مواضيع اليوم

الفضيلة وسط بين رزيلتين

عادل الجمال

2010-11-24 16:35:43

0

كان البحث في الفضيلة وتحديد معناها ووضع معاييرها أحد الموضوعات المحورية التي شغلت المرحلة المتأخرة من الفلسفة اليونانية، وهي المرحلة التي بلغ فيها الفكر اليوناني أوج تطوّره مع سقراط وأفلاطون وأرسطو. ويعود سبب اشتغال سقراط بمشكلة الفضيلة، وغيرها من المشكلات التي حدّدت جوهر فلسفته، إلى محاولة التصدّي للحركة السفسطائية وحلّ الإشكالات والتناقضات التي أوقعت العقل فيها، عندما انتهى المتأخّرون من السفسطائيين إلى أنه لا يمكن وضع معايير ثابتة للحقيقة، ومن ثمّ لا يمكن تحديد جوهر حقيقي لها، فالحقيقيّ متلوّن ومتعدّد بتلوّن وتعدّد الأفراد ومواقعهم ومصالحهم وجِهات نظرهم. وانتهى السفسطائيون إلى أنّ المنهج الوحيد الذي يعمل العقل بواسطته هو منهج الجدل (بمعنى السفسطة)، وهو المنهج الذي تتطلّب البراعة فيه أن يحسن الإنسان فنّ الخطابة وإتقان استخدام الكلمات، حتى يصبح قادراً على إثبات الشيء ونقيضه، فيثبت أنّ الوجود وهو وجود، لكنه غير موجود، وأنّ المعرفة وهي معرفة، إلا أنّه لا يمكن معرفتها أو التعبير عنها أو تعريف الآخر بها، وأمام تناقضات كهذه فلن يكون صعباً إثبات أنّ الصدق ليس فضيلة، وأنّ الكذب خير مع أنّه شرّ، وربّما لا تحتاج البرهنة على الشرّ الذي في الكذب إلى براعة، لكنّ البراعة التي فتنت السفسطائيين هي في البرهنة على أنّ الصدق شرّ، ومن ثمّ نفي الخيرية عنه..

هناك في عالم المثل مجموعة موجودات ثابتة حقيقية وكلية لا تتغير، وعلى نموذجها تكون الأشياء الموجودة في عالم الحس، ليست كموجودات حقيقية وإنما كنسخ وظلال وأشباه للمثل الخالدة التي تتدرج من الكثرة إلى الوحدة، لتنتهي إلى مثالَي الحق والجمال ثم يعلوهما الخير باعتباره مثال المثل على الإطلاق. أما الفضيلة فليست موجودة في عالم المثل، إنها ليست مثالاً علوياً، ولا يقابلها في الواقع موجود أرضيّ يكون على شاكلتها، بل هي في السعي الدؤوب الدائم نحو التطابق والتماهي مع عالم المثل، إنها في تحقق العدالة التي تقتضي أن يكون كلّ شيء في مكانه المناسب وجهته الصحيحة. لكن العدالة التي ينشدها أفلاطون ليست فضيلة بسيطة وفردية، بل هي فضيلة كلية للاجتماع البشري تتحقق من تحصّل الفضائل الفردية الثلاث : الحكمة والشجاعة والعفّة، والتي تقابل مثلّث قوى النفس : القوّة العاقلة والقوّة الغضبية والقوّة الشهوانية.

يتمحور الاعتراض الرئيس الذي دفع أرسطو إلى هدم النظرية المركزية في الفلسفة الأفلاطونية (أي نظرية المثل)، في أنه ليس من الحكمة أن نغيّر الأسماء عندما نكون عاجزين عن تغيير الأشياء، وإذا كان صحيحاً أنه لا علم إلا بالكليات، فصحيح أيضاً أن لا وجود إلا بالجزئيات، وهذا يقتضي أن الأشياء الموجودة في عالم الحس والمادة هي، رغم تبدلها وفسادها، أشياء حقيقية وليست أشباهاً أو ظلالاً، وأن عالم المثل الذي اعتقد أفلاطون أنّه عالم حقيقيّ مستقلّ ليس إلا عالم الأفكار التي يلدها العقل وعليها تتأسّس المعرفة. وبذلك لن تكون النفس خالدة ولا المادة عدماً.

ما الفضيلة إذن؟ أدرك أرسطو أن الفضيلة لا تخص الفلاسفة وحدهم، وأن إدراكها لا يحتاج الترقي في هذا المعراج الصعب، معراج الجدل، الذي جعله أفلاطون واسطة الفيلسوف نحو عالم مثالي مفارق. لذلك كان التعريف الأرسطي للفضيلة تعريفاً عملياً وقابلاً للتطبيق والتمثل لدى كل حر من أحرار أثينا، فالفضيلة هي وبكل بساطة: وسط بين طرفين كلاهما رذيلة، في أحدهما إفراط وفي الآخر تفريط، وبين الإفراط والتفريط يقع الوسط الذهبي الذي يساوي الاعتدال كجوهر يجب أن يبقى ثابتاً لتتحقق كل فضيلة، وعليه نقيس الفضائل التي لا تستقيم حياتنا الأخلاقية بدونها. إن فضيلة الشجاعة هي وسط بين رذيلتي التهور والجبن، وفضيلة الكرم وسط بين الإسراف والبخل، وفضيلة الاعتداد بالنفس وسط بين الغرور والمذلة، والدعابة وسط بين الفظاظة والمجون.

"الحدّ المعدول"، أي أن الحدّ يكون إيجابياً رغم استخدام أداة السلب فيه، وهو ما يماثل القضية المعدولة في مبحث القضايا المنطقية، فقضية (أرى أنه لا مانع في زيارة المريض) هي قضية موجبة معدولة عن أخرى سالبة هي (لا أرى مانعاً في زيارة المريض). ومع أن الشكل المنطقي للحدود التي تبدأ بأداة النفي هو شكل سلبي، إلا أننا بتنا نستخدم هذه الحدود، سواء في لغة العلم أو الثقافة، كما نستخدم الحدود الموجبة. ويبدو أن اليونان، ومثلهم العرب، كانوا لا يجيزون استخدام أداة النفي في أصل المفردات التي تدل على الأسماء أو المفاهيم (أي الحدود)، لكننا اعتدنا الآن على استخدامها طلباً للدقة في التعبير عن كثير من الأفكار، كاللايقين الذي لا يعني الشك، واللاوثوق الذي لا يعني الريبية، واللامركزية التي صارت مطلب أساسي للعمل السياسي والإداري والمدني دون أن تعني التذري والفردية والطرفية، كذلك الأمر في اللاديني الذي لا يعني الإلحاد واللاأدري الذي لا يعني الجهل واللاعقلي الذي لا يعني الجنون.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات