مواضيع اليوم

الفقرقراطية بالمغرب

إدريس ولد القابلة

2009-08-19 17:58:44

0

 


منذ أن حصل المغرب على استقلاله في أواسط خمسينات القرن الماضي, و على امتداد أكثر من أربعة عقود, و حكوماته المتعاقبة تتحدث عن وضع سياسات و خطط و تحدد الميزانيات و تنفق الأموال لكي تحقق التنمية لتحسين مستوى المعيشة و التصدي للفقر. و بعد كل هذه الجهود و الأموال التي صرفت, و السياسات التي بلورت, تم تكريس الفقر و اتسعت دائرته و تر سخت آليات التفقير إلى أن وصل الحال إلى ما هو عليه الآن بالمغرب.

فبالرغم من أن المغاربة يذلوا جهودا كبيرة و عانوا كثيرا من الحرمان و أثقلت كهولهم بالضرائب العادية منها و الاستثنائية منها و التضامنية, فإنهم ظلوا يعاينون تدهور أحوالهم المعيشية, لاسيما منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي, حيث ازداد الفقر توسعا بشكل لم يسبق له مثيل. و هكذا قد يبدو أن النمو الاقتصادي الذي حققه المغرب, تحقق بالأساس من خلال تدهور مستوى معيشة أوسع فئات الشعب و على حساب توسيع دائرة الفقر. إذن, فأين ذهبت ثمار النمو الاقتصادي؟

إن جزءا كبيرا منها ذهب إلى القلة و إلى الهذر بأشكاله المختلفة و إلى الاستهلاك البذخي. و هكذا ازداد الفقر و انتشر و اتسعت الهوة بين القلة الغنية التي لا تكاد تبين عدديا أمام الأغلبية الساحقة الفقيرة.

إن توزيع و إعادة توزيع الثروات و الخيرات الوطنية من أهم مقاصد تدبير معاش و عيشة الإنسان في أية دولة. كما أنه من المعلوم أن الدولة هي التي تشرف على عملية هذا التوزيع و إعادة التوزيع عبر جملة من الآليات الظاهرة منها و الباطنية, المشروعة منها و غير المشروعة, المباشرة و غير المباشرة أو الملتوية. و بذلك, فان تناول إشكالية الفقر بالمغرب تلزمنا أن نتناولها آخذين بعين الاعتبار الإطار العام للمسار الاجتماعي و الاقتصادي للبلاد, خاصة فيما يتعلق بالاختيارات الكبرى التي نهجها القائمون على أموره منذ الاستقلال. لاسيما ما عرفته البلاد مع نهاية سبعينات و فجر ثمانينات القرن الماضي من اعتماد سياسة التقويم الهيكلي و التي ترجمت على شكل صرامة مالية لم يسبق لها مثيل من أجل تقليص العجز للاستفادة من قروض جديدة و تقليص حجمها و تصحيح التوازنات الاقتصادية. و بعبارة أخرى أوضح, تخلي الدولة و انسحابها عن أداء مهامها الأساسية في قطاعات اجتماعية حيوية. و لا يخفى على أحد أن هذه السياسة و برامجها مست مصالح عمومية و اجتماعية متعددة. و بذلك, بين عشية و ضحاها و دون سابق إنذار, تقلص دعم مواد و منتوجات أساسية و انخفضت المصاريف العمومية المتعلقة بالتربية و التعليم والتكوين و الصحة و قطاعات اجتماعية أخرى أصابت في العمق العائلات الفقيرة و المتوسطة. و تصاعد بذلك مستوى الفقر بشكل لم يسبق له مثيل فيما بين سنتي 1984 و 1990, و لازالت الصيرورة فاعلة فعلها في نفس الاتجاه حاليا. كما أن الاقتصاد المغربي لازال إلى حد الآن عاجزا عن الخروج من دوامة ما يسمى " بالاكراهات" سعيا للحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية و التخفيف من ضغوط المديونية و محاولة امتصاص العجز المتراكم في مختلف القطاعات الاجتماعية, و خاصة منها التشغيل و السكن و التعليم و الصحة. و بذلك تراكمت المعضلات الاجتماعية المتمثلة في ارتفاع نسبة الفقر و توسع دائرة البطالة و انتشار السكن العشوائي و غير اللائق و ارتفاع عدد المرضى, لاسيما المصابين بأمراض مزمنة و العقم المكشوف للمنظومة التعليمية.

و يمكن تلمس درجة و مظاهر الفقر بالمغرب عبر مراتب الحاجيات الإنسانية التي يمكن تصنيفها إلى 3 أنواع : ضروري و حاجي و تحسيني. و الضروري هو ما لابد منه في قيام مصالح العيش المقبول و لوازمه. و فقدان هذا النوع من الحاجيات من شأنه بالتأكيد الجر إلى الفساد و الفوضى و الظلم و الحيف الاجتماعي.

إن المغرب بلد غني منتشر فيه الفقر. فالدخل الفردي المتوسط قد يصل إلى 1250 دولار أمريكي, إلا أن الفوارق الاجتماعية صارخة و تزداد توسعا. فالهوة تتسع باستمرار بين الفئات الأكثر فقرا و الفئات الأكثر غنى. لقد أصبح 10 في المائة من الساكنة يستهلكون أكثر من 15 مرة ما يستهلكه ذوي الدخل الضعيف و المتوسط, و هؤلاء كثيرون, إذ لا مجال للمقارنة بفعل التباعد الذي يقاس بالسنوات النوري. هناك ما يناهز 10 ملايين مغربي لا يفوق دخلهم اليومي 20 درهما (دولارين اثنين) و 15 في المائة من الساكنة تعيش تحت عتبة الفقر, و ما يقارب نصف الساكنة يتموقع دخلهم الشهري في حدود أقل من 600 درهم ( 60 دولار). و هذا يبين بجلاء الأهمية العددية للفئات المهمشة أو التي في طريقها إلى التهميش المحتوم. و الفوارق في أجور الموظفين قد تتباعد من 1 إلى 100 تقريبا و هذا وضع قل نظيره بالعلم, و هو أمر أضحى عير مقبول في ظل انتشار الفقر, إذ هناك 6 مواطنين من أصل 10 يعيشون في وضع فقر مدقع. في حين أن ميسوري الحال لا يتعدون 20 في المائة بينما يعاني 80 في المائة من السكان من ضعف الراتب والدخل انهيار قدرتهم الشرائية, لاسيما في العلم القروي الذي يضم أكثر من 65 في المائة من فقراء المغرب. إلى حد أن أغلب المغاربة أضحوا لا يفكرون إلا في معضلات الإنفاق على متطلبات الغذاء و السكن, أما باقي الحاجيات الضرورية فلا طاقة لهم لتوفير مصارفها.

و ما هذا الوضع إلا نتيجة موضوعية لمجمل السياسات التي اعتمدتها الدولة المغربية على امتداد أكثر من 4 عقود, و كانت بالأساس سياسات تكرس آليات التفقير و لا تكترث بالتصدي لأسباب الفقر حتى إبان فترات الازدهار الاقتصادي الذي عرفته البلاد, و قد ساهمت آليات التفقير الممنهج بالمغرب و بشكل كبير في تحطيم قيم العدالة الاجتماعية, إلى أن أضحت البلاد تعرف ارتفاعا في نسبة الفقر في السنوات الأخيرة, لم تعرف مثله على امتداد تاريخها.

إن العديد من العوامل و الظروف تراكمت و لازالت تتراكم, عملت على تكريس آليات التفقير و التهميش الاجتماعي خاصة في البادية. و ذلك أن المسار الاجتماعي و الاقتصادي بالمغرب, خاصة فيما يتعلق بالاختيارات الكبرى منذ الحصول على الاستقلال, كان تأثيره سلبي و مباشر على مصالح أغلبية الشعب المغربي, إذ أدى إلى تصاعد مستوى الفقر باستمرار, كما عجز عن الحد من تنامي انتشار الفقر. لقد فشل المغرب في مواجهة مشكلات الفقر و لم يستطع التخفيف من حدته. و لازالت إشكالية الفقر حاليا مثارا للقلق, بل أضحت تبعث على الانزعاج مع تنامي أعداد الأشخاص الذين يعيشون في حالة من البين. و لازالت الهوة بين الأغنياء و الفقراء تتسع بشكل بارز, كما تنوعت مظاهر الفقر و تعددت من جراء أزمة التشغيل و انتشار السكن غير اللائق و سيادة عدم الاستفادة من الخدمات الصحية بالنسبة للفقراء اعتبارا من جهة لتفشي الفساد و من جهة أخرى لعدم كفاية الخدمات الاجتماعية و ضمانها على مختلف التراب الوطني.

