أقرر أحيانا الأمتناع عن الكتابة بتاتا لأقتناعي باأن الليبيين اليوم لا يقرأون ، وإن كل من يكتب اليوم يريد أن يقول ما يريد عن جهل أو عن قصد غير شريف دون الألتفات لما يقوله الأخرون . وهذا لا يؤدي الى الهدف من تبادل الرأي بين المواطنين الليبيين في هذه المرحلة الهامة من تاريخ البلاد . ومع هذا أجد نفسي في دوامة عندما أقرا ما يكتب اليوم في الأعلام اللكتروني الليبي لان الصحف الليبية لا تصلنا قي الخارج ولأن محطات التلفزبون لا يصل مدى إرسالها إلينا سوى محطتين كلها أناشيد وتكبير . هذا يضطرني أحيانا إلى ألى كتابة تعليقي على ما يجري على الورق لأنه ليس لدي مع من أناقشه الرأي حول الأوضاع الليبية . .
مشكلة اليوم التي يكتب فيها كل من هب ودب هي الفدرالية . الفدرالية كلمة لا نعرف معناها الحقيقي وهي غير عربية ولم نسمع بها قبل الحرب العالمية الثانية . وهي دخيلة علينا لأنه لم يحدث في تاريخنا الطويل منذ العهد الروماني والاغربقي والفتح الأسلامي والحكم العثماني والأستعمار الأيطالي أن فكر أجدادنا وأباؤنا في تقسيم بلادنا طرابلس الغرب المعروفة اليوم بليبيا ، الأسم الذي أختاره الأستعمار الأيطالي ووضع على خريطة العالم لرغبة إيطاليا ضم ليبيا إلى إيطاليا كجزء منها وطبعا لا تريد أن تضمها بأسمها العربي طرابلس الغرب مذكرا أياها بأصلها وباعثا للتشكيك في إيطاليتها . ولهذا إختارت إيطاليا الأسم الأغريقي الروماني لها ليبيا الذي يدعم الأدعاء بكونها جزءا من إيطاليا تاريخيا ويبرر ضمها. طرابلس الغرب ليس إسما لمدينة طرابلس وإنما هو إسم الأقليم من حدود مصر شرقا وحدود تونس والجزائر غربا والمستعمرات الافريقية الفرنسية جنوبا منذ إحتلال العرب لها وطوال تاريخها الأسلامي والعثماني ، وجاء هذا التعريف في أول مذكرة للجامعة العربية أرسلت للدول العربية بشان ليبيا وضرور السعي من أجل إستقلالها . وهذا لا ينطبق على ليبيا وحدها بل هذا ما فعله العرب بكل دول الشمال الأفريقي سموا بلاد مصربأسم مدينة مصر ( المعروفة بالقاهرة اليوم ) وإقليم تونس بأسم مدينة تونس وإقليم الجزائر باسم مدينة الجزائر وإقليم المغرب لوقوعه غرب هذه الأقاليم . ولما إثير موضوع مستقبل المستعمرات الأيطالية السابقة بعد الحرب العالمية الثانية تنافست الدول الكبرى للحصول على جزء من هذ الأقليم الذي عرف بليبيا في الوثائق الأيطالية . كانت بريطانيا الدولة التي إحتلت معظم ليبيا مصرة على الأحتفاظ بجزء مهم من الكعكة ليبيا وