الفراغ الاستراتيجي
ناصر دمج
اخطأ الرئيس ابو مازن بعدم حضوره قمة ( اجتماع غزة ) في الدوحة يوم 17/1/2009م والتي حملت اسم غزة وهو الجزء المستلب من سيادته ويطالب باسترداده ، ولعل هذا المسلك ذكرنا بأخر مغاير له وهو مسلك الرئيس عرفات في التعامل مع التجمعات والمحافل الإقليمية والدولية التي كانت تناقش الشأن الفلسطيني بمستويات مختلفة ، فكان يحرص على التواجد والمشاركة في تلك اللقاءات ، هو أو من ينوب عنه ، لكيلا يكون الغياب سببا في نشوء حالة فراغ في التمثيل والحضور الفلسطينيين حتى في ساحات أمريكا اللاتينية أو أفريقيا وأسيا ، لأن نشوء هذا الفراغ سيشكل مدخلا للمس بشرعية التمثيل الفلسطيني وخاصة اذا كان الظرف المحيط يحمل مثل هذه النذر .
ان ما قام به الرئيس أبو مازن سيكون له أثرا بالغا وسلبيا على وحدة تمثيله لشطري الوطن كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية ، واعتقد بان هذا الأمر ذهب بلا رجعة مع غبار المعارك في غزة ، وعلى أبو مازن ان لا يندهش إذا ما خرج من هذه اللعبة كخاسر اكبر ، ان المقامرة التي يقوم بها أبو مازن بالرهان المطلق على الجانب الإسرائيلي والأمريكي لن تخدمه في شيء على المدى البعيد لان هناك فرق كبير في تصميم الرؤيا السياسية الأمريكية والإسرائيلية والرؤيا الفلسطينية لأدارة الصراع والتحكم به ، فالأولى تقوم على مجاراة المتغيرات يوميا وأحداث الإضافات الضرورية على التكتيكات اللازمة لإنجاز الأهداف العليا وبعيدة المدى اما الثانية فهي ثابتة على عوامل ثابتة ولا تحدث التغيير اللازم بسبب عدم وجود أهداف بعيدة المدى (غير المفاوضات بحد ذاتها ) .
لذا من الممكن ان تغدر السياستان الأمريكية والإسرائيلية بأي حليف لهما ، انظر ماذا فعل مناحيم بيغن بالسادات قبل ضرب المفاعل النووي العراقي بيوم واحد عندما زار القاهرة وضرب المفاعل في اليوم التالي ، ومن أين أعلنت وزيرة الخارجية الإسرائيلية بدء الحرب على غزة من القاهرة أيضا ، وفي كلا الحالتين ينطوي المسلك الإسرائيلي على غدر سياسي سواء كانت القاهرة تعلم بنوايا وقرارات إسرائيل أم لم تعلم ، وكذا الحال مع برويز مشرف وهكذا سيكون الأمر مع كرزاي ، ان أبو مازن ليس في وضع أفضل من الذي عليه باقي الحلفاء المذكورين ، فإذا كانت أمريكيا هي التي طلبت من أبو مازن عدم الذهاب الى قمة الدوحة فهي التي طلبت من الدوحة عقد القمة وطلبت من حكومتها في العراق المشاركة فيها والتحدث بأعلى النبرات ، وهي التي طلبت من الدوحة أيضا دعوة قادة فصائل المقاومة في دمشق للحضور ، وإذا ما صحت أقوال وزير خارجية قطر في مؤتمره الصحفي عن فحوى المكالمة الهاتفية بينه وبين الرئيس أبو مازن ، فان أبو مازن بهذا قد سدد لنفسه ضربة ستجلسة والى الأبد في مكان لا يحسد عليه في التاريخ ، ولن يرحمه هذا التاريخ أيضا بسبب إذعانه المريب للاسرائيلين والامريكين ايضا ، لقد أعلن وزير خارجية قطر عن هذا الخطأ في الوقت الخطأ ، وأبو مازن يستشعر محاولات ذبحه من الوريد الى الوريد فعلا لا قولا ، وسيندرج هذا الخطأ كمسبب لضمور واضمحلال منظمة التحرير الفلسطينية وهى الضحية الثانية لمرحلة ما بعد غزة بعد ابو مازن ، لان الغياب عن قمة الدوحة منح الخصوم السياسيين لابو مازن فرصة الظهور التي تلزمهم للإفصاح عن خطابهم السياسي الى جانب أدائهم العسكري ومنح مسعاهم شهادة الميلاد الشرعية لمخلوق سيبدأ بالنمو عما قريب ولعل هذا الأمر أيضا يستقيم تماما مع مساعي شطر الصف العربي المصاحب للتشظي الفلسطيني .