إن الفقر بالمغرب أصبح فقرا مركبا يتضمن الحرمان من جملة من المقومات الضرورية للحياة, طعام غير كافي و عدم التمكن من الرعاية الصحية و عدم القدرة على الاستفادة من سكن لائق و عدم الاطمئنان عن الغد القريب. و هذا الفقر لا يعود إلى كون أن الثروات الوطنية قد نقصت أو تراجعت, و إنما يعود بالأساس إلى الازدياد المطرد لثروات قلة لا تكاد تبين من المغاربة على حساب حرمان الأغلبية الساحقة. و لا يخفى على أحد أن اختلال ميزان العدالة الاجتماعية بشكل مفضوح من شأنه أن يحول إلى بؤرة للإجرام و الللاأمن ما دام افتقاد الإنسان للشعور بوجوده العادل و حقه الإنساني سوف يغرقه في مستنقع اليأس, و آنذاك سيكون مستعدا لأي شيء.

في الحقيقة هناك آليات فاعلة تعمل على ترسيخ صيرورة للتفقير المستدام, و هي آليات تنتج تفاوتا كبيرا في توزيع و إعادة توزيع الدخل, و تكرس حيفا مفضوحا في تحمل العبء الضريبي و تعتمد الاستخفاف بسياسات الرعاية الاجتماعية و سوء تدبير المال العام. و بذلك فهي تكرس استمرار تدفق الثروات على الأقلية في حين تزيد من تفقير الأغلبية, و تشجع على تهريب الأموال إلى الخارج من طرف هذه الأقلية, الشيء الذي يساهم في الاستنزاف الاقتصادي للبلاد.

لكل هذه الأسباب و غيرها علينا التحدث عن الفقرقراطية و ليس على مجرد الفقر, لأن أعداد الفقراء بالمغرب لم يتوقف يوما عن التزايد نتيجة للسياسات المعتمدة و المتبعة و للممارسات المكرسة في تدبير الشأن العام الوطني و المحلي. فالأمر يتعلق بفقرقراطية لأن الشيء الذي كان و لازال له مستقبل بالمغرب هو الفقر. و الفقرقراطية هي أدهى من الفقر, إنها آليات و ممارسات ممنهجة لاستدامة الفقر عبر صيرورة تفقير الفقير و اغناء كمشة لا تكاد تبين من جراء قلة عددها, و ذلك بواسطة مسلسلين, مسلسل الاستحواذ على خيرات و ثروات البلاد و احتكار ثمرات التنمية, و مسلسل تحميل الفئات الفقيرة عبء تمويل الميزانية العامة سواء على شكل تحميلها ما لا طاقة لها به, أو على شكل حرمانها من خدمات اجتماعية ضرورية.
لهذا نتحدث عن الفقرقراطية و ليس عن الفقر. فالفقر أهون من الفقرقراطية, لأن الأول حالة و واقع يمكن تغييره إذا حضرت الإرادة السياسية لذلك. أما الثانية فهي نهج و آلية و عقلية دائمة الفعل, و بالتالي تعمل على استدامة الفقر و توسيع مداه و دائرته.

و نتحدث عن الفقرقراطية و ليس عن مجرد الفقر, لأن هناك علاقة وثيقة و واضحة بين أنماط التدبير السائدة في بلورة السياسات العمومية من جهة, و بين تطور الفقر و اتساعه من جهة أخرى. و لأن الدولة أضحت غير قادرة على تهييء المناخ المناسب للاستثمار الذي له تأثير مباشر على ظاهرة الفقر, بحيث يمكنه خلق فرص للشغل يستفيد منها الفقراء. و لأن الدولة أصبحت غير قادرة على توفير الخدمات الأساسية الكافية و المجدية في ميدان التعليم و الصحة و الرياضة و الثقافة تساعد الفقراء على اكتساب الشروط الضرورية للتفاعل مع السوق و التمكن من ضمان دخل كافي لمواجهة المتطلبات الضرورية للحياة. و لأن الدولة فشلت في تدبير مختلف برامج محاربة آثار الفقر.

