عبدالعزيز بركة ساكن
يبدو أنّ مصائرهما قد ارتبطت ببعضها البعض رباطاً لا فكاك منه، وليست هي الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في المرة الأولى بتخطيط من القدر، و عملت أياد نجسة- وسمياها فيما بعد شيطانية- كثيرة في جعل ذلك اللقاء مؤلماً و نهائياً .
في 23 نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساءً، عند نقطة تفتيش سُوبا على مشارف مدينة الخرطوم، توقف البص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان و الزمان، ترجل السائقُ وفي معيته المضيف اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد وبالأخرى قلماً أزرق ماركة بك، يرتدي بدلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة، في ثوان معدودات شاهد كل الركاب، نظر الى القائمة، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من البص و يتبعونه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمةٍ واحدةٍ، نزل خمسة من الشبان في أعمار متقاربة،بصمت، في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمةً من الكانفاس غبشاءَ،تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفصٌ من الحديد به نوافذٌ صغيرةٌ للتهوية منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحاً، بائساً و مثيراً للتشاؤم . وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه أنه أشبه بقبر من الحديد على الأسفلت.
يصعب تتبع الدَوّامَات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما، لأنها كانت سريعة بل تمر بصورة لولبية وعنيفة لا تصدق، أُدخلا عدداً من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانِبها رائحة الورق و السجائر البرنجي مختلطة بزنق الجوارب المتعبة، قابلا رجالاً من العسكر و المدنيين لهم نفس الملامح و السحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا و تكراراً،وقيل لهما ذات الكلام مرارا و تكرارا وحُذِرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين و الذين أخطر منهم وهم (العسكرومدنيين)، طلب أبراهيم خضر، وهو الأصغر عمراً، كان شحيما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة وهي عادة ورثها جد عن جد، طلب منهم ان يتركونه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى و زيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، ان يوصلها الى الداخلية و يكمل اجراءات تسجيلها ويعود اليهم مرة أخرى، ضحكوا من سذاجته و قالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل. و اكد له (عسكرومدني) نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لا ارادياً، ان الحكومة سوف تعين لها من يسهل كلما يخصها، فقط عليه ان يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية وان يمضي الى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضاً، هو شيكيري تو تو كوه. الذي ظل صامتاً طوال فترة التحقيق، حتى انه لم يزرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين عندما اقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن العجور نحو ما لا يعلمون من البلاد لكنهم جميعاً كانوا موقنين انهم يتوجهون الى ميدان معركة ما حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد ان قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوماً السابقة، وكانوا يعرفون انهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا اذا كانت في الجحيمِ مدينةٌ بهذا الإسم.
الشخص العادي و اقصد هنا الطبيعي، في رأي ابراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في ان يحب مدينة نيالا و يعشق الأستاذ محمود محمد طه،لا يوجد ربط بين الأثتبن غير انهما ينطبقان على الشخص الطبيعي،شيكيرى توتو كوة لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل ان يلتقي بابراهيم خضر الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معاً، ولا نظن ان ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو كوة شخص طبيعي شيئاً، ولكن والده تُوتو أخبره كثيراً عن مدينة نيالا، وحكى له عن اخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها،لأنه غريباً وكان دائماً ما يُوحي له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها تتوسط عُشبٍ كثيفٍ و ابقارٍ و أغنامٍ ترعى، و مطرٍ لا يتوقف. كان أسمُها خريفية تُور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر.لابد أنها قد أصبحت عجوزاً كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائياً من قبل ايد ما، للعمل ضمن وحدة الأستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أُدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين و عشرين مجنداً، وكان المجندون اما مشغولون بالهرب، لأن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات بالرغم من الحراسة المشددة التي به، إلا ان المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه،فإنه لا محالة مواجهاً للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، اما أنهم مشغولون بمحاولة الإتصال باحد زويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيُشاع أنّ من بين المجندين مُندسين يعملون لصالح السُلطة، ولا يُعرفون إلا عند الذهاب للقتال، حيث أنهم يتخلفون،وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض ما يسمونهم الطابور الخامس و المربك في الأمر أنّ أي من المجندين عرضة لكي يُصنّفْ طابورا خامساً ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضاً بل لمجرد لون بشرته. لذا لم تتوطد علائقٌ لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شِكيري تُوتُو كُوة، وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين احدهم و اي انسان آخر. ونستطيع ان نقول الأيام الأولى لهما في شعبة الإستخبارات شهدت شُكوكا متبادلة بين الأثنين، و مشدات عنيفة كادت ان تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب ابراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما وجدا نفسيهما معا ذات موقف انساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيداً عن البيت لا يعني شيئاً غير العدم،والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يُدفع للحروب دفعاً،الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات و مطامع تخصهم،حتي إذا كانت ضد قبيلته و أسرته بل مسقط رأسه, مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاماً في ميدان معركة ولا يدري شيئاً عمن يَقتُل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف. ذلك الجنديُ الحزين. وكان ابراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين تُوجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني تُرابهم.
الليل في الصحراء صحراء أخرى، تدب في النفس مثل ثعبان اسطوري، كانا يزحفان على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الأسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثة مئة ميلاً وتحديد الوقت اللازم للإعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة وهوايضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة الرصد الصينية الحديثة التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريباً من موقع الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة و الوقت المناسبين و أن يقبع في مسافة معقولة لكى يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أنّ القائد طلب من شيكيري تو تو كُوة أن يقوم بمراقبة ابراهيم خضر و أن يعد تقريراً عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
و لا يدري شيكيري توتو كوة هل كان الضابط جاداً ام انها هفوة كبيرة منه عندما أتبع اوامرة بلفظة قاسية و مربكة، حيث قال: راقب العبد .
و افتكر شيكيري تو تو كوة ان اللفظة اطلقت عليه هو، حيث انه استبعد تماما ان المقصود بها ابراهيم خضر ابراهيم، حيث ان ابرهيم لا يمكن ان ينطبق عليه هذا اللفظ وفقا للثقافة اليومية الموروثة، فابراهيم له بشرة صفراء ناصعة و شعر ناعم و بيدو واضحا من شكله الخارجي انه من تلك المجموعات التي تُطلق لفظ عبد على الآخرين، وليس هو من يُطلق عليه هذا اللفظ. لذا اعتبر شيكيري أنّ الملازم يعنيه و استعد لمشاجرة عنيفة، إلا ان الملازم شرح له الأمر، و أكد له انهم يمتلكون التفاصيل عن كل شخص أي ما وراء المظهر الخارجي، و قالوا له ان اسرة ابراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل أن جدته المباشرة لها اسيادها الذين لولا الأنجليز لكانوا مايزالون تحت القيد، و ان والد ابراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا انه ابن غير شرعي، لأن امه ما ملكت ايمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه، كما أكدوا له شخص حاقد على الآخرين و المجتمع، لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية و الجموهورية و غيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب ابراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم بالسيد، وهل لها زوج آخر، بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيراً، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ و تخيل نفسه مملوكاً لسيد يمارس الجنس مع أمه؟. كان إبراهيم مشغولا بقراءة اشارات الجهاز الصوتية، يعتبر ابراهيم ان هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر، لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، و يتمنى في عمق ذاته ان يسطيع الطورا بورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم من الإنتصار على جيشه و سحقهم جميعاً بما فيهم هو نفسه، في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتوكوة اطلاقاً، اولاً لأن شيكيرى لا يتكلم كثيراً ولا يعبر عما في نفسه بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيراً عن اسرته و أهله و همومه اليومية، بل حتى حبيبته و أبعد من ذلك انه حكي له كيف أصبح جمهورياً في اليوم ذاته الذي ذهب فيه للضحك و الشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه او يرمز اليه ابراهيم بالأستاذ، في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحاً، برفقة كثيرٍ من المستهترين و الجبهجية، قال له بصدق تام، عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر اليه- وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه- عرفت انه على حق، و اننا جميعا ليسوا سِوى القتلة. فلم يعدمة القُضاةُ ونيمرى وحدهما، ولكنا أيضا الذين لم نبذل جهد المُقِل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلاً، شجاعاً، نبياً، قديساً و انساناً لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سُلطة مُطلقةً. أحسستُ في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحوّل تلك المِشْنَقَة إلى عرش عظيم ويُتوج نفسهَ ملكاً أسطورياً ونهائياً لهذا العالم، إذا أراد. ولكنه كان يُريدُ أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقتٍ يُمّكنُ جلاديه من أداء واجبهم التأريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرّم به السيّدُ المسيحُ بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له يومياً عن كل ما يخطر بباله، ولكن شيكيرى، كان يبتسم يعلق بإختصار ولكنه لا يقول شيئاً خاصاً به أبداً.
ولكن لدى شيكري اليوم رغبةٌ كبيرةٌ في التحدث، يريد أن يقول شيئاً مهماً لأبراهيم، سيحكي له عن القائد و يخبرة عن التقرير و رأي القيادة فيه، بل لا يخفى عنه حكاية انه عبد لقوم مازالوا يمتلكونه طالما كان حياً وسوف يتوارثونه أباً عن جد، و أبعد من ذلك سيقول له انه نتاج معاشرة “ما ملكت ايمانكم”، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من الجيش، بأسرع ما يُمكن، مما أدهش إبراهيم خضر، لأنه ما كان يتوقع ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد تم تجنيده ضمن آليات السُلطة،حدثه، شيكيري على انه منذ أن قُبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الإنتقام إما الهرب. كما يجب أن يَحس أيُ شخصٍ ذكي في مثل هذه الظروف، أَحسَّ إبراهيم خضر، و تأكدت له شُكوك قديمة، أنّ شيكيري يريد أن يقيس مائه، ويسبر أغواره، فإبتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو آلامه و أفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوة في نوايا إبراهيم خضر، وأحسَّ أنه لم يقدر الموقف جيداً،من ثَمَّ قرر أن يتراجع عن تصريحِهِ و لكنه وجد نفسه قد تورط أكثر، عندما أضاف: أفضل الإنتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين، فقد حان مَيعادُ استلام الوردية الثانية، الرملُ الباردُ: باردٌٌ. جسديهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغُة واحدة مشتركة تنموا رويداً رويدا، لم يستطيعا التعبير عنها جيداً، بل كلما حاولا الإقتراب منها، ضَلا سُبل الإفهام، ولكنهما أصبحا الآن أكثر قُرباً، عندما أخبر شيكيري إبراهيهم بأنّ القائدُ طلب منه أن يراقبه ويكتب عنه تقاريرٍ مفصلةٍ، ويعني ذلك فيما يعني ربما يُتوج إبراهيم قَريباً بِلقَبِ: البطلُ الشهيدْ.
طالما كان يسخر من هذا اللقبِ بمرارة ويكرهه.
2- جنون الجسد
العمة خريفية،امرأة سمينة، و ليس ببيتها أشجار، يتكون منزلها من حجرتين مبنيتين من الطوب الأحمر وحولهما برندة متسعة، وقطية جميلة منفصلة تقع على الجهة الجنوبية من المنزل، ربما كانت تُستخدم للضيوف في الماضي، وهي الآن تخص ابنتها، تحيط بالمنزل أشجار المانجو العملاقة، يقع البيتُ على تخوم وادي برلى العظيم. على الرغم من أن هذا الوادي هوالمكان الوحيد للحُب في نيالا، إلا أن العمة خريفية ليس لديها أي أطفال نتيجة علاقة حب أوعاطفة ما. لديها بنت واحدة كانت مشردة فأوتها ثم أعتادت عليها ثم تبنتها، ثم أصبحت بنتها وهي البنت الوحيدة في نيالا وربما في السودان تحمل اسم عبد الرحمن، على الأقل هذا هو الإسم الذي عُرِفَتْ به وهم يلتقطونها من لظي المذبحة، حيث أنّ موظفي الإغاثة وجدوها حيّة تحت جثتين متحللتين، وعندما سألها أحدهم عن اسمها، قالت: عبد الرحمن. كانت عبد الرحمن هي أول من استقبل شيكيري، وقادته إلى الراكوبة وطلبت منه أن ينتظر هنالك إلى أن تعود العمة من سُوق الجمعة، سقته ماءً، جلبت له افطاراً،أعطته شبشباً خفيفاً وطلبت منه ان يحرر رجليه من البُوت، ثم أخذت تحكي له عن عمتها خريفية وأبدت له رغبة واضحة ومباشرة في انها ترغب أن تكون جندياً، يقدر عمرها بعشرين عاماً، اي انها قد تصغره بأكثر من سبعة عشر عاماً،كانت رقيقة جدا وناعمة وبها انوثة طاغية وملفتة،على الرغم من آثار التقرحات القديمة البادية على ساقيها المنحسر عنهما ثوبها القصير، وأثر الجرح العميق في خدها الأيسر، ذلك التشوه الذي أصبح اثرا جمالياً رهيباً. استطاع ان يخمن من اي القبائل هي بسهولة ويسر، الأهم من ذلك، وهو الشيء الذي يحدث اول مرة لشكيري توتو كوة في حياته أنّ هذه العبدرحمن يتشهي أن يمارس معها الجنس، الآن وقبل ان تأتي عمته خريفية، ربما للحرمان الذي عاشه بعيدا عن النساء طوال هذا العام الذي قضاه في ميادين الموت والحرب، ربما لرغبة جنسية عارمة أثارتها فيه انوثتها، ربما لسبب عصي لا يدريه،ولكنها على اية حال تحرك الآن فيران رغائبه بل يحس بالمَنِيِ يتجمع في رأس شيئه ويفتعل حرقانا لذيذاً و لكنه مُلِحَّاً و مربكاً. إعتزرت بشده على انه ليس بالبيت جلباباً رجالياً يلبسه، لأن ليس بالبيت رجل، آخر أزواج العمة خريفية طلقها قبل عشرين عاماً، وليس هنالك سبباً يجعله يزور البيت مرة أخرى، وليس هنالك رجلاً تدعة خريفية يدخل بيتها. لأن العمة تظن أن الرجل لا يمكن أن يتقرب إليها وهي في هذا العمر، إلا لشيئين، إما أنه يرغب في غواية بنتها عبدالرحمن، أو أنه يريد الإستيلاء على مالها، وهو كما تؤكد عبد الرحمن: مال كثير متل التراب. أخذ البوت ووضعه في الخارج، أحس أن رائحته قد لا تطاق، هو لا يستطيع ان يشممها، لقد إعتاد عليها. كانت تغيب عنه لبعض الوقت، تقضي اغراضا ثم تعود لتحدثه عن عمتها خريفية التي تظن أن كل ما تفعله غريباً ومدهشاً، بدءاً من علاقاتها بالناس حتي طريقتها في شرب القهوة،طلبت منه أن يتكيء قليلا ويرتاح، لابد انهم يرهقونه كثيرا في الخدمة، في الحق كان مرهقاً، ولكن ما أصابه من شبق عارض كان أقوى من النُعاس، بعد إحدي غيباتها أخبرته بأن الحمام جاهز، وبإمكانه أن يستحم إذا اراد. الحمام عبارة عن صريف من القش والقنا، له ما يمكن ان يُطلق عليه مجازاً باب من الصفيح،علي ركن المنزل الجنوبي، تظله أفرع شجرة مانجو عملاقة، ظَنَّ أن العمة خريفية و ابنتها عبد الرحمن لا تحبان المانجو أو أنهما قد شبعتا منه أو ملتا أكله، لأن الفروع التي تظلل الحمام تحتوي على ثمار مانجو ناضجة و شهية كثيرة مهملة، إلا انه عرف فيما بعد أنهما لا تأكلان تلك الثمار لأنها ليست ملكاً لهما، ما لم ياذن لهما صاحب الجنينة بذلك. جلس على بنبر من الحديد الصلب منسوجاً بحبال البلاستيك، وُضِع لغرض الإستحمام، كان الماء كثيراً في سطل كبير، و نقياً لأنه يستطيع أن يشاهد أسد الملك تنبل بيه الأحمر المرسوم في بطن سطل الطلس العملاق. تخلص من ملابسه سريعاً، وبدلاً من أن يصب الماء على رأسه، أرغى الصابون و مسح به شيأه المُنْتَعِظْ، مسه برفق، ثم أخذت كفه تمر عليه طلوعاً و نزولاً، وفي ذهنه تلك الندبة العميقة في وجه عبد الرحمن، عندها سمع عبد الرحمن تطلب منه ألا يفعل، عليه أن يستحم سريعاً فحسب. كانت تقف خلف باب الحمام الموارب، و نصف وجهها داخل الحمام، عيناها تبحلقان في الشيء.
كانت العمة خريفية تعمل في سُوق النسوان تبيع البهارات و الويكة قرب الجزارة، وتعود مع مؤذن الجمعة، حيث يُغْلق السُوقُ اجبارياً، وهي لا ترغب في أن تُجلد أربعين جلدة و أيضاً لا ترغب في أداء صلاة الجمعة ولا غيرها من الصلوات. لذا تحمل ما تبقى من سلع لم تُباع و تأتي للبيت، بعد أن تشترى حاجيات الغداء و العشاء، بعض الحلوى و اللبان لعبد الرحمن. وقد أعتادت أن تشتري لها ذات الحلوى واللبان منذ خمسة سنوات، أي مُنذ أن كانت عبد الرحمن في الخامسة عشر من عمرها وهو العمر الذي أخذتها فيه من السوق، حيث أن عبد الرحمن قد هربت من مُعسكر كلمة للنازحين وفضلت عليه التشرد التام في سُوق نيالا، كانت تعمل مراسلة للنساء اللائي يبعن الشاي، تغسل لهن الكبابي، تناول الشاي للشاربين، وتقوم بتنفيذ المراسيل القصيرة، استقطبتها خريفية لتساعدها في سحن الويكة و نظافة الفول السوداني ثم مؤانستها في المنزل، عبد الرحمن تدين لخريفية بكل شيء جميل في حياتها.
عندما سمع الآذان، انتفض، ابقته على جانبها برفق،كانت في شبه إغمائة، وهي تلصق جسدها العاري بجسده، ذكَّرها بأن العمة تتحرك الآن من السوق كما قالت له من قبل، وانها قد تجدهما في وضع حرج، و لا يريد أن تراه عمته لأول مرة وهو في علاقة جنسية غير شرعية مع من تعتبرها ابنتها منتهكا حرمة بيتها. لكنها، كما لو لم تستمع إليه مطلقاً أبقته بجانبها، ضمته أليها بشدة، عبثت بأناملها فيما بين فخذيه. وللمرة السابعة دخلا في مجاسدة ساخنة ومجنونة. استسلما لها كلية. لقد افتقد شيكيري النساء كثيراً. يمتلك الآن رغبة طازجة لأجلها وشهية لا تحدها حدود.أما هي فلم تمارس الجنس برغبتها الكاملة إلا اليوم. عندما سمعا كركبة باب الشارع، انتفض فزعاً مرة أخرى. ولكنها بحركة من يديها طلبت منه أن يبقى كما هو وحيث هو، ارتدت ملابسها برفق، استعدلت خصل شعرها، ببعض ثوبٍ جففت ما بين نهريها، مسحت وجهها بكفها و مضت للقاء العمة خريفية. التي بادرتها بسؤال مُلح عن مكان شيكيري توتو كوة ابن أخيها، ولماذا لم تره، قالت لها إنه جاء مرهقاً وهو الآن ينام في غرفتها. كان شيكيري يسمع كل ذلك ولكنه لم يتوقع قط أن تهاجمه العمة خريفية في القُطية وهو في لباسه الداخلي فقط، كانت تضمه اليها وهي تضحك و تبكي في آن واحد، لقد افترقا مع والده منذ أكثر من أربعين عاماً، وكانت ترى فيه صورة والده وتشم فيه رائحته ولكنها مخلوطة برائحة عرق تعرفه تماماً، و عبق سائل شهير لا يُخفى عليها أبداً. قالت له مُندهشة وهي تحملق في حافظة صدر(سُتيانة) عبد الرحمن المسجاة في السرير .
- ود البُقُسْ. انتِ عرستِ عبد الرحمن؟
قال لها دون تردد وهو يحاول أن يخفي ما تعرى من جسده.
- نعم، عرستا يا أمي.
قالت وهي تخاطب عبد الرحمن التي تقف خلفها تشاهد و تسمع وفي فمها ابتسامة مطمئنة، وتبدو النُدبةُ التي في خدها الأيسر أكثر جمالاً و إشراقاّ، و تظهر عليها علامات السعادة المفرطة.
- ليية ما انتظرتيني، ولا قلت لي انك حتعرسي الولد لما جيتيني في السوق وقلت لي ولد أخوي توتو جاء؟
ابتسمت عبد الرحمن في خجل، وبتأثر شديد ضمت العمة خريفية إليها وقبلتها في وجهها، و أخذت تبكي. في ذلك الحين كان شيكيري يرتدي ملابسه على عجل ثم يذهب للحمام ويترك عبد الرحمن و عمتها متعانقتين.
3- صَيدُ الجِنْ
لقد نَسِيَتْ عبد الرحمن كل شيء، حتى الجثتين التين وُجِدَتَا فوقها،نسيت الحرب، وأزيز الطائرات،نسيت المجزرة التي كان ضحيتها امها و ابيها و اخوانها الثلاثة: هارون، اسحق و موسى و أختها مريم التي يُقال أنها تعيش في معسكرٍ ما لللاجئين بجمهورية تشاد. نسيت تجربة الإغتصاب الأولى يوم المعركة، ونسيت الثانية و الثالثة و الرابعة بمعسكر كلمة، أو ربما تناست ذلك بمحض ارادتها، المهم، يبدو في ظاهر الأمر أنّ عبدالرحمن أرادت أن تغلق صفحة من حياتها و للأبد، ولا يدري أحدٌ لماذا لم تنس اسمها أيضاً، فقد كان بإمكانها فعل ذلك في أية مرحلة من حياتها. حزرته العمة خريفية في أن يتطرق لماضيها أو أن يحكي عن الحرب و ما شاكلها، لقد شبعا من ويلات الحرب وشبعا من أخبارها، تريدان الآن فتح صفحة جديدة من كتاب الحياة.
لم يعترض، بل شجع بحماس أبراهيم خضر فكرة زواج صديقه شيكيري كما لم يستغرب ما قامت به العمةُ في تلك الجُمعة، أن أخذت شيكيري وعبد الرحمن إلى الجامع، وقد اضطرت في ذلك اليوم لأدء الصلاة في الجزء الخاص بالنساء، وبعد أن سَلّم المصلون، عقد المأذون على ابن أخيها و ابنتها، بالرغم من أنه و المصلون جميعاً احتجوا على أن تُسمى العروس باسم عبد الرحمن، الشيء الذي يجعل قسيمة الزواج كما لو كانت شهادة لزواج مثلي، وهذا غير مسموح به في القانون و الشرع، و أصرت عبد الرحمن على الإسم حتى ولو يبطل الزواج، إلى أن جادت قريحة أحد المصلين الحريصين على إتمام مراسم زواج بنتٍ متشردةٍ لعسكري غريب أي آفتين اجتماعيتين لا خير منهما يُرْجَى. أن تُكتب في القسيمة كلمة السيدة ثم يليها الأسم، فرضي المأذون ولم تمانع السيدة عبد الرحمن. لا حظ شيكيري بمجرد أن عادا للمنزل أن زوجته عبد الرحمن ليست بالمرأة الطبيعية، ليس لأنها واضحة و صريحة و جنسية أكثر مما يتوقع و يظن، ولكن لأنها، طلبت منه طلبا غريباً و مباشراً وهما في الساعة الأولى من الزواج، طلبت منه: أما ينتقم لها، أو يساعدها على الإنتقام، و لا خيار ثالث.
أخبرته انها كانت في انتظار ان يكون لها رجلاً، مهنته جندي و شجاع، ينتقم لأجلها، على الأقل يقتل عشرة من الجنجويد، وهي سوف تأكل كبدهم جميعاً نيئة. لم يستطع أن يخفي هول المفاجأة عليه، ربما أنه شهق، لقد دخل معارك كثيرة ضد الطورابورا، لكنه لم يقتل ولو دجاجة واحدة، كان يطلق الزخيرة في الأهداف الوهمية، و مع أول بادرة للإنساب كان ينسحب، ولكن هل تعلم زوجته عبد الرحمن أنه يحارب مع الجنجويد جنباً لجنب؟ أخبرته أنها تعرف كل صغيرة وكبيرة عن الحرب وقالت له بصورة واضحة، أن الذين قتلوا امها و ابيها و اغتصبوا اخواتها حتى الموت، ليسوا جنوداً نظاميين و لكنهم الجنجويد، وهي تعرف وتفهم الفرق، نعم كان بامكان الجيش أن يحميها، ولكنه لم يفعل، تعرف افرادا في الجيش من قبيلتها وتعرف انهم كانوا يتمزقون من الحزن وهم يشاهدون الجنجويد يقتلعون اسرهم واهلهم اقتلاعا من الحياة امام أعينهم، يكفيهم ذلك عذابا و موتا و ألماً، وتعرف العشرات الذين انضموا الى الطورا بورا بعد ذلك، وكل ساكني دارفور يعرفون قصص ومصائر الطيارين الذين رفضوا ان يلقوا القنابل على ابناء جلدتهم، هي تريد الجنجويد وليس إلا. قال لها إنه لا يعرف كيف يقتل إنسانا، جنجويدا كان أم طورا بورا، ولا يعرف كيف يساعد على ذلك، بل لا يشجع ذلك التوجه، وانه ليس جنديا محترفاً، بل فرداً يؤدي الخدمة الوطنية مُكرهاً و مُجبراً، ويُساق إلى ميدان المعركة كما تُساق النِعاج إلى السلخانة. قالت له يمكنه أن يدربها على اطلاق النار، و يعطها ثمن بندقية جيم ثلاثة، وألا يُخبر العمة خريفية بالأمر، لا أكثر.لأنها اتفقت معها على ألا تنفتح طاقة الحرب مرة أخرى.
كان رأي إبراهيم خضر أن يتجنب شيكيري خريفية و ابنتها معاً، و إلا تورط في أفعال صعبة و معقدة، ولكن يبدو أنَّ شيكيري قد بدأ يحب البنت بالفعل، و الأسوا أنه لا يستطيع ان يتخلى عنها أبداً، و الأسوأ من ذلك كله هي تعرف ولا تتنازل عن طلبها قيد أنملة، ولو أنها حتى الآن لم تمارس ضده أي ضغوط، بل تزداد رقة وجمالاً و شبقاً.
أخذ يدرسها طبيعة السلاح، فك وتركيب و أداء، كانت تتعلم الشيء منذ الوهلة الأولى بسهولة ويسر، وفي جمعتها الرابعة فاجأته، بأنها امتلكت بندقية جيم ثلاثة، فكاد أن يغمى عليه من الخوف و هول المفاجأة معاً، قالت إنها سرقتها من جنجويد سكران، وجدته نائماً في الوادي قريباً من المطار، بينما كانت هي تتجول في الغابة الصغيرة غرب معسكر كلمة، لجمع حطب الوقود. يعرف انها تكذب، لأنها لا يمكن ان تذهب لقطع الحطب ليلاً، و لا يمكنها أن تأخذ بندقية الجنجويد نهاراً، و الشيء المهم هو أنها لا تذهب للإحتطاب مطلقاًً، لأنها لا تحتاج إليه في المنزل، فلدى العمة خريفية موقد غاز حديث، ويعرف أيضا أن النساء لا يخاطرن بالذهاب للإحتطاب في تلك المنطقة بالذات، خوفا من أن يغتصبهن الجنجويد الذين يتواجدون بكثرة هنالك، و يعرف أيضا أن الإحتطاب في هذه الأيام لا يتم إلا في جماعات محمية من قوات الإتحاد الإفريقي، وقال لها كل ذلك بالتفصيل الملل، قالت له بصرامة
- سرقتا من جنجويد سكران، تصدق أو لا تصدق أنت حُر.
يحس الآن بإقتراب الكارثة، بدأت له عبد الرحمن متهورة و غامضة في نفس الوقت، بدأت له كوحش متعطش للدماء، كثائر مجنون لا يرى غير الأعداء و المكائد يعمل من أجل هدف كبير، ولكن تنقصه الخبرة و الخطة، أحس بها تتبلد في كل لحظة، كانت تلغى عقلها بسرعة رهيبة، ولكنه لم يكرهها بعد، كانت رقيقة معه، وتتجمل بصورة مستمرة، تتطيب بما يحب من العطر، و تعطيه نفسها في الفراش بجمال منقطع النظير، وهو في حاجة ماسة لمثل هذه الرعاية الجسدية، ولكنه أيضا يريد ان يظل حياً. من النظرة الأولى للبندقية عرف انها ملكا للجيش السوداني، و لكنها تحظى برعاية شخصية كبيرة وذلك للنقش الذي في دبشكها بآلة حادة،و تزيين حمالتها ببعض الخرز الملون، ويبدو أنه قد تم بيد نسائية، ليست بها نمرة عسكرية، ولكن رائحتها تدل على أن صاحبها من الجنجويد، للقوم رائحة متميزة، خليط ما بين وبر الحيوان- الخيل و الإبل- و العرق البشري، كانت صينية حديثة الصُنع، ولكنها استخدمت كثيراً، فرائحة البارود مازالت تنطلق من فوهتها التي تلمع من الداخل، الفوهة مغطاة بخرقة جلباب قديمة بها آثار زيت الخروع. لم تكن لديها خطة خاصة لإستخدام البندقية.
نيالا مدينة كبيرة وجميلة، يسميها عمال الإغاثة الأوربيون لاس فيغاس دارفور، لا يعلم أحد عدد سكانها، انهم في تزايد و نقصان مستمرين، وفقا لسير الحرب في دارفور، يسكنها الضحايا المهجرين من قراهم معا و القتلة الذين يرتكبون فعل التشريد و التهجير،بها أيضا المواطنون الذين لا تعني الحرب لهم شيئاً ذا بال، وبها كبار التجار، وهم المستفيدون الوحيدون من الحرب، وقد تضاعفت أموالهم نتيجة للإحتكار و المضاربات و الندرة الفعلية و المفتلعة للسلع، بها الجنجويد يسكنون في الأحياء الطرفية في معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاند كروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشا، وتعلق على جوانبها الآربي جي البغيض، وهم عليها في ملابس متسخة مشربة بالعرق و الأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة و الخوزات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء و التشرد، على اكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية، لا يفرقون مطلقا مابين الإنسان و المخلوقات الأخرى، الكلاب الضالة مثلاً. وتعرفهم ايضا بلغتهم الغريبة، و هي عربي النيجر، ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني، ولا متدين ولا مثقف،ليس من بينهم معلم، مدير، أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم، يعملون من أجل شيئ واحد، هو ذلك المخلوق ذي السوق الطويلة و الظهر القوي المحدودب، صاحب البطن التي بإمكنها أن تختزن برميلاً من الماء، يصورونه في راياتهم شعارا، ياكلون لحمه وشحمه، يشربون لبنه، يسكنون في وبره وعلى ظهره، المخلوق الذي يستطيع أن يحملهم بعيداً جداً، أو ما يُسمى : الجمل.
لا يدري أحد كيف أُلهِمَ الحكوميون في إختيار هذا الشعب بالذات لخوض الحرب في دارفور من بين كل شعوب افريقيا؟، كانت ستكون مهمة عبد الرحمن سهلة إذا لم يكن خصمها تلك الفئة الغريبة، ولكنها تعرف قدر التحدي. بنيالا الآن حامية عسكرية ضخمة، بها ما لا يقل عن عشرة ألف جندي، و مئات الآليات الثقيلة، وسلاح جو صيني فاعل و سريع الإستجابة، كل هذه القوة تعمل مع الجنجويد جنبا لجنب، لكن عبدالرحن ترى ان هدفها ليس كبيرأ، وهو موضوعياً و شرعياً بسيطاً و سهلاً، عشر جنجويد من ستة عشر ألف ليس بالشيء الكثير، وهو رقم لا يُقدر بشيء أذا قِيس بالذين يُقتلون من الجنجويد في كل معركة، انهم يخسرون المئات، وهي تريد ان تضيف لهؤلاء المئات: عشرة فقط لا غير.
العمة خريفية بغريزتها الأنثوية، وخبرتها الحياتية الطويلة، و معرفتها في الإنسان، أحست أنّ شيئاً ما يدور في بيتها ما بين بنتها عبد الرحمن و ابن أخيها شيكيري وربما صديقه الذي يأتي معه في بعض الأحيان، ابراهيم خضر، لاحظت بصورة جلية أنّ عبد الرحمن ليست في طبيعتها العادية، أخذت تتغيب كثيراً عن البيت، و أنها تغلق نفسها في الغرفة لساعات طوال، ولاحظت أيضا أنها تقوم بتمارين قاسية كتلك التي يقوم بها العسكر، و انتبهت على أن العلاقة بينها و زوجها شيكيري متوترة لحد ما، بل تصيدت أذنها ذات مرة، مشادة كلامية حادة بينهما. ولكنها لم تتخيل أنّ الأمر له علاقة بالحرب، ذلك البُعبُع الذي قررت أن يسقط من وعيها نهائياً و للأبد. إلى أن استيقظت ذات صباح و لم تجد عبد الرحمن في غرفتها،ظنّتْ أنّ عبد الرحمن ذهبت في مشوار صباحي على عجل، كما هي طبيعتها مؤخراً، انتظرتها إلى أن حان وقت خروجها للسُوق، ولم تعد، كانت غرفتها مرتبة وكل شيء موجود في مكانه، وعندما انتبهت لحركة شيء ما في الأعلى، رأت حلقة كبيرة من التمائم مُدلاة من وسط القُطية، النوع الذي يرتديه الجنجويد، بها دم متخثر. بأعصاب باردة، أخرجت كلما تراه مهماً من القُطية، احتفظت به في مكان آمن، ثمّ أشعلت فيها النيران.
ربط الناس بين حريق القُطية وغياب أو بالأحرى اختفاء عبد الرحمن، ربط الناس بين قلق العمة خريفية، و قلة كلامها مع الآخرين، و حديثها لنفسها، و بقائها في السوق لزمن أطول، و شربها للقهوة المتكرر، وبين إختفاء ابنتها و صديقتها و حبيتها عبد الرحمن، ربط الناس مابين شكوى خريفية من آلام الظهر، و غيابها عن الأفراح و الأتراح وصبرها على عباطة شليل المجنون، بل استلطافها له وهي التي كان يفكر مليون مرة قبل أن يطرق الطريق التي تعمل فيها العمة خريفية، وبين إختفاء عبد الرحمن. ولكنهم أبداً، لم يخطر ببالهم أن يربطوا ما بين اختفاء عبد الرحمن و اختفاء اثنين من الجنجويد بصورة نهائية وتامة، حيث لا أثر، لا دليل، لا خيط، ولا رائحة تدل على مصيرهما.
4- سكك الموت
التقرير الذي كتبه شيكيري عن ابراهيم خضر ابراهيم هو الذي عَجّلَ بأن يتم اختيار الإثتين لمصاحبة القوة الخاصة المنوط بها ايصال الوقود إلى كتيبة مرابطة على مشارف مدينة زالنجى، ولا يمكن الوصول إليها إلا من نيالا، بالرغم من أنها لا تبعد عن زالنجى أكثر من عشرين ميلاً،و عشرة أميال عن مدينة كاس، كانت القوة، ومن أجل التشويش للجواسيس و الخائنين،سوف يخرج أفرادها فرادى، و يتجمعون على بعد ثمانية أميال جنوب نيالا، ثم تلحق بهم السيارات اللاندكروزر حاملات الدوشكا الخمس تليها شاحنة الوقود، ثم المدرعتان الخفيفتان اللتان تستخدمان للهجوم السريع المباغت و نقل الجنود أيضاً. لا يتوقع الناس عادة أن تصل مثل هذه القوة إلى هدفها بسهولة و دون مناوشة وربما معركة صغيرة، ولكن التغطية التي سوف تقوم بها المروحيات على مدار الساعات الثمانية التي يجب أن تأخذها القوة في الطريق، سوف يسهل مهمتها كثيراً، و قد يقوم بواجب الإنذار المبكر وتمشيط الطريق. ولكن للأسف بدأت المعركة الصغيرة مُبكراً جداً، وهي في ذات المكان الذي بدأت تتجمع فيه القوات، وقبل أن تنتظم صفوفها و تأخذ التمام الأخير، في اللحظة التي وصلت فيها شاحنة الوقود، كان الطورا بورا قد سيطروا على الموقف تماماً، وأنهم استطاعوا أن يستولوا على حاملات الدوشكا، و أن يعطبوا المدرعتين الخفيفتين، ويأسروا تقريباً كل الجنود الأصحاء، وينسحبوا كما لو أنَّ الأرض قد انشقت وبلعتهم، تاركين خلفهم خمسة من الجنود الجرحى،كثيرا من القتلى، مدرعتين معطوبتين، شاحنة الوقود كما هي حيث أن السائق الذي استطاع أن ينسحب في الوقت المناسب قام بتأمينها بصورة لا يمكن قيادتها مُطلقاً مالم يُبطل التأمين، ولسبب أو لآخر فَضَّل الطورا بورا تركها دون أن تُحْرَقْ.
كان الأسرى يرقدون في باطن صناديق العربات كالخراف فوق بعضهم البعض، و العربات تسابق الريح، تقفز في الحفر و الخيران دون أية مراعاة للسلامة، و كأنما بها جوالات من التبن،وسط غابة من الأغبرة، حيث لا يمكن رؤية ما أمامها وما خلفها، غير سحابات من الرمل. بعد أربع ساعاتٍ من توقع الموت المُحقق، دخلت العربات السلسة الجبلية الوعرة، حيث معسكراتهم الآمنة، التي لا يقترب منها الطيران الصيني مُطلقاً، لأن مضادات الطيران الأمريكية الدقيقة سوف تسقطه في الحال.
وضع الأسرى في صف واحد، راقدين على الأرض، كانوا ثلاثين أسيراً، سُجلت بياناتهم الأساسية وجمعت ما في حوزتهم من وثائق ثبوتية، تم كل ذلك عبر ركلات و شتائم و بصاق في الأوجه، أخيراً تمّ قسمتهم إلى ثلاث مجموعات: أثنان من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، عشرون من الجنود النظاميين،ثمانية من المجاهدين و حرس الحدود وهو الأسم الرسمي للجنجويد، في الحال، تمّ إعدام الجنجويد، بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحاً، طالبين منهم في سُخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة. أما الجنود فقُيِدوا و وُضِعوا في سجن عبارة عن غُرفة كبيرة من الحجر، مع جنود أسرى سبقوهم، أما مجندي الخدمة الوطنية، وهما ابراهيم خضر ابراهيم و شيكيري توتو كوة، فَخُيرا، أما أن يبقيان بالسجن مع الجنود النظاميين أو يعملان في صفوف الطورا بورا، ولأنهما يعلمان أنّ هذان الخياران ليسا سوى خيار واحد و الآخر الموت، إختارا العمل في صفوف الطورا بورا.
كان ابراهيم مُرهقاً، بل مريضاً، ارتفعت درجة حرارته بصورة مرعبة، فأحضروا له طبيباً أسيراً، يعمل في صفوف الطورابورا، رجلا مرحاً وذكياً، أعطاه بعض الأدوية و أخذ يدير معه حواراً مضحكاً، حيث أن إبراهيم كان في حالة أشبه بالغيبوبة، ولكن حديثة اللاواعي هذا رفع من مكانته بين الطورا بورا و أخذوا يثقون فيه بصورة مطلقة، لأنه في غيبوبته تلك، قال بصورة واضحة إنه يكره الصينيين الذين جلبوا الدمار لدارفور و يؤيد الطورابورا.
في باديء الأمر كانوا يستخدموهما في طهي العدس و صنع اللقمة للأسرى من الجنود النظاميين و الذين ما كانوا يبقون على حياتهم إلا لأنهم يمثلون دروعا بشرية، و يقوون جانبهم في المفاوضات ثم بعد ذلك للإعتبارات الإنسانية، وقد تحدث أحد المقاتلين عن اتفاقيات جنيفا و القانون الإنساني الدولي، كان ابراهيم قد وضح لقادة المقاتلين أنه لا يحمل السلاح، ويستطيع أن يموت في سبيل هذا المبدأ، ولو أنهم احترموا ذلك إلا أنهم كانوا يستخدمونه في حمل الأسلحة و الذخائر، اما شيكيري، كعادته كان سكوتاً، يسمع جيداً و يفعل ما برأسه، و كان لا يتردد في الذهاب إلى المعارك، و المشاركة في نصب الكمائن، بل أصبح ماهرا جداً في ذلك، قال لأبراهيم مرة إنه ما عاد يخشى سكك الموت، بعد أن خسر عبد الرحمن لا شيء يهم، وكان يفكر بجدية في عبد الرحمن وهو قلق جداً عليها، لأنه لا يعلم أين اختفت، وكيف ستنتهي مغامراتها في قتل الجنجويد، يعلم انها قد قتلت اثنين، صاحب البُندقية، أو ما أسمته بالجنجويد السكران، و صاحب التمائم. لا يدري أحد كيف تستدرج الجنجويد إلى حيث يلاقي حتفه، و هل كانت تفعل ذلك وحدُها أم أنّ هُنالك من يعاونها، و السؤال الأغرب هل كانت تأكل أكبادهم، حقاً؟ أين هي الآن؟ وماذا لو قُبِضَ عليها، بلا شك أنهم سوف يقتلونها بالطريقة التي تُعرف بِرقصة الطورابوراي، وهي أن يضعوا القرنيت منزوع التيلة داخل فستانها، بعد تقييد رجليها، و يهربون من قُربها، فحتماً ستؤدي الرقصة المُرعبة لثلاث ثوانـ قبل أن ينطلق جسدها في الفراغات مزقاً. وتخيل ذلك يحدث أمام عينيه، فهو مازال يحبها، و قرر بصورة قاطعة ونهائية أنه، إذا حدث في يوم و إلتقى بها، سوف لا تكون بينهما أية صلة، إذا إكتشف أنها كانت تأكل أكباد الجنجويد، نيئة كانت أم مشوية، لا يحب أن تكون زوجته آكلة للحوم البشر.
تتكون مجموعة المحاربين الطورا بورا من قبائل كثيرة، تجمع بينهم أنهم مستهدفون من قبل الحكومة المركزية بصورة خاصة، يطلقون عليهم الزرقة، وهو لفظ خجول بديل للفظة السُود. يقود المعسكر رجل شرس من قبيلة المساليت، يلقبونه بشارون، شاب له جسد صلد ورياضي، بشوارب ووجه حاد التقاطيع، أهم هواياته الضحك بصوت عال و ابتكار الخدع العسكرية. لم يدخل معركة مع أعدائه وهم مستعدون لها مطلقاً، بل كان دائماً ما يفاجئهم في الزمان و المكان الذي لا يتوقعونه فيه، ويقول إن تلك هي عبقرية الحرب، و الرسول الله محمد( ص) يقول : الحرب خدعة. ويقول شارون إنه تعلم من هزائم الخليفة عبد الله التعايشي كيف ينتصر. فالخلفية كان يعتبر الحرب رجالة وشجاعة، وهي عكس ذلك، فلكي تنتصر عليك أن تخاف من قوة عدوك، مهما كان واهنا ومرتبكاً وعلى باطل، ومهما كنت أنت قوياً و مرتباً وعلى حق. كان شخصاً مثقفاً، تَخَرّجَ في كُلية الإقتصاد جامعة المنصورة بجمهورية مصر العربية في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم. تزوج نساءً كثيرات، و أنجب أطفالاً أكثر، وهو يدعو دائماً أن يتزوج الرجل من الزُرقة كل النِساء اللائي يَقبلن به زوجاً، و ذلك لتعويض المفقودين في الحروب. كان رقيقا و شرسا في ذات الوقت، لا يصبر على الجنجويد دقيقة واحدة، لقد حرق الجنجويد قريته وقتلوا اباه، والآن يسكنون فيها،وهم يعتقلون عددا من السُكان الأصليين ويستخدمونهم كرق في العمل بذات مزارعهم و جنائنهم و أراضيهم، و يغتصبون نساءهم، جُرِدُوا أولاً من كل الأسلحة، حتى تلك البيضاء، وكانوا يطلبون منهم أن يشتركوا في الدوريات الليلية لحماية القرية حاملين عصا من الحطب و السياط، بينما يحمل الجنجويد الأسلحة النارية. و كانوا يضعون كل عشر من الرجال الوطنيين، يسمونهم جهرا وفي أوجههم أمبايات، وهي بعربي النيجر موطنهم تعني العبيد، يوضعون وسط خمسين من الجنجويد، حتى لا يتمكنون من الهرب أو المقاومة، و كل الرجال الوطنيين أو الأمبايات على حد قول الجنجويد المتبقين بالقرية لا يتجاوز عددهم السبعين، هم ينقصون بصورة مستمرة، لقد كانوا مائة وخمسين رجلاً، جلهم مات في مقاومة فاشلة، أو قُتل أثناء هروب لم يُكتب له النجاح، أو مات واحد لواحد، أي خنق أحد الجنجويد إلى الموت، ولم يطلقه إلا وهو مقتول عليه. يظل الرجال الليل كله في الدوريات مع فِرقة من الجنجويد تتغير باستمرار، لتحل محل دورية أخرى من الجنجويد كانت في بيوت الوطنيين حيث النساء و الطفلات، تقوم بإغتصابهن. يحدث هذا كل ليلةٍ. وكل من يحتج من الرجال يتم قتله. الآن بالقرية جيلٌ كامل من الأطفال، آباؤهم من الجنجويد و أمهاتهم من الزُرقة. الغريب في الأمر أنّ مسئؤلاً كبيراً في صُحبة بعثةٍ من الأمم المتحدة زاروا تلك القرية و أُعتبرت أنموزجاً للتعايش الإرادي السِلمي ما بين الجنجويد و الزُرقة، وهي برهان لتكذيب كل الأقاويل و الإفتراءات الغربية التي تتحدث عن الأبادة الجماعية و التطهير العِرقي و ما يُسمى بجرائم الحرب و استحالة التعايش بين الشعبين. يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أنّ أوّل أهداف ثورته هي تحرير مواطني قريته ضُلاية، ثم يضيف لك في يأس، لا يمكن أن تُحرر ضُلاية مالم تُحرر دارفور كُلها، لأنه يُحيط بها أكبر ثلاثة معسكرات للجنجويد و المجاهدين في العالم.
للرجل علاقة جيدة من كل جنوده و مع الأسرى أيضاً، يظل مرحاً، وتسمع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هنالك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم، ومن هنا أطلق عليه لقب شارون، ذلك البحار الذي يأخذ الأرواح إلى جزيرة الموتى، لأن شارون حينها سيأخز أرواحاً كثيرة في قاربه إلى جزيرة الموتى.
