الفكر الأحادي وانعكاساته المناطقية والمذهبية
إلى منتصف التسعينات كنا لا نرى على التلفزيون المحلي غير المسلسلات الحجازية والشرقية، وفيما بعد تقلصت بشكل كبير لصالح المسلسلات النجدية؛ فهل هي مجرد صدفة أو انتكاسة فنية عابرة؟ ربما، لكن ما هو مرجح ان السياسة الاعلامية أو أن هناك جهات ضاغط معينة انحنت لصالح دعم وفرض النمط واللون الواحد على الجماهير المتمثل في المسلسلات النجدية بما تحمله تلك البيئة من عادات وثقافة شعبية ولهجات واسلوب في التفكير ربما يلتقي او يختلف مع البيئات الوطنية الاخرى.
لقد كانت المسلسلات الحجازية والشرقية مصادمة للنمط الفكري الذي عليه النجديين؛ حيث لا تجد في تلك البيئتين حساسية مماثلة على الأقل في التعامل مع الفن او في التعامل مثلا مع المرأة ؛ ولذلك كانت لهما أسبقية الولوج الى هذا العالم مبكرا، قبل ان يستشعر البعض ما يعتقد انه خطر ربما تعكسه تلك البيئتين الاكثر انفتاحا على الجماهير فتختطف المشهد الوطني برمته بما يعتقد أنه يمس ثوابته الدينية أو بالأصح ثقافته الشعبية المتشددة التي يجب أن تكون المهيمنة على الجميع.
سياسة اللون الواحد سياسة تنتهجها معظم الدول النامية في محاول لفرض قيم دينية او عرقية او مناطقية معينة استنادا على ما تميل له النخب الحاكمة المسيطرة، بحيث تعمل على توجيه شرائح المجتمع المختلفة تربويا واعلاميا ودينيا نحو ما يعتقد أنه يجب أن يمثل وجه الدولة، فتُغيب قسرا ثقافات وتحارب معتقدات ويُعلم للأجيال نمط تفكير محدد، تحت عناوين المعتقد الصحيح أو العرق وحتى اللهجة والزي الوطني المقدس.
المدارس هي أبرز المراكز التي تتم فيها عملية فرض سياسة اللون الواحد على الوطن وأبنائه، وعلى امتداد 16 سنة من عمر المواطن، فتربى أجيال على نمط فكري محدد، وتُسير باتجاه بوصلة عقائدية ومناطقية مثبته، وبالتأكيد فان المناهج الدينية السلفية هي أبرز مصاديق هذا النمط الذي لا فسحة فيه ولا نفس لآراء الآخرين، بل وعلى العكس ترتكز على أسس المصادمة مع العالم الخارجي والداخلي المخالف مذهبيا أو فكريا.
لكن هل نجحت سياسة اللون الواحد، وهل استطاعت التأثير على سلوكيات الجماهير ؟ الحقيقة أن المناهج الدينية مثلا لم تستطيع أن تؤثر عقائديا وفقهيا على المدارس الدينية الاخرى المنتشرة في أرجاء البلاد؛ بل ربما لم يزيد أبناء الممالك والشوافع والشيعة والإسماعيليين الا اصرارا على التمسك بثوابتهم المذهبية، كردة فعل طبيعية تلجأ اليها الجماعات من اجل الحفاظ على ذاتها وخصوصياتها من الذوبان في بؤرة الأحادية عندما تستشعر وجود الأخطار، فتذهب تلك المناهج كما في كل نهاية عام دراسي الى سلة المهملات.
لكن بالتأكيد إن أهم ما نجحت فيه تلك السياسة التربوية على الأقل أنها خلقت بيئة مزدوجة ومشوشة من التفكير لدى المواطنين الآتين من منطلقات مختلفة، بيئة تضع قدما في اتجاه وتفكر باتجاه، لذلك لا نبالغ ان قلنا عن بروز ما أصبح يعرف في أوساطنا المحلية بالشيعة السلفيين، فربما لا يخاف الغالبية على أبناء الشيعة من الذوبان عقائديا في فنجان السلفية، بقدر ما أصبح الخوف من سيادة نمط التفكير السلفي الرسمي على بنية العقلية الشيعية في التعاطي مع القضايا المعاصرة أو الرأي المختلف.
عندما اليوم نتكلم عن قضايا مجتمعية هي محل جدال وطني، فتقسيم الآراء أصبح هنا بناء على أنماط فكرية اقصائية منغلقة وأخرى منفتحة، وليس بالضرورة استنادا على آراء مذهبية وفقهية مختلفة، لأن عبارة (خصوصيتنا) التي نتلقنها مدرسيا واعلاميا وننشأ عليها سلوكيا، أعطت أولوية لسيادة العادات والتقاليد باللون والأفق الواحد المبرمج للمواطن حتى وان تضاربت مع الآراء الفقهية.
ولذلك تقبل مجتمع الشرقية فكرة النقاب الآتي من بيئة نجدية، لكنه تحفظ على فكرة كشف الوجه من منطلق فقهي جعفري أو مالكي يؤمن به، حتى أن أحدهم كتب عن زيارته للأحساء بأنها لم تكن مختلفة عن زيارته للقصيم على الأقل في تعاطي كلا البيئتين مع الشأن النسوي. فيما ارتأ البعض أن يناصر الانغلاق في حرمان المرأة من حقوق بديهية تتمتع بها دول مجاورة كقيادة السيارة تحت مبررات ومقايس (خصوصيتنا) وليست من منطلقاته الفقهية الخاصة به. ولا زلت أتذكر كيف أن الاحتفاء بيوم الأم والأب أو الحب وغيرهما أخذ منحى جدلي عقيم لدى أطراف جامعية جعفرية المذهب لأنها أصبحت تقرأ ما هو مستجد على الساحة وتفكر وتستنتج بالطريقة المدرسية المنغلقة التي نشأ عليها الجميع، وخذ أيضا الجدل الذي يأتي مع كل ما هو مستجد في أمور التطور التقني.
ثقافة الإقصاء ستجدها متجذرة الأثر عند جميع الشرائح المختلفة مذهبيا ومناطقيا وثقافيا بلا استثناء كنتيجة طبيعية لترسيخ الفكر الأحادي المنتهج في السياسة التعليمية والاعلامية والتي وحدًت أبناء الوطن تحت راية الآراء المنغلقة وليس التعددية المنفتحة.
حيدر موسى
التعليقات (0)