نتحدث عن الفقرقراطية و ليس عن الفقر, لأن هذا الفقر لم يعد ظاهرة طبيعية و إنما معضلة دائمة ناتجة عن اختيارات و سياسات اقتصادية و اجتماعية انتهجت منذ عقود. فهناك فقر و تفقير عبر آليات الفعل السياسي و الفعل الاقتصادي و الفعل الاجتماعي. فعندما يجد المواطن المغربي نفسه أمام الإدارة لقضاء مآربه أو لاجئا للقضاء لطلب حقه المسلوب أو مضطرا لطلب الاستفادة من أحدى الخدمات العلاجية أو الاجتماعية, آنذاك تبدو له و بجلاء الدلالات الحقيقية, ليس لفقره, و إنما لسيادة الفقرقراطية ببلاده. آنذاك تتضح له الصورة, كون أن الفقر بالمغرب ليس ظاهرة عابرة أو ظرفية أو مرحلية و إنما هو معطى دائم و حالة بنيوية و هيكلية بفعل آليات تفقير مستمرة, تعيد إنتاجه و توسيع مداه و انتشار دائرته. ففي المغرب أضحى الفقراء يلدون فقراء أكثر فقرا و الأغنياء يلدون أغنياء أكثر غنى. لذلك فالأمر لم يعد يتعلق بمجرد حالة فقر فحسب, و إنما بالفقرقراطية. علما أن اغلب برجوازية المغرب هي برجوازية المظاهر و ليست "برجوازية عقيدة" مرتبطة بالمقاولة و المبادرة الحرة, لأنه أصلا, في غالبيتها هي برجوازية غير مقاولة بالأساس, و إنما قامت بأدوار الوساطة و السمسرة و الارتشاء ة الاستفادة من الامتيازات السهلة دون بذل مجهودات, مما جعلها برجوازية طفيلية أو "طيف" برجوازية. كما أن هناك الأموال التي كدست في فترة غابت فيها الديموقراطية و سادت فيها المحسوبية واقتصاد الريع و أنظمة الو لاءات و الامتيازات و العطاءات السخية و غض الطرف عن نهب المال العام و التجاوزات.

و هناك عدة تمظهرات للفقرقراطية بالمغرب. و منها كثرة الدعاية و الهرج المناسباتي في كل حماة أو توزيع الصدقات. فمثلا في شهر رمضان تطلع عليك دعايات و ربورتاجات تحت عناوين بارزة من قبيل " موائد الإفطار تملأ شوارع المدينة", و ما هذا إلا مثل من عينة عناوين الذين تمرسوا طويلا في تحويل مصائب أوسع فئات المجتمع إلى بشائر خير و دليل على التشبث بالدين الحنيف.

كما أنه من التمظهرات التي تدلنا على تكريس الفقرقراطية بالمغرب الفساد السياسي و الفساد الاقتصادي و الفساد الاجتماعي. و القاسم المشترك لكل هذه الأنواع من الفساد هو أن هناك كمشة مستفيدة منه و مؤثرة فيه- أي أصحاب النفوذ و المقربون- و هذا الفساد ساد و استشرى في غياب المراقبة و المحاسبة في ظل سياسات مشوهة و إطار تنظيمي معوق.
و من تمظهرات الفقرقراطية, تكريس الأمية التي مازلت ضاربة إطنابها في المجتمع. كما أن الخدمات الاجتماعية المقدمة خصوصا بالبادية, مازالت دون الحد الأدنى المطلوب. فنسبة الربط بشبكة الكهرباء و الماء لا تتعدى 50 في المائة الشيء الذي يوضح حرمان أكثر من نصف الساكنة القروية من الماء و الكهرباء. و فيما يخص البطالة, حسب المعطيات الرسمية المعلن عنها, تفوق 13 في المائة, علما أن هذا الرقم بعيد عن الواقع بفعل التفسيرات الملتوية للإحصاءات و جملة من المفاهيم المرتبطة بالتشغيل و ظروف العمل و بفعل أن كثيرا من السكان النشيطين يشتغلون بأنشطة غير قابلة للتصنيف غي إطار عالم الشغل المتعارف عليه, و نسبة كبيرة أخرى تتقاضى أجورا لا يمكن أن توفر حتى الحد الأدنى للبقاء.