كان الوقت أواخر ديسمبر، ماتزال الأعشاب تحتفظ بشيء من الخضرة، وأشجار السيال و النبق وبعض اللالوبات العملاقة مازالت مخضرة و بهية، إلتقط مِنظار الحرس هيئة شخص على ظهر فرس يهيم بين لأشجار التي تقع جنوب الوادي الكبير، ويحدد المنظار المسافة بثلاثة كيلو متر لا أكثر، ولا يختلف جنديان في تفسير هذه الظاهرة، فهو جندي استخبارات في طليعة قوة سوف تظهر عاجلاً أم آجلاً من مكان ما قريب، ووصف في الوقت ذاته بالبليد، لأنه لايمكن أن يستخدم فرساً إلى هذه المسافة القريبة، ويعرف الجميع موقع المُعسكر، و الغريب في الأمر كان الهدف يقترب أكثر و أكثر من دفاعات المعسكر المتقدمة، و يقترب أكثر من حقل الألغام البشرية بعد أن عبر ألغام المدرعات و الآلات الثقيلة، هنا انتبه المقاتلون، بأن الهدف ليس عسكرياً، فأسرعوا بإرشاده إلى المدخل الآمن، كانت فتاة هزيلة، تكاد أن تموت من العطش و الجوع، ولكنها لا تبدو منهارة، بل بالعكس، كانت متماسكة، وتتحدث بثبات، عرفت عن نفسها، وطلبت أن تقابل هارون وهو الإسم الحقيقي لشارون، أكلت قدراً كبيراً من العصيدة بالويكة التي قُدمت لها، تَعرّف عليها شارون بمجرد أن رآها، كانت تعرفه من زمان مبكر، منذ أن كانت تعمل مساعدة لصانعات الشاي بموقف الجنينة بنيالا، تعرف إحدى زوجاته و أطفاله، كانوا يسكنون حي الجير، قبل أن يختفوا تماماً عن المدينة، قالت له إنها جاءت من أجل زوجها شيكيري توت كُوة الأسير لديه، مما جعل كل من يستمع إليها يكاد أن يموت من الدهشة، وكانت فرصة لشارون أن يطلق ضحكتة المجلجلة تلك، كان شيكيري في تلك الأثناء يعمل مع صديقه ابراهيم و مفرزة من المقاتلين على حفر خندق كبير خلف الجبل لغرض لم يفصح عنه شارون، عندما أتاه المنادي، خفق قلبه بشدة، وبدون أية مقدمات سأل المرسال ما إذا كانت زوجته عبد الرحمن أو عمته خريفية بإنتظاره.
أحسّ أنها كانت جميلة بأكثر مما يجب أن تكون عليه امرأة في مثل هذا المكان، و شعرت بأنه كان منهكا و بائساً وقد فقد الكثير من وزنه، وهو ما يجب أن يكون عليه رجل في هذا المكان. احتضنا بعضهما البعض بِشدة. كان شارون يعرف أنها ضمن فرقة الموت التي تقوم بتصفية الجنجويد بمدينة نيالا و قد تكونت فرق أخرى مثلها بالفاشر و الجنينة، ولكنه قد لا يدري أنها هي التي أنشأت أول فرقة بنيالا، فرحت المقاتلات عندما عرفن أنها جاءت لتبقى و تحارب في صفوفهن. كانت هنالك تسعون امرأة أخريات، كلهن متزوجات من الجنود ماعدا مريم، التي يُطلق عليها شارون اسم مريم المجدلية، فهي تؤجل زواجها دائماً لحين تحرير دارفور أو ظهور السيد المسيح، أيهما أقرب. و يُشاع عنها بين المقاتلين ما يُشاع.
ما يُسمى بالمدينة، التي سمع عنها شيكيرى وصديقه كثيراً في المعسكر، ليست سوى بضعة مساكن من الحجر مسقوفة بالطين و الأعشاب البرية تُحاط بصورة تامة بمرتفات صخرية، تحيط بنبع ساخن صغير، تبدو من الجو مثل خاتم من الحجر و العشب البري، هذا النبع هو المصدر الوحيد لماء الشرب الغير صالح للأستهلاك الآدمي إلا بمعالجات تجعله صالحاً بنسبة خمسين بالمئة، وهنالك أيضا زريبة للمواشي و الأبقار و الجمال التي في الغالب تمت مصادرتها من الجنجويد، ترعي خريفاً وصيفاً على العُشب النابت على حواف مجرى العين، في واد ضيق يتلوى بين المرتفعات مثل ثعبان من الماء. توجد أيضاً كثير من أشجار العرديب و التبلدي العملاقة، التي تغرق كل شيء في ظلها. هذا المكان الصغير الجميل الإستراتيجي، فشلت الحكومة في السيطرة عليه تماماً، نسبة للدفاعات الصاروخية ومضادات الطيران التي به، حقول الألغام و اللواء الذي لا يُقهر وهو المرتفع الصخري الذي يحيط به كحصن أسطوري. تُستخدم المدينة لسكنى الأسر فقط، ولا يُوجد بها أطفالٌ في عمر المدرسة، لأنه يتم تسريبهم لإحدى المُدن الكبرى في هذا العمر للدراسة، بها نِساء جميلات محاربات وزوجات في نفس الوقت، يقمن بواجب الزوجية بمتعةٍ و يحاربن بشرفٍ و بسالة، وهن دائماً ما يبقين للدفاع عن المدينة حينما يكون الرجال بعيداً ينصبون الكمائن و الفخاخ للجنجويد. جُهزت غُرفةٌ لعبد الرحمن وزوجها شيكيري توتو كوة، لم تكن لدي الزوجين رغبة في فعل شيء، تحدثا قليلاً، إحتضنا بعضهما و ناما.
حلم شيكيري بينما كانت أنفاس عبد الرحمن تعلو وتهبط في هدوء قرب وجهه، حلم بعبد الرحمن تذبح جنجويداً سيمنا شحيماً، و تخرج كبده و تطعمها لحيوان صغير فمه فم انسان، و بقية جسده و أعضائه تشبه القطط، كان الحيوان يأكل الكبد بشراهة، ويريد المزيد، فتذبح عبد الرحمن آخر، وهكذا إلى أن أتت على صف طويل من الجنجويد، ثم أشار الحيوان بلسانه إلى شيكيرى،وكشر عن أنيابه، و بال، ويبدو أنه عندما يفعل ذلك لابد أن يُكرم بما أشار إليه بلسانه، ولا خيار آخر، فجاء مقاتلون بشكيري، وضعوا السكين في عنقه، وطُلب منه أن يقول كلمةً أخيرةً، عندها استيقظ فزعاً، نهض من قُرب عبد الرحمن التي استيقظت هي الأخرى، فسألها، ما إذا أكلت كبد الجنجويد. تثائبت، مسحت وجهها بكفها. أخبرته، بأنها ندمانة لعدم فعله. عندما حاولت، وجدت أنّ كبد الجنجويد تفوح منهُ رائحةٌ كالبراز الآدمي، فكرهته و استفرغت، أكدت له أيضاً، أنه لا يُوجد داعي لكل ذلك، يكفي قتل هذا الشيء.
شِيزوفرينيا المُسْتَلَبْ
أصبح شيكيرى ملم بكل هذا الأرث المؤلم، وملكه بذلك نفسه تماما، وما كان يظن شيكيري أن ابراهيم يحمل كل هذا الماضي الحزين، اما من جانب ابراهيم فحكايات أصله وفصله جزء من اسطورة ذاته، فهو لا يخجل منها، بل يستطيع أن يقول إنها تمنحه قوة و ثقة بنفسه، و دائما ما ينظر بإجلال لهولاء النفر من جدوده، الذين ذاقوا مرارة الحرمان، وبعضهم منذ ميلاده الى مماته، لم يعش يوماً واحداً كإنسان حرٌ، لم يستمتع بجمال هذا العالم المدهش، لم يحقق حلماً ولو كان صغيراً خاصاً به، حُرِموا حتى من الحق في الأسرة، حيث أطفالهم ملكا لسادتهم، يبيعونهم كيفما ووقتما و أينما شاءوا، كان يعتبرهم أبطالاً و شهداء فعليين، ومن حقهم عليه أن يفخر بهم و من حق كل من ساهم في مأساتهم أن يخجل من نفسه، وهذا أضعف الأيمان.
بدأ له شيكيري السكوت، الآن يضج بالتخبط، ويوقن أن زوجته عبد الرحمن بتهورها سوف ترميه في مهاوى لا فكاك من شراك قيعانها، والآن قد تورطا في الحرب بصورة نهائية و مفجعة، فلقد أصبح أحد قادة الفصائل،و صار من أشرس المحاربين و صانعي الخدع الحربية و هو الأسلوب الذي يتبعه شارون في خططه الحربية، أما عبد الرحمن فقد أخذت تحوز على مركز قوة تدريجيا، فمنذ اليوم الذي شوهدت فيه تمزق ملابسها وسط المدينة، و ترتدي البدلة العسكرية، قد اصبحت شخصا آخر، شخصاً يسعى للسلطة و السيطرة بكل ما أوتي من جهد و حيل و مكر،وكان واضحاً أنها تسعي لأخذ موقع متقدم في قيادة الحركة. وتعرف أن كل نقطة قوة تحصل عليها، هي خصم من سلطة شارون، ويعرف شارون ذلك، وهل يقبل أم أنه يتنظر الى حين أن تقع عبد الرحمن في كمين يعده بمزاجه، كأسلوبه في إدارة المعركة. على كل هو ليس قلقا على ما تناله عبد الرحمن من قوة، فعبد الرحمن محاربة شرسة وذكية و صبورة، وفوق ذلك إنها لا تريد أن تموت في المعركة أو تؤسر، و هما فضيلتان يجب أن تتوفرا في الجندي الذي يسعى للنصر. أما ما يهم ابراهيم خضر هو صديقه شيكيري، الذي لا ناقة له ولا جمل في هذا الصراع الخفي العنيف، في هذه الحرب التي زُجيا فيها زَجاً. أخبر ابراهيم شيكيري بمخاوفه عليه، وألمح له أنّ عبد الرحمن سوف ترمي به في جُبٍ لا نجاة منه، وانه قد يفقد حياته، ولكن شيكيري الذي يحب عبد الرحمن، و بدأ يحب لعبة الحرب، كان رأيه أنه لا وسط فيما يجري الآن في المنطقة، فإما أن يحارب في صفوف الحكومة و الجنجويد، أو في صفوف الطورابورا: اختار الأخير. على الأقل لأن عبدالرحمن هنالك.
