بمتابعة عادية جدًّا لتاريخ الانجازات البشرية، سنجد بأن معظمها لا يخرج عن الإطار الفردي أكثر منه الجماعي، وأن الصورة الفردانيّة للإنجاز تبقى السمة الرئيسة والطاغية على سيرورة الانجازات البشرية. فالأمر ليس بدعًا بقدر ما هو حالة طبيعية لا تستدعي الوقوف عندها مطولا، لاسيّما وتأريخ البشرية يحمل في جعبته العديد من الأسماء المبدعة، وعلى أكثر من صعيد، وفي مختلف حقول المعرفة والعلم والابتكار، أفلاطون وأرسطو وسقراط، أو روجر بيكون ولافوازيه ولوك، وابن سينا وابن الهيثم والخوارزمي والبيروني وابن النفيس.. وغيرهم أيضا ممن كانت لديه محاولات التواصل الاجتماعي المباشر؛ بصورة متجاوزة للفعل الفردي، أي السعي الحثيث لأن تأخذ العلوم سواء التجريبية منها أو الحيوية مجالاتها المتنوعة للدخول في الفعل الاجتماعي المتسق، وهذا ما تم الاصطلاح عليه بالظاهرة الاجتماعية ونشأة ما يسمى بـ "علم الاجتماع الحديث".
بيد أنه وكما يبدو أن المسافة بين الفعل الفردي إلى الجماعي؛ بقيت مرهونة بحجم التفاعل الذي يحدثه الإنسان نفسه مع الكون والحياة، ومن حيث الأداء إذا ما كان هو أقرب للفعل الجماعي منه الفردي، حتى بات قريبًا من الوصول إلى ما يدعى بالحضارة باعتبارها نتاجًا جماعيًا، لتصبح الظاهرة الجماعيّة هي الامتياز لمقومات معنى الحضارة على مر التأريخ البشري، ووصولا إلى الواقع المعاصر، والذي يضيف مكنزمات أخرى لرهانات النهوض والتقدم؛ أصبح الأداء الجماعي والمدني صورة مكثفة تعكس واقعًا حديثًا، قد لا يختلف عمّا كانت عليه الحضارات القديمة، غير أن صبغة الحداثة وما بعدها ظلت السمة البارزة لحجم التطور الهائل الذي ينعم به الإنسان المعاصر. ولعلَّ من المائز للحضارة المعاصرة على سائر الحضارات السابقة هو أن الغالب من مكتسباتها تنعم به البشرية قاطبة، حتى لو أصبح المنتج والمستهلك على حد سواء من حيث الحاجة والاستخدام، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة الإنسان المنتج، ولا يفقده امتيازه بتاتًا. إذن الأداء الجماعي المتسق هو الذريعة للدخول في كنف الكيانيّة؛ بوصفها نظامًا مدينًّا، يُعاد انتاجه وفق المعطيات الحديثة في أشكال وصيغ مختلفة؛ كالمؤسسات، والمنظمات، والدول أيضا.
وعلى الرغم من محاولات التقليد والمحاكاة مع تجارب الشعوب والدول الأكثر تقدمًا يبقى العالم العربي بصورته الراهنة أسير الفردانيّة، بمختلف أشكالها؛ الأيدلوجية والحراكية والإنتاجية، بالتالي ليس علينا إلا واحتساب مثل هذه المحاولات أشبه ما تكون بصور شوهاء عن الشكل والمفهوم المدني الحديث، على اعتبار بأن النموذج المدني هو بمثابة حجز الزاوية في مسيرة التقدم والتطور الذي يشهده معظم مجتمعات الدول المتقدمة، من الشرق إلى الغرب، إذ ليس بالإمكان أن تكتمل الصورة الحضارية دون أن يسبق ذلك قناعة منها بأدنى موجبات العمل الجمعي المتدثر بالمدنية، الأمر الذي يستدعي بالضرورة التفلت من النزعة الفردانية باعتبارها، عملية أسهل بكثير من أن تكون على خطٍ موازٍ إلى ما يصدق عليه القول والفعل بـ "الوعي الجمعي" أو "الظاهرة الاجتماعية". إذ لا وجه للمبالغة إطلاقًا إذا ما اعتبرنا وصول معظم المجتمعات تلك إلى مصاف التقدم ومنتهى النظام الاجتماعي؛ جاء كنتيجة طبيعية، ليس للقناعة الجماعية فحسب، بل أيضا للفعل المتسق مع المسألة الحضارية والكونية بصورة عامة.
ومما لا يدع مجالا للشك؛ وإن لعبت الأدوار الفردانية فيها الشيء الكثير، هذا لا يقلل من مكانة الفعل الجماعي الحضاري في معالجاتها للمسائل الحضارة المعقدة، والسعي الحثيث للوصول بالإنسان المعاصر أعلى درجات الذروة، وإلى القدر الذي يضمن عملية التفاعل الخلاق بين أبناء المجتمع، وفق منحىً؛ أن الإنسان اجتماعي بطبعة، وإنه وحسب متطلبات الحاجة أو الرغبة ليس بمقدوره أن يتدافع جماعيًّا وبصورة مثاليّة دون أن يحتكم لتعاقد اجتماعي؛ لا يساهم في ضبط الحاجة والرغبة لديه أو كبحهما، بقدر ما يكون التأسيس عليه في صناعة التجربة الحضارية للإنسان المعاصر. ونعتقد بأن تجارب النهوض المدني للعديد من المجتمعات الحديثة خير مثال لذلك؛ فاليابانيون وفي غضون نصف قرن أو يزيد أصبحوا رقمًا مهما في معادلات التكنولوجيا وثورة الاتصالات، فضلا عن دول النمور الآسيوية الذين قطعوا شوطًا كبيرا في مضمار التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إضافة للدول الغربية؛ أوربا وأمريكا والتي ضربت شعوبها أروع التجارب في مضمار الديمقراطية والحرية ومجالات حقوق الإنسان، بعد أن تمكنت من بناء منظومة قيم اجتماعية تحت رعاية القانون المدني بوصفه؛ قد وضع كافة أبناء المجتمع على قدر عال من المساواة والعدالة.
وإن لم تكن المجتمعات العربية قد ركبت قطار الحضارة ومعطياتها، فهذا ولا شك لا يقلل أبدًا من أهميتها ومكانتها في قبال التجارب البشرية الهائلة إزاء دورة الحضارة، إذا ما اعتبرنا بأن كل ما ينعم اليوم به الغرب من تقدم وتطور ما هو إلا تراكم ثقافي لتجربة الإنسان نفسه وتفاعله مع الكون والحياة في غمرة من التشكل المجتمعي، وقد شهدت الحالة العربية بالذات حالة الهروب من الحياة الفردية العارية إلى حياة النظام الاجتماعي، من المجتمع البدوي إلى المجتمع المدني. وهذا بحد ذاته يُعد إنجازًا دراميا، لم يكن بفعل المتغيرات الاجتماعية وتطوراتها فحسب، بل أن الزمن وما يحمله من مجموعة من المؤثرات كان له الأثر الأكبر في مثل هذا التحول. مع الأخذ بعين الاعتبار للخصوصية الاجتماعية والثقافية من بيئة عن أخرى، ومن مجتمع عن آخر. ويبقى السؤال الأهم في هذا المضمار ؛ هل بالفعل أن المجتمعات العربية بالتحديد قد دخلت حيز المدنية الحقيقية والمنشودة!؟.
فقد يكون ثمة توافق على أن الإنسان ومن خلال هذا التحول باتجاه المدنيّة، ومن خلال دخوله في فضاء النظام المدني قد تجاوز تلك حالة العزلة والفردانية التي كانت تفرضها طبيعة الحالة البدوية، وهنا بإمكاننا أن نستحضر فكرة "العقد الاجتماعي" حسب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي وصف الحالة المدنية الجديدة أشبه ما تكون بالقانون الصناعي الضاغط. بمعنى أن جملة التعاقدات والمعاهدات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد هي تعبر بالضرورة عن روح القانون باعتباره الجهة الخارجية والمسؤولة عن تنظيم طبيعة العلاقة الاجتماعية، بينما تبقى الأخلاق منبعها الأساس يأتي من جوهر الإنسان نفسه. وهذا لا يلغي دور البيئة والمحيط والأفكار في التأثير على السلوك الاجتماعي، فقد تكون الطبيعة البدوية ولاّدة للإبداع المحدود أو الفرداني، إلا أنه ذلك لا يمكن مقارنته بما تترجمه الظاهرة المدنية والاجتماعية، كما أنه أيضًا لا يمكن المقارنة بين صيرورة حضارية مسكونة بالتدافع الجماعي والمدني المنظم، مع مساعٍ وأخلاقيات ومنجزات لا تتجاوز الصورة الفردانية!.
