لم يشهد التاريخ تجربة اشد عقما واكثر اضاعة للوقت والجهد من المحاولة العتيدة لبناء حضارة وفكر وثقافة وسلوك امة ومجتمع بشري على اشتراطات نسخة تبلغ من العمر ملء اليد من القرون..والشيء الوحيد الذي يمكن ان يبزها هو المحاولات الحثيثة العصية عن الفهم من قبل بعض العلمانيين لاصلاح الدين الاسلامي من الداخل..
فلقد يلاحظ المرء باضطراد .. تقمص بعض المثقفون الحداثويين البعيدين عن مجال التنظير الديني ..الدور المفترض – تقنيا – لرجال الدين.. والهادف الى ترميم المنظومة الفقهية من الداخل ..واعادة تنظيم بعض الاجتهادات ذات الطبيعة الظرفية ..والمتأثرة بالسياقات التاريخية المحددة بعوامل المكان والزمان والاشخاص..وهذا التقمص يدخل عادةً تحت دعوى الضرورة الحتمية لاصلاح الدين –الاسلامي بحكم الانتماء – وأقلمته مع حقائق الحياة التي قد تتعارض نسبيا مع الرؤية التقليدية – السلفية – للاسلام كاسلوب حياة وايمان اعتقادي راسخ..
والمؤسف ان المثقف هنا يدخل الى حلبة الجدال الفقهي محملا بذخيرة مؤطرة ومحدودة جدا باشتراطات الفترة المكية المبكرة من عمر الاسلام..والمفتقرة الى القوة المادية الضرورية واللازمة لمجابهة السطوة المتمثلة بالجبروت العسكري والاقتصادي الذي كانت تشكله قريش آنذاك.. كسلطة سياسية وكقوة مناوئة لتوجهات الدين الجديد..تلك الذخيرة المكونة من التعاليم المبكرة المحملة بقيم التسامح واللا اكراه في الدين والرحمة.. والتي من التساذج الممعن في اللاجدوى التدرع بها تجاه الكم الهائل من نصوص السيف والجهاد المدعمة بالآيات القرآنية والسنة والشواهد التاريخية المعتمدة..
بل ان البعض –متأثرا على ما يبدو بالتقبل الشعبي للموضوع الديني – اصبح يجادل في مجالات مغلقة المنافذ وباحكام لصالح الاسلاميين الاكثر قدرة وجلد وتمرس على المشي على حبال الفقه المعلقة ما بين الدنيا والآخرة ..والتي يجازف العلماني بالسير عليها بدون عصا التوازن التي يؤمنها الانقياد الشعبي المسبق الاقتناع بكل ما يقوله رجل الدين بالاعتماد على هيئته الخارجية فقط..
وقد يكون من الممكن تفهم هذا التوجه لو كان يدرج ضمن استراتيجيات التحرش بالمنطقة المحرمة المتمثلة بالاحاديث التي تتصدى للربط بين طاعة الخالق وطاعة الحاكم .. او احاديث تحريم الخروج على السلطان حتى وان جار..ولكن المثير للاستغراب المبالغة في الانغماس في اغراءات التماهي مع الاسلاميين والانغراز والتوحل في معضلة التعدد المربك للتفسيرات الملازمة لاي من النصوص الواجب اتباعها ان كانت كنص ديني مقدس او تدوين تاريخي يوثق لحالة ما ..مما ادخل العلمانية كطرف في الصراع من اجل تغليب واعلاء اجتهادات معينة على ما لا يطابقها من التفاسير وتكريسها كحد فاصل ما بين الخطأ والصواب والكفر والايمان والتوصية الضمنية على اتباعها كنوع من المصادقة الادبية ..دون الالتفات لحقيقة انها من انتاج انسان غير منزه يعتريه ما يعتري كل البشر من نقص او اختلاف..
ان النتيجة الحتمية المنتظرة لهذه التوجهات هي تنازل المثقف الليبرالي والعلماني عن محيطه وبيئته الاساسية .. بيئة الحوار والحرية والعقلانية واعلاء شأن الانسان.. والتي تتعامل مع الانسان كانسان دون النظر الى خياراته الفلسفية والايديولوجية ومعتقداته الدينية.. والتخلي عن حجر الرحى في التقاطع الحاد مع الاسلاميين المعبر عنه في شمولية النظرة الانسانية للتراث وعدم تسطيحه في نصوص واجتهادات احادية التوجه والتأسيس..