مرت أشهر الخريف بهدوء، وجرت مفاوضات عن طريق وسطاء عرب بين الحكومة وبعض الحركات ومنها الحركة التي يتزعمها شارون، عبد الرحمن حضرت المفاوضات أيضاً، ما كانت عبد الرحمن تتوقع نتيجة ايجابية لمثل هذه المفاوضات، ولكنها على كل حال عبارة عن هدنات يعيد فيها الأطراف جميعا ترتيب أوضاعهم و تأمين الإمدادات العسكرية و الطبية لمقاتليهم، شارون يرى ان الحرب بالنسبة للحكومة و الجنجويد قد أدت غرضها بنسبة 90% وهو المتمثل في تهجير قبائل الزُرقة الى ثلاثة جهات: المعسكرات تخوم المدن الكبرى، مثل نيالا، الفاشر و الجنينة، و أما إلى دولة تشاد كلاجئين، أو للآخرة كموتى، و ما تبقى من10% اما أنهم يعيشون كرق في القرى التي يسيطر عليها الجنجويد، أو ينتظرون دورهم من الموت و التهجير لتحل محلهم المجموعات البشرية القادمة من النيجر تحت مُسمياتٍ قبليةٍ كثيرةٍ و لقبٍ مرعبٍ واحدٍ هو الجنجويد : جنٌ على ظَهَرِ جوادٍ وفي يده جيم ثلاتة.
استيقظ المعسكر ذات صباح علي شجار ما بين مريم المجدلية و عبد الرحمن كن يشتمن بعضهن البعض بالفاظ نابية و جارحة، استطاع الناس من بين هذه الشتائم و الإتهامات أن يسبروا غور المشكلة، أو ما ظنوا أنه كذلك. توصلوا إلى أنّ عبد الرحمن تتهم مريم بالسعي على غواية زوجها شيكيري توت كوة، بل تتدعي أنها وجدتهما مرارا و تكرارا معاً، وتتهم مريم أيضا عبد الرحمن بأنها داعرة كبيرة، و انها تمارس الجنس مع الجنود لتقنعهم بالوقوف إلى جانبها ضد شارون، صاحت مريم بصوت عالي وواضح أن عبد الرحمن كانت تستدرج الجنجويد عن طريق شَرفِها.
كانت هذه الإساءات مؤلمة لشيكيري، صحت أم كذبت، ولو أن عبد الرحمن قالت له ذات يوم، عندما ناقشها في شأن صيد الجنجويد، و حاصرها في ركن ضيق، وكان عليها أن تعترف بسرٍ ما، قالت له إنها تحارب بكل ما لديها من أسلحة، وألمحت إليه أنّ جسدها واحدٌ من تلك الأسلحة، وإنه أكثرها ضراوة، أما مسألة الشرف، فلم يترك لها الجنجويد شرفاَ تحافظ عليه. لذا من جانبه يشك في كل شكل من أشكال التقارب بينها وبين شارون، ولم تمر شتائم مريم لها مرور الكرام، دون أن تحرك انياب المخافات فيه، ودون أن تدعه يحدث ذاته بأن عبد الرحمن في سبيلها للسلطة قد تفعل. اما شتائمها لمريم و اتهامها لها بأنها تسعى لغواية زوجها، فكانت صحيحة، بل أن شيكري و مريم فعلا كلما يمكن أن يفعله شخصان ناضجان يؤمنان بأن الجسد يستطع أن يفكر بعمقٍ ولِذَّةٍ أكثر مما يفعل العقل. و لم تكن لدى عبد الرحمن المعرفة الأكيدة بما وصلا إليه من تواصل حميم، ولكن حدثها قلبها، فصدقته و افتعلت الشجار. كانت تريد أن تحتفظ بشكيري، لا تدري ما إذا كانت تحبه حقاً، أم أنها تُريد رجلاً قُربها لا أكثر.
حسم شارون المعركة بإعلانه الإستعداد الفوري، لقد شوهدت طائرة تحلق في أجواء ليست ببعيدة عن موقع المعسكر، انتنوف صغيرة الحجم، تحلق عالياً، و اختلف القادة ما بين ان يطلقوا عليها المضادات الصاروخية، أم أنها طائرة مدنية، لتوخي الحزر دخل المقاتلون المخابئ، و انتظر مطلقوا الصواريخ الأوامر العُليا. الطائرة تذكرها بأيامها الأولى بمعسكر كلمة، الذي يقع جنوب مطار نيالا، و لا تفصله عن المطار مسافة شاسعة، وعندما تُشعل محركات الطائرات و يسمعها الأطفال في المعسكر مساءًا أو في الصباح الباكر، فإنهم يتبولون في ملابسهم، تهرب الحمير رافعة آذنانها للأعلى، و أذنابها منتصبة في خط مكتمل الأستقامة، متوازيا مع جسدها الذي ينطلق على سطح الأرض بسرعة مائة كيلو متراً في الساعة. تصيح الدجاجات و الديوك كما لو أن ثعلباً شرساً دخل قنها. أما عبد الرحمن، على الرغم من كبر سنها مقارنة بغيرها ممن خبروا تجربة حرب الطائرات، مازالت تحس بالرُعب يتملكها عندما تسمع صوت الطائرة، أو تراها، لذا كانت من أنصار أن يُطْلَق الصاروخُ على الطائرة إذا حلّقت مرة أخرى قريباً من المعسكر، أو حتى بعيداً عنه، طالما كانت في مقدرة الصاروخ أن يسقطها، لأنها حتما ستذهب إلى قرية ما، و هنالك أطفال ما سوف تقتلهم، وبيوتاً كثيرة ستقوم بحرقها و احالتها و من فيها إلى رماد. مرت الطائرةُ بسلام، ولكن لم تمر أزمة الطائرة بسلام، لأن أحد الجنود أطلق صاروخاً مضاداً للطائرات تجاه الأنتنوف، لكن لسؤء الحظ أم لحسنه لم يصبها، قال إنه لم يستطع أن يتمالك أعصابَهُ، و إنه عندما يرى الطائرة يغمره نفس الشعور عندما يرى الجنجويد أو العقرب، عليه أن يفعل شيئاً لقتلها. وأيدته بشدة عبد الرحمن و وبخه بشدة شارون، وفي اجتماع صغير ضَمَّ القادة لتقييم الوضع، اختلفوا في استراتيجية حرب الصيف، التي بدأت بوادرها في الظهور، كطائرة الإستطلاع سالفة الذكر، وكان شارون يصرُ على ذات النهج، أي أنه لا يهاجم أيا كان، انما يترك العدو يأتي إلى حيث ينتظره، ليموت بين يديه في كمين مُحْكَمٍ، وهذه الخطة تعتمد على التغزية من داخل المدينة و أحيانا المتعاونين من الجيش النظامي و المندسين داخل صفوف المجاهدين، وهي مُكلفة بشريا و مادياً، ولا تكلل دائما بالنجاح، فعندما تفشل فنتائجها وخيمة، وياما كانت هنالك أوقات مؤلمة و حرجة عاشها المقاتلون يوم أن صار الكمين الذي نصبوه للجنجويد، كميناً لهم في ذاتهم، وهنالك ذكريات وقصص مؤلمة تُحكى في هذا الشأن.
عدد لا يُستهان به من القادة الميدانيين اقتنعوا بفكرة عبد الرحمن، وهي مقاتلة الجنجويد في القرى التي استولوا عليها وحرقهم فيها، بطريقة الهجوم السريع المُباغت، بأكبر عدد من القاتلين و الرشاشات المحمولة على عربات اللاندكروزر السريعة و الإنسحاب الفوري. ولكن الإجتماع انتهى بالعمل بفكرة شارون، الذي له تجارب في الميدان تدعم حجته، ولا يتخيل مثل عبد الرحمن النصر و الهزيمة تخيلاً، لأن عبد الرحمن لم تخسر معركة الى الآن، لم تذق طعم الهزيمة وتواجه الموت، وذلك علمٌ عسير. ويؤكد شارون أن لذة النصر أن ياتي العدو ويموت حيث تريد، ويعرف العارفون أنّ شارون يقرأ كثيرا مذكرات جيفارا،ويمتلك الكتاب الذي ألفه فيدل كاسترو عنه، ويعتبر جيفارا هو مسيح المناضلين و مذكراته انجيلهم، ولكنه كما يقول دائماً عن نفسه أنه: يؤمن ببعض الكتاب. ويتمنى لو أن لقبه كان جيفارا بدلاً عن شارون، ولو أنّ اسم جيفارا سيذكره بصديقه الشهيد أبكر جيفارا، أول من استشعر خطر الجنجويد، و أول من حمل السلاح للدفاع عن أهله بدارفور. كان يعيب على جيفارا شيئاً واحداً، ويشترك فيه كثيرٌ من مقاتلي دارفور، وهو أن صديقه الشهيد كان يفهم نصف واقع الحرب، ويجهل النصف الآخر. ويشرح شارون ذلك بأنه لا يفهم كيف يحارب الرجلُ ضد الثوار في الجنوب، ويقتل أطفالهم و نسائهم و شيوخهم، ويحرق قراهم دون رحمة، بل يِعْتَبُر ذلك مرضاة لله سُبحانه و تعالى و جهاداً في سبيله. ثم ينقلب بين ليلة وضحاها, ليصبح ثورياً عندما تهم ذات السُلطة التي كانت تستخدمه، بذات المباديء وذات الشعارات و الأخلاق، بإدارة الحرب في مسقط رأسه، مستخدمة بالطبع آخرين أو إخوته. كان شارون يُسمى ذلك شِزُوفِرِينِيَا المُسْتَلَبْ، الذي ليس بإمكانه أن يفهم أكثر من بعض الحقيقة، و لا يَعي سِوي بعض الواقع، بالتالي لا يَقُوم سِوى بِشيء من الواجب. وقد يكون ضرر هذا الشيء أكثر من نفعه.