وبالعودة إلى مضمون السؤال، فالمجتمعات العربية أمام اختبار حقيقي إزاء تجربة الثقافة المدنيّة باعتبارها حاضنة واقعية للتأسيس لعمل جماعي يتفاعل فيه الإنسان مع الحياة والكون، بالتالي نستطيع القول بأنها قد بلغت البدايات من طريق ما يسمى بالحضارة، وتساؤلات أخرى: لماذا لم تؤسس الصورة المدنيّة الراهنة؛ حالة من التعبئة الجماعية لدى المجتمعات العربية؟. هل ثمة فرق ما بين التجربة المدنية لدى المجتمعات المتقدمة وبين تجربة الشعوب العربية؟. بالتأكيد وبكل سهولة نستطيع أن ندرك الفرق بالنظر إلى النتائج والمخرجات، فالعقل الغربي ما انفك وبشكل مكثف ومستمر من إعادة انتاج الرؤية الجماعية ، سواء فيما يخص المكونات الاجتماعية على الصعيد الداخلي؛ من جمعيات ونقابات واتحادات وكل ما من شأنه أن يحمل طابعا مدنيًّا، أو فيما يتعلق بشؤون الدول والأطر التي تسوسها عبر منظمات عالمية ومواثيق وشراكات اقتصادية وغيرها. وعلى الرغم من ادعائه الدخول في كنف المدنيّة الفاضلة؛ يظل العقل العربي أسير الاستهلاك والمحاكاة والتقليد، وحبيس ذاتويته، وتصوراته، وأعرافه.
وإن جاز لي التعبير؛ فالفرق بين "المدنيّة الغربيّة" و"المدنيّة العربيّة" بأن هذه الأخيرة؛ كانت مفرغة من مضمونها الحيوي، ألا وهو "حرية الاختيار" التي لا تقف عند الأحكام وطبيعتها، بل والأشخاص المنفذين لها أيضا. فقد يتوفر لدى المجتمعات العربية شيئا من روح القانون، الذي ولا شك هو عنصر مهم من عناصر الضبط وتوفر الأمن، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن مثل هذه المدنيّة المشوهة قد أضافت له الشيء الكثير في مسيرة البناء والنهضة والتطوير وعلى مدار عقود من الزمن، فهناك اختلاف كبير بين الحالة التي يعيشها الناس – أفرادًا وجماعات - منفلتين، ويخوضون طريقهم الشاق من الذات إلى الذات!. وبين الحالة التي يكون الناس فيها أحرارا في رغباتهم واختياراتهم. يتدافعون نحو الحضارة، مؤثرين ذاوتهم، ومنصهرين في أنساقهم العامة؛ لأجل رسم البراديغم الجماعي، تلك هي شيفرة الحل للمعادلات الحضارية!.
وحسب الرؤية المدنيّة الحديثة لا يمكن أن يتحول القانون إلى مجرد ضوابط مكانيكية وضاغطة، فهذا المعنى من القانون موجود دائما على امتداد تاريخ المجتمعات البشرية، إنما القانون المقصود؛ هو الذي يستمد طاقته من مقومات العقد الاجتماعي، وغلبة الرضا العام للناس وفيما يتوافقون عليه، حسب موقع الاختيار لديهم، وليس القهر والإجبار!. إذن؛ لا يكفي المجتمعات العربية تدثرها بالمدنيّة الناقصة والتي لا يمكن من خلالها الوصول إلى القناعة أو الفعل الجماعيين، دون أن تحقيق الأدنى من اشتراطات الحضارة وسبلها المتعددة. وتجدر الإشارة هنا إلى شرط الجماعية والتي عبر عنها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم في فكرة "الظاهرة الاجتماعية" والتي لا يرى فيها إلا انسجامًا وتناغما مع النزعة الفردانية، ساعيًا من خلالها إلى تظهير المجتمع؛ باعتباره أولوية قصوى، وهو الأهم في مقابل الفرد، الأمر الذي يتطلب استدعاء مختلف العناوين الكبرى الجامعة المانعة ذات الضمانة الشاملة لأن يعيش الناس جميعا أحرارا متساوين في الإنسانية وفي المواطنية، فذلكم قنطرة الوصول إلى الفعل الجماعي. فالجماعية هي تلك القيمة المضافة والضاغطة على الفرد وليس العكس. بل هي المفتاح السحري لعملية الاستنهاض الحضارية والتي باتت المجتمعات العربية بأمس الحاجة إليها اليوم قبل الغد!.
---------
صحيفة أوان الكويتية -
http://www.awan.com/pages/guests/305801
التعليقات (0)