ناهيك عن شغله منصب مدير فنّي في الشركة التي يملكها والدها.
حاول الدكتور أحمد أكثر من مرّة الاتصال بأخيه عبد الإله وشقيقته الوحيدة هدى، ولكن دونما فائدة، وبعد محاولات جادة تمكن من التحدّث إليهم عارضاً عليهم زيارتهم له والعيش معه حيث يقيم، لاسيما وأن والديهما غادرا الحياة الدنيا ولم يبق لهما من معيل سواه.
وبعد أقل من مرور شهر على اتصاله حزما أمتعتهما وغادرا اليونان وتوجها إلى حيث يقيم. التقاهما شقيقهما أحمد في المطار مرحباً فرحاً بقدومهما بعد غياب حوالي ستة أعوام. وهما في طريق المطار متوجهين إلى البيت، قال أحمد:
ما أسرعها من أيام. أعوام مضت فصلتني عنكما، وكأنها البارحة.
حاولت شقيقته هدى من أن تعقّب على حديثه معهما، إلاَّ أنَّها فضلت السكوت عن البوح بكلمة واحدة برغم الكلام الكثير الذي أخفته عنه.
وصلا دار السكن التي يقيم فيها أحمد مع زوجته وأطفاله الثلاثة، وفي تلك اللحظة لم تكن زوجته متواجدة في البيت، فقد خرجت إلى السوق لشراء بعض الحاجيات المنزلية لزوم ضيوفها، وبعد برهة قصيرة وصلت بسيارتها الفارهة بينما أحمد وضيوفه دخلا بهو الفيلاّ التي يقيم فيها.
دخلت منال الفيلاّ، وسلمت بحرارة على ضيفيها، وتبادلا التحية والسلام، وبعد نقاشات مطوّلة شرح كل واحد منهما للأخر واقع الحياة حلوها ومرها.
بعد مرور أسبوع واحد على وصولهما عرض الدكتور أحمد على شقيقه العمل في شركة الألبان الني يشغل فيها صفة المدير العام بعد أن كلّفه مجلس الإدارة بمكافأته بهذا المنصب الجديد نتيجة الجهد الذي يقوم به، وإمكاناته الكبيرة التي يستحق من خلالها أن يكون مديراً للشركة، وبامتياز.
وبعد أيام من تكليف الدكتور أحمد بإدارة الشركة، صدر قراراً بتعيين عبد الإله بوظيفة عامل فنّي فيها، وبراتبٍ مغر، أما هدى الأخت الوحيدة فقد تم تعينها، هي الأخرى، بصفة مراقبة للعاملات، في ذات الشركة التي يدير شؤونها، وهي التي تحمل شهادة الدراسة الثانوية منذ مايزيد عن السنوات العشر.
وبعد أن استقرا في عملهما الجديد، اتفقا مع شقيقهما أحمد أن يسكنا في بيت آخر بعيداً عن أسرته تلافياً لنشوب أيّ خلاف عائلي يقع فيما بينهما، ولاستمرار العلاقة مع بعضهما البعض.
استمر الدكتور أحمد في منصبه كمدير عام للشركة أكثر من خمس سنوات ونيّف، وبسبب تدني الإنتاج في الشركة أصدر مجلس الإدارة قراراً بإنهاء تكليفه من منصبه، وظل ملازماً لجامعته ومتابعة التدريس فيها بجد واجتهاد حتى عيّن وكيلا للجامعة التي يدرّس فيها.
وفي الأيام التالية، وبسبب إنهاء الدكتور أحمد من منصبه كمدير عام لشركة الألبان، تقدم عبد الإله وشقيقته باستقالتهما من العمل، فوافق المدير الجديد عليها، وعلم شقيقهما الدكتور بذلك، وأعلماه أنهما سيعودان إلى اليونان، موطنهما الأصلي، والعيش فيه بأمان واطمئنان.
وبعد مضي سنوات من تكليف الدكتور أحمد وكيلاً للجامعة، اضطر إلى تقديم استقالته منها، واستطاع وبمساعدة زوجته، من تأسيس شركة للصيرفة مع مجموعة من المساهمين.. وتمكن من توسيع عمل شركته بإحداث فروع لها في المدينة التي يقيم فيها، وأمضى جلّ وقته في دفع عجلته وتحقيق النجاحات تلو الأخرى.
عبد الكريم البليخ
فيينا
24/09/2017
التعليقات (0)