أصيب المعسكر بحالة من الإرتباك عندما انتشر خبر الهجوم الذي تعد له القوات الحكومية و الجنجويد، بل الذي بدأ بالفعل، عندما هاجمت طائرة مقاتلة تطير على مستوى منخفضٍ جداً، تكاد أن تلامس هامات الجبال مثل طائر وحشي يراوغ فريسة تجري على الأرض، كان ضجيجها مزعجاً و مرعباً، أسقطت قنبلتين برميلتين على السهل الجنوبي، وكان المقصُود السهل الأوسط حيث منبع البحيرة و المدينة، ولكن المسافة بين الأوسط و الغربي لا تتعدى الثانيتين بسرعة الطائرة المقاتلة النفاثة الصينية المرعبة، و كعادة الطيارين يخطئون الأهداف نتيجة للخوف و فقدان الدافع الأخلاقي أو الثوري وليس لعدم دقة الآلة. وقبل أن تعيد الكَرَّة، وهو الشيء الذي لا يخاطر الكابتن بالقيام به في مثل هذا المكان، كان الجميع على أهبة، و قام شارون بإطلاق سراح الأسرى لأنهم قد يقتلوا في سجنهم بدون أن يتمكنوا من انتهاز فرصة إنسانية لإنقاذ أنفسهم، وهي المرة الأولى في حياته يقوم فيها بإطلاق سراح أسير، ولكن هي المرة الأولى أيضاً التي تجرؤ فيها الحكومة بمهاجمة معسكره، قال لهم : انتم أحرار.
ولكنهم يظنون أنّ وراء العملية خطة، فشارون في عُرفهم لا يفعل شيئاً بدون حسابات دقيقة، كانوا في ذهولهم التام لا يدرون ما هو التصرف اللائق، وعندما تركهم لشأن آخر أهم، هربوا معاً شمالاً، حدث ذلك بعد مشورة قصيرة فيما بينهم، لأنه إذا كان هنالك هجوم أرضي لابد أنه سيأتي من جهة الغرب، لأن المنطقة الجنوبية و الشرقية ملغمتان، والشمالية بها درع جبلي لا يمكن تسلقه بسهولة، وهم لا يريدون أن يلتقوا بالقوات المهاجمة، لأنها سوف تقضي عليهم في الحال، قد تعتبرهم بعض قوات العدو. عندما تخطوا الدرع الجبلي و انطلقوا بين الأشجار، كانوا عشرين رجلاً، ولكنهم الآن واحد وعشرون، لقد انضم إليهم ابراهيم خضر، الذي كان ينتظر تلك الفرصة بل ويحلم بها، هرب قبلهم بزمن قصير، ولأنه يجهل طبيعة المنطقة، ظّلَ مُختبئاً، إلى أن يوطن نفسه على فكرة، ففوجيء بالأسرى، فتبعهم.
العنكبوت
قرية خربتي الجبل، قد لا يعرفها الكثيرون، حتى الذين ولدوا ونشأوا وماتوا باقليم دارفور، قرية صغيرة تقع في مضب صخري جنوب جبل مرة، سكانها القليليون يعملون في زراعة المانجُو و البصل وقليل جدا من الذرة للإستهلاك اليومي، وتُعتبر المانجو هي عصب الحياة لديهم، وينتجون عينة منها تعرف بمانجو الجبل وهي نادرة، كبيرة الحجم، غالية الثمن و حلوة الطعم، لها بذرة صغيرة جداً، ليس بها ألياف، لا تتلف بسهولة، يشتريها منهم تجار يأتون من أقاصي دارفور، ليصدرونها للخرطوم، في شهور مارس وأبريل و مايو، يبيعون البصل في السوق المحلي . يعتمدون في شرابهم وسقيا حيواناتهم على ماء اليمامات من الخور الوحيد الذي يهبط من الجبل عابراً جنائن المانجو التي يمتلكونها، تتمتع خربتي بأرض زراعية خصبة تنموا عليها الأعشاب الموسمية بكثرة، ولو أن سكان خربتي لا يميلون لتربية الماشية بكميات كبيرة، إلا أن بيئتهم و أرضهم رعويتان، وعمدة خربتي رجل طيب و انسان مُسالم و مسلم، لذا يؤمن بأن الناس شركاء في ثلاثة: الماء و النار و الكلأ.
في صيف 1988 قبل هطول الأمطار بخمسة و أربعين يوماً، جاء إلى قرية خربتي شيوخ من الإعراب، وليس غريباً أن يرى الناس مثلهم من حين لآخر يتجولون حول أراضيهم، و يرسمون معهم وآخرين مسارات لمرور الماشية. وجدوا الشيخ وحوله جماعة من الرجال يشوون لحم مرفعين شحيم، صاده أحدهم. كانوا يستمتعون بالشواء، وكلٍ في أعماقه ما يأكل اللحم لأجله، فهو مفيد لذوي العمش و العمى الليلي، هو طاقة جيدة للباردين في الفراش و الذين يتأخرون في القذف كثيراً، و شفاءٌ مجربٌ للعقم أيضاً، وهو يعالج بصورة نهائية المرضى الذين يعانون من ألم المفاصل، بالأضافة إلى أن لحم المرفعين يفسد عمل السحر، وزيت المرفعين إذا وضع الرجل قدراً قليلاً منه في سرته، سيصبح بذيل قصير، ولحسن الحظ لم يوجد الرجل المغامر الذي سوف يتحقق من الفرضية الأخيرة. كانوا يتجادلون في كل ذلك، بينما شيوخ البدو يقتربون من الجمع، لم يهتم الناس كثيراً بهم، إلى أن هتف هاتفهم
- السلام عليكم.
في تلك اللحظة رد الجميع، ولحم المرفعين بين أسنانهم
- عليكم السلام ورحمة الله تعلى وبركاته، تفضلوا قُدَّام.
يعرف البدو فضيلتين أخرتين للحم المرفعين، ولكنهم كانوا في ضيق من أمرهم، لذا اكتفوا بالكلام عن فضيلة واحدة هامة، وهي أنه يجعل الراعي مطمئناً أنّ مرفعيناً على الأقل لا يمكنه أن يأكل أغنامه بعد الآن.
تدبروا أمر اكرام الضيوف سريعاً،الطعام في هذا الصيفِ وفيرٌ، والناس مازالوا متواجدون في القرية ولا يذهبون بعيداً، ربما يعمل الشباب في أصطياد ابشوك، ولم تبدأ الإستعدادات الجدية للزراعة بعد. ولكن الجميع في مثل ساعة العصرية تلك، يوجدون في الغالب فيما يسمونه بالديوان. وهو حجرة كبيرة في حوش كبير ببيت الشيخ آدم كُويا، يؤدون فيه الصلاة، يقيمون المآتم و الأفراح، يتابدلون الآراء، ويحددون سعر المانجو. ولولا وليمة لحم المرفعين لوجدوهم يلعبون الضالة، لم يذبحوا لهم، فالماشية كانت بعيدة، ولكن تجمعت سريعاً بعض صواني الطعام من الحلة، أتى بها الصبية الشباب أو الأطفال، وكان غداء مقبولاً و كريما على أية حال.
تحدث أكبرهم سناً، كان حكيماً و مرحاً في ذات الوقت، تحدث عن أخلاق أهل خربتي، وعن مواقف لهم مشهودة في الملمات و المصاب، وقصد العفو عن قاتل أحد ابنائهم من البدو في شجار حول المرعى،وقصد الذرة التي اعانوهم بها في سنة الجفاف، التي هم أنفسهم كانوا في اشد الحاجة إليها، وقال إنهم يطمعون في أكثر من الجيرة المؤقتة و العلاقات العابرة، ثم أفصح بأنهم ونسبة لشح المراعي وفترات الجفاف المتتالية، وخاصة جفاف 83-84-85 الرهيب، الذي فقدوا فيه 90% من حيواناتهم بدأت حياتهم تختلف قليلاً، و يودون ممارسة الزراعة بصورة محدودة على الأقل بالطريقة التي تؤمن غذائهم وتوفر أقصابها بعض علف الماشية في الصيف، ويتعلم أبناؤهم مهارة أخرى تعينهم على الحياة. أي أنهم يريدون استقطاع جزءٍ من الأراضي الزراعية الخصبة الخاصة بخربتي، لزراعة الذرة، ولم يطلبوا مساحة كبيرة، بل ما طلبوه كان أقل من ألف فدان لا أكثر، وهي تقع في المناطق الأقل خصوبة.
بالطبع أعطاهم الشيخ ميعادا يعودون فيه للقرية لمعرفة الرد بعد أخذ المشورة ومراجعة الشرتاي، و الشيوخ الآخرين، وسوف لا يحصل إلا ما فيه الخير للجميع.
الشيخ آدم كُويا، شيخ خربتي، التي إذا سمع بها أحد المثقفين، سيحك فروة رأسه الأصلع، و إذا كانت برأسه بعض الشُعيرات فإنه سيبرمها بأنامل مرتعشة، يستغرق قليلاً في التفكير، ثم يفتكر: إنّ اسمها غربتي، ولكن لأن أهل تلك المنطقة ليس بلغتهم الحرف غين، و ينطقونه خاء، فأصبحت خربتي. و الحقيقة غير ذلك تماماً. فهي في الأصل كانت كلمتين: خور و بتي، أي خور بتي، وبتي ليست هي ابنتي كما بدارجة كثير من أهل السودان، ولكنها اسم فقيه، أول من أقام بهذا المكان. وهو جد الشيخ آدم كُويا فكي بتي هارون. والد عبد الرحمن واخوانها، هارون و اسحق و موسى، و أختها الكبرى مريم.
التعليقات (0)