عليه تأكدنا هنا أكثر من أي وقت مضى بان الإدارة الأمريكية وحليفتها إسرائيل تتحكمان بخيوط اللعبتين العسكرية والسياسية، على هامش هذه الحرب وفي مساء اليوم الذي عقدت فيه قمة الدوحة ، وذلك من خلال الخطوتين التاليتين :- .
أولا. وقعت وزيرتا الخارجية الاسرائيلية والأمريكية على مذكرة تفاهم عسكرية تهدف الى الحيلولة دون وصول الأسلحة الى قطاع غزة وذلك من خلال البدء بمراقبة شاملة من قبل أساطيل حلف شمال الأطلسي الموجودة في المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الاحمر وصولا الى مضيق جبل طارق ، الامرالذي وفر مخرجا لإسرائيل للقبول بوقف إطلاق النار .
ثانيا . قيام المغرب بطرد السفير الفنزويلي من الرباط احتجاجا على دعم كاركاس للبوليساريو، والجميع يعلم بان هذا الأجراء هو رد على طرد السفير الاسرائيلي من فنزويلا احتجاجا على مذابح غزة وإعلان ملك المغرب بأنه لن يشارك في أي من القمتين في الدوحة أو الكويت .
ولعل توقيت هذين الإعلانيين يحملان من المغازي الدالة على مكانة النفوذ الإسرائيلي في قلب العالم العربي، لذا فان تجزئة العالم العربي كانت وما زالت تمثل الهدف الاستراتيجي للاستعمار العالمي وذلك للأسباب المعروفة لأبناء هذه الأمة وفي هذا السياق جاء احتلال العراق ، وبعده اعد المحافظون الجدد في أمريكا مشروع الشرق الأوسط الجديد في منتصف العام 2004م والذي يقضي بإعادة رسم حدود الدول العربية بما يكفل مصالح إسرائيل الاستراتيجية ولخص هذا المشروع جون بولتون ممثل الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة بقوله بان المنطقة لا تتسع إلا لثلاث دول هي إسرائيل ومصر والأردن يعني ذلك بان يتم توزيع الفلسطينيين على هذه الدول واستدركت رايس قائلة بان هذا المشروع يحتاج الى شلال من الدماء لكي ينفذ، لما يتضمنه من حروب هدفها نقل السكان الى خارج حدود بلادهم الأصلية وإزالة دول بالكيلة عن الوجود ومنحها أسماء جديدة وفقا لمتغيرات ديمغرافية هائلة ستؤدي إليها نتيجة هذه الحرب، الى ذلك علينا ان نتمعن جيدا في كل ما يحدث بدءا من الباكستان والتي بدأت تطلق عليها بعض دوائر صنع القرار الغربية برجل أسيا المريض تمهيدا للانقضاض عليها وتقسيمها وانتزاع برنامجها النووي، ولربما أريد لتفجيرات مومباي في نهاية العام الماضي ان تكون شرارة الهجوم الغربي براس حربة هندي على الباكستان، وان الاعتداءات الإجرامية البشعة التي تنفذ ضد مسيحيوا العراق تهدف الى نقلهم الى لبنان وتحيدا الى المناطق التي تسيطر عليها القوات اللبنانية أمعانا في الفرز الطائفي والاثني في المنطقة والذي سيصبح المتغير الجديد الذي ستشكل على أساسه الدول وفقا لنبوءة مشروع الشرق الأوسط الجديد، والواقع العراقي المرير يحاكي هذه القراءة للأسف وخاصة بعد توقيع حكومة العراق التي ذهبت الى الدوحة لمساندة غزة على اتفاقية تنظيم الوجود الأمريكي في العراق.