بالاضافة الى ان المسلمين – بالغالب الاعم – لا يرون ان هناك حاجة لاصلاح الدين لاكتماله بحكم النص المقدس ..وان الذي يحتاج الى المراجعة والتعديل هو المجتمع ليواكب النموذج الاصلي المتكامل والمرضي عنه للدين..والاهم هو ان المثقف العلماني مصنف سلفا بحكم انتمائاته الفكرية في خانة التكفير مما يثير الريبة والعدائية المبيتة تجاه طروحاته الدينية بالرغم من وضوح القصدية الاصلاحية من ورائها..
يقول الاستاذ عمر قدور:" تأتي دعوات الإصلاح متخارجة ومتعارضة مع الواقع الذي تمثّله الأغلبيّة، وكأنّ بعض المثقّفين "العلمانيّين" من دعاة الإصلاح ينصّبون أنفسهم نخبة على جمهور لا يعترف بهم، ويرى في دعواتهم هرطقة، هذا إن أنصت إليهم أصلاً!."
قد يكون المبرر المتاح الاقرب لهذه التوجهات هو المقاربة الخاطئة لطبيعة ادارة الصراع من قبل القوى المناهضة للتسلط الديني للكنيسة على الحياة المدنية في اوربا..والذي انتهى بتخلي الكنيسة عن ابويتها للمجتمع وانكفائها الى داخل حدود دور العبادة.. فالعلمانية الاوربية لم يبدر منها ما يمكن وصفه بمحاولات لاصلاح الشق اللاهوتي من المنظومة الدينية الكنسية..ولم تكن معنية به..بل كان الهدف الرئيسي لنضالها تحجيم تدخل الكنيسة في شؤون الدولة وترك ذلك للخيار الفردي الحر..
ان التناقض والتقاطع الواقعي بين العلمانية والمؤسسة الدينية هو في استغلالها للقبول الجماهيري الواسع للمفاهيم الدينية لتحقيق مصالح سياسية وتزييف اخرى..وليس في جوهر الدين والفقه الذي يعد من خيارات الفرد الذاتية الواجب تمتعها بالحرية الكافية المكفولة مجتمعيا ودستوريا في نطاق دولة القانون والمواطنة المسؤولة..
ونجاح المفاهيم العلمانية يتطلب محاربة جذور الاستبداد المؤمنة بشرعية دينية مقولبة حسب اشتراطات الحكم في كل فترة زمنية..وترك المحاولات العقيمة الهادفة الى تحقيق اصلاح ديني في شأن ذو صبغة سياسية ظاهرة..والتركيز على احلال مفاهيم الدولة المدنية الحديثة التي تحقق حرية الفرد وكرامته وتخلق البيئة المناسبة لممارسة حرية الاعتقاد واحترام الخصوصيات الفردية والمجتمعية.. والابتعاد عن المباحث التي تظهر المثقف التنويري بصورة الغر الجاهل الذي يتحاذق فيما لا يعرف..او بصورة المجادل المجدف المعادي للثوابت المجتمعية الراسخة والساعي الى فرض ثقافة فوقية مستوردة ومناهضة للقيم السماوية والخيارات الشعبية..
ان المثقف الحداثوي المتمتع بالمنطق العلمي في النظر للاشياء..والمتبني للفكر الليبرالي والعلماني..ايمانا منه بالإنسان كقيمة عليا وكهدف أعلى..يتحمل –وبوعي واختيار حر – مسؤولية ادامة زخم المسيرة التنويرية رغم قلة السالكين..ويمكن القول ان مثل هذه الطروحات – رغم تفهم دوافعها - قد تزيد من صخب " التنفير المبرمج من مفردة العلمانية والليبرالية لدى شريحة لا يستهان بها من الشعب ويؤدي خدمة مضافة للمشروع الاستحواذي الاستلابي للعقل المسلم من قبل النخب الدينية المرتبطة والمدعومة من قبل السلطان ."
لاطلالة اعمق :
http://www.kwtanweer.com/articles/readarticle.php?articleID=2274
التعليقات (0)