كما أنه من مظاهر الفقرقراطية أن الغالبية من سكان المغرب لا تحظى بأي ضمان اجتماعي و تغطية صحي. و من مظاهرها تراكم الوظائف و تراكم الرواتب بالنسبة لفئة خاصة, علاوة على السخاء في منح الامتيازات لأصحاب الرواتب "الطيطانيكية" مقابل تضييق الخناق على ذوي الدخول الضعيفة. و من مظاهرها حرمان أصحاب الأراضي الأصليين و منحها كهبات و امتيازات للمحظوظين بعد أن استرجعت من المعمرين الذين سلبوها أصلا من أصحابها. و يزيد الطين بلة إذا علمنا أن المستفيدين من تلك الأراضي لا تربطهم أية صلة لا بمنطقة تواجد الأرض و لا بالميدان الزراعي, الشيء الذي نشأ عنه تمركز الأراضي الخصبة في أيدي كمشة قليلة مقابل حرمان ذوي الحقوق الفعلية و التاريخية ودفعهم إلى صفوف الفلاحين بدون أرض.

و من مظاهر الفقرقراطية تنامي ظاهرة الأطفال المشردين, أطفال الشوارع و هي ظاهرة أضحت تثير قلق المجتمع المدني. و من مظاهرها كذلك أن المواطنين باتوا يرضون بالقليل و برواتب متدنية, خصوصا و أن الحاجة إلى العمل باتت ملحة جدا, و بذلك أضحوا يلهثون و راء تأمين لقمة العيش, و هذا قطم طموحاتهم إلى حدودها الدنيا, و بذلك تخور قواهم فيرضون بما هو أقل من القليل.

كما أن من تمظهرات الفقرقراطية بالمغرب سيادة ثقافة معادية لحقوق الإنسان و الديموقراطية على صعيد الحياة اليومية, و كذلك عبر استخدام مبدأ "الخصوصية" للطعن في مبدأ عالمية تلك الحقوق و شرعتها الدولية التي ساهمت فيها جميع الثقافات. و بذلك يتم اللجوء إلى الخصوصية, ليس لترسيخ شعور المواطن بالكرامة و المساواة و لإثراء ثقافته و تعزيز مشاركته في تدبير شؤون البلاد, وإنما لإقناعه بالقبول بالحال على ما هو عليه, اعتبارا لأن جملة من الحقوق لا تلائمه.




و لعل من الإشكاليات التي تمكننا من ملامسة سيادة الفقرقراطية و من كشف آلياتها إشكالية السكن, إذ أن الحرمان الممنهج لأوسع فئات المجتمع من السكن اللائق تنتج عنه جملة من التمظهرات الأخرى لآليات الفقرقراطية, ومن ضمنها حرمان فئات مجتمعية واسعة من ثمرات التنمية و تعميق التهميش و الإقصاء, الشيء الذي يساهم في انتشار الانحراف و تفشي الأجرام. كما أن انخفاض القدرة الشرائية و غلاء المعيشة يجعل من الصعب بمكان الحصول على مسكن خاص لائق حتى بالنسبة للفئات المتوسطة و التي كانت بالأمس القريب في مأمن من انعكاسات الفقرقراطية. و كل هذا يتم في وقت يعتبر فيه حق السكن اللائق من الحقوق التي يضمنها الدستور و مختلف الاتفاقيات و العهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان و التي كان المغرب من أولى البلدان العربية التي صادقت عليها.

فمن المعلوم أن السكن من الحاجيات الملحة التي يعني غيابها الضياع و التشرد و التهميش و الإقصاء. لذلك يعتبر السكن في نظر علماء الاجتماع و التربية و الاقتصاديين و فقهاء الدين, من الضروريات اعتبارا لكون بدون سكن لائق لا يمكن حفظ لا الجسم و لا العقل لا النفس و لا النسل و لا القيم و لا الدين, و بالتالي تعريض المستقبل للضياع المحقق. و فعلا إن عدم قدرة فئات عريضة من المجتمع المغربي من الحصول على سكن لائق بالمواصفات المتعارف عليها هو تعبير صارخ عن حالة التهميش الاجتماعي و تحذر الفقر وسط المجتمع لا يعاني من انتشار الفقر فحسب, وإنما يرزح تحت وطأة الفقرقراطية التي هي أدهى من الفقر, باعتبارها جملة من آليات استدامته و انتشاره و إعادة إنتاج شروطه و عوامل انتشاره بين أوسع الفئات.