ان النيران الكثيفة والأسلحة الجديدة وغير المجربة سابقا والتي أمطرت بها رؤوس المدنين في غزة كان هدفها ملء الارض والسماء في غزة بالرعب، وكذلك تكرار قصف نفس الأهداف المدنية قصد منه القضاء على ألاماكن الامنه لكي يبقى أمام المدنين فرصة وحيدة للذود بها عن أنفسهم من جحيم القنابل وهى عبور الحدود الى مصر وإفراغ القطاع من السكان، هذه هي اسرائيل بلا أية مواربة " بالسيف والدم هدمت أورشليم وبهما ستقوم " ان هذا المزج بين الأهداف الاستراتيجية الحديثة والخرافة الميثولوجية البائدة يبرر لمعتنقيها ارتكاب الفضائع من اجل أوهامهم، وكذا الأمر في الضفة الغربية التي تسخدم فيها وسائل أخرى لإنجاز الأهداف نفسها حيث عمدت اسرائيل الى تنفيذ مخطط من ثلاث مراحل وهي:-
1- فصل الضفة الغربية عن غزة
2- تقسيم الضفة الغربية الى قسمين الاول شمال القدس المتروبوليه والثاني جنوبها، وستسمح اسرائيل لاحقا باندلاع نزاع مرير في الضفة الغربية على شاكلة ما حدث في غزة وسيؤدي هذا الصراع الى فصل جنوب الضفة عن شمالها، والقسم الجنوبي منها ستسيطر عليه حماس والشمالي ستسيطر علية كافة الفصائل الفلسطينية وفتح بتشظياتها التي ستشهد تطورات حاسمة خلال السنوات القادمة.
3- إلحاق سكان كلا القسمين وعبر مراحل بالمملكة الأردنية الهاشمية بالإضافة الى إلحاق قطاع غزة بمصر
لكن المقاومة أينما وجدت كانت وستبقى العقبة الرئيسة أمام نجاح مثل هذه المساعي فلو ان اسرائيل انتصرت في حرب عام 2006م على حزب الله لرأينا اليوم مشهد مختلف للبنان قوامه ان رئيسها ليس هو الذي الآن، وافتتحت بينهما مكاتب التمثيل أو السفارات، يضاف الى هذه المقاومة إيران التي تقف عقبة كأداء أمام نجاح المساعي الأمريكية الإسرائيلية للسيطرة على المنطقة لذا فان إيران لن تتخلى من مخلبيها المنغرسين في جسد اسرائيل وهما حماس وحزب الله قبل ان تشرع الولايات المتحدة بالتفاهم معها حول كل صغيرة وكبيرة في المنطقة الممتدة من باكستان الى غزة وفي مقدمة هذه التفاهمات ملفها النووي.
خلاصة .
لامس الحقيقة وصف أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى بوصفة للمشهد العربي الراهن بأنه في منتهى الفوضى والخزي، ولمن أراد التمعن سيلاحظ بان هذه الحالة ليست وليدة الصدفة إنما هي نتيجة لمساعي أمريكية مضنية لعمل نظرية الفوضى الخلاقة ، التي من رحمها يعاد تشكيل الأشياء في شرق المتوسط من جديد، اما التشكيل الجديد للمنطقة فقد قضى الأمر فيه بما لا يمكن استدراكه، ولمرحلة ما بعد غزة يبدو ان المشهد البانورامي الفلسطيني ستستقر فيه فراغات هامة واستراتيجيه وفي مقدمتها الفراغ الناشىء بين الضفة وغزة والذي لن يردم الا بزوال أسبابه القاهرة ، ومن الغريب ان تكون هذه النتيجة هي الابرز للحرب على غزة ، هذا الفراغ سيقود ايضا الى فراغ اخر متمحور حول التمثيل الفلسطيني للفلسطينين ، ففي الوقت الذي اكتسبت فيه حماس شرعية اضافية لتمثيلها لغزة بسبب صمودها وقيادتها للمعركة ، خسر ابو مازن هذه الورقة على نحو نهائي ، الأمر الذي ادخل القضية الفلسطينيه في حالة ملتبسة وغير مسبوقة ، فيما يحققه السياسي الفلسطيني على طاولة المفاوضات ، نتيجة لصمود المقاتل الفلسطيني في المعركة ، فهل صمود غزة سيسقط ابو مازن ، ان حصل ذلك فلن تستأثر غزة بالضفة ، وان حدث العكس فلن تعود السلطة الى غزة ، اذا النتيجة الاجمالية للمعركة هي تعميق الفراغ الاستراتيجي الذي يخشى ان تتم الاستعاضة عن ردمة ، بايجاد قيادتين لدودتين لشعب واحد .
n-damj@maktoob.com
التعليقات (0)