السكن إذن يعتبر من الأمور الضرورية في حياة الإنسان, وله تأثير مباشر و حتمي على تكوين الفرد و نشأته. و عدم توفر السكن اللائق يؤدي إلى مفاسد كثيرة, لاسيما و أن أغلب المغاربة يتميزون بعدم قدرتهم على الحصول على السكن اللائق الذي يطمحون إليه اعتبارا لانتشار الفقر. و لتقريب الصورة من الأفيد عرض بعض الإحصائيات ذات الدلالة في هذا المجال. فهناك أكثر من 85 في المائة من السكان الحضريين بالمغرب يعيشون في دور مكرية و ليس في ملكيتهم, و ما يناهز 35 في المائة منهم يعيشون في غرفة واحدة, و ما يناهز 40 في المائة يعيشون في مساكن لا تحتوي إلا على غرفتين. علما أن الكثافة السكانية تصل في بعض الأحيان بالمدن الكبيرة إلى 3000 ساكن في الهكتار الواحد, في حين لا تتعدى الكثافة المسموح بها عالميا 300 ساكن في الهكتار. و علاوة على هذا و ذاك, فبالنسبة للمغاربة القانطين في دور الكراء, تمثل نسبة مصاريف الكراء ما بين 25 و 75 في المائة من دخل الأسرة الذي يتراوح مابين 1500 و 4500 درهم (150 و 450 دولار) شهريا في أحسن الظروف. و هناك من الذين يملكون سكناهم يعيشون في دور تتكون من غرفتين فقط, في حين يظل 65 في المائة من المغاربة مكترون للمنازل التي يقطنونها. و هذا الواقع يبين بجلاء أن هناك خصاص مهول في السكن, و أنه مع أزمته و ارتفاع كلفته ما فتئت مدن الصفيح و الأحياء العشوائية تتزايد بشكل يصعب معه تحديد إحصائيات مضبوطة في هذا الصدد. إضافة إلى مساهمة المضاربات في التهام الأراضي الحضرية لتحويلها إلى تجزئات و اقامات لا يقوى عليها أغلب المغاربة على أداء ثمنها للاستفادة منها. و في واقع الأمر, إن أزمة السكن تعتبر من أبرز تمظهرات الفقرقراطية بالمغرب. و ترجع بالأساس إلى آليات توزيع و إعادة توزيع الثروات الوطنية. و اعتبارا لكون هذه الآليات تقضي باغناء الغني و تفقير الفقير, فان من انعكاساتها توزيع ثروة العقار التي أدت إلى انتشار دائرة عدم التملك و اتساع فضاءات السكن غير اللائق كنتيجة لغياب عدالة في آليات توزيع هذه الثروة. و بالتالي فلم يتمكن أغلب المغاربة من السكن اللائق في ظروف سليمة. و مما زاد من حدة هذه الأزمة و من تكريس تفعيل آليات الفقرقراطية ببلادنا تقليص النفقات العمومية التي أوصى بها صندوق النقد الدولي منذ ثمانينات القرن الماضي, وهي توصيات اعتمدها القائمون على الأمور بصدر رحب و كرسوها تكريسا دون اعتبار لانعكاساتها على أوسع الفئات. و للتدليل على أن أزمة السكن ما هي في واقع الأمر إلا نتيجة طبيعية و منتظرة لآليات الفقرقراطية تكفي الإشارة إلى مؤشرين.

الأول هو استفادة كمشة من المقربين من السلطة من امتيازات عقارية على حساب استنزاف الرصيد العقاري للدولة, الشيء الذي شجع على تنامي المضاربات العقارية. أما المؤشر الثاني فهو المتعلق بظروف و آليات إعادة إسكان الفئات المحرومة من السكن اللائق, إذ أن رجال السلطة تدخلوا في مختلف الإجراءات و عتوا فسادا فيها و كانت النتيجة تناسل الأحياء العشوائية السكن غير اللائق بمباركتهم أحيانا كثيرة. و هذا كذلك يعتبر آلية من آليات الفقرقراطية ما دام أن هناك ثلة من رجال السلطة و القائمين على الأمور على جملة من الإدارات اغتنوا على حساب انتشار البناء العشوائي مستغلين ظروف أزمة السكن الخانقة.
كما أن سياسات و مجهودات الدولة في ميدان السكن من شأنها كذلك أن تدلنا على تكريس الفقرقراطية بالمغرب. فمنذ ثمانينات القرن الماضي سعت الدولة إلى إحداث جملة من المؤسسات العمومية و شبه العمومية قصد التصدي- حسب زعمها- للخصاص الصارخ في السكن. و هكذا تم إحداث المؤسسات الجهوية للتجهيز و البناء و الشركة الوطنية للتجهيز و البناء و الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق و شركة التشارك. إلا أن عمل مختلف هذه المؤسسات تميز بسوء التدبير الشيء الذي أدى بأغلبها إلى حافة الإفلاس. فتراكمت ديونها مما جعل الدولة تتدخل لاتقادها بضخ أموال مقتطعة من الميزانية العامة- أي من أموال الشعب و عرق أوسع فئاته- في ميزانيتها. و في نهاية المطاف لم تؤد دورها, بل ساهمت في المزيد من اتساع إشكالية السكن. و حتى مشروع 200 ألف سكن الذي جاء لانقاد الموقف تميز في عمومه بنقص الجودة و المرافق الضرورية الكفيلة بتحقيق التوازن العادل, كما اصطدم في آخر المطاف بغياب وضوح المفاهيم و الآليات الكفيلة بتنفيذه.

و لعل من بين تجليات الفقرقراطية قي مجال السكن, كمجال حيوي, غياب استراتيجيات واضحة, إذ أن جل المشاريع كانت عبارة عن ردود فعل من طرف الدولة لاحتواء غليان اجتماعي أو أحداث سياسية أو سخط شعبي. و كذلك الضعف البارز لقدرة الدولة على التخطيط الطويل المدى, و ذلك بفعل اختراق المصالح الخاصة و الفئوية الضيقة للسياسات الحضرية المتبعة. و بذلك غابت شروط التنمية الشاملة, لأنه لا يمكن تحقيق أية تنمية في ظل سيادة الفقرقراطية و تكريسها.

و الحالة هته, فهل يمكن إخراج البلاد من بوتقة الفقر من خلال حملات أو تبرعات أو مهرجانات تحسيسية؟

إن التصدي للفقر بالمغرب يمر بالضرورة و حتما عبر التصدي لجذور الفقرقراطية, أي عبر بلورة استراتيجية مستديمة واضحة المرامي و الأهداف, تضع نصب عينيها ثقافة تخليق الحياة العامة و احترام المال العم و اجتثات آليات إنتاج و إعادة إنتاج عوامل و أسباب الفقر و التهميش و وضع حد لمسلسل التفقير الممنهج.

و لعل أول خطوة على درب التصدي للفقرقراطية تكمن في حضور الإرادة السياسية الفعلية لوضع حد, و فورا, لآليات التفاوت في توزيع الدخل و الثروات و مواجهة تهريب الأموال للخارج و التخلص من الصفقات المشبوهة عبر اعتماد الشفافية و التصدي للمحسوبية و الزبونية و محاربة الاغتناء غير المشروع و التفكير في بلورة إصلاحات فعلية و جذرية في الميدان الاجتماعي لاسيما عبر اعتماد آليات جديدة و منقحة في توزيع و إعادة توزيع الثروات الوطنية و تخفيف من عبء الضرائب على المحتاجين و تحسين الأجور و الرواتب و تخفيض الرواتب "الطيطانيكية" و التخلي عن العلاوات و الامتيازات المبلغ فيها و غير المعقولة و اللامبررة لكمشة من كبار الموظفين و المسؤولين السياسيين, لاسيما و أنهم لا حاجة ماسة لهم بها, علاوة أنها لا تتماشى و طبيعة الظرف الذي تجتازه بلادنا حاليا و تعتبر نشازا أمام الخصاص في مختلف الميدان
مارس آذار 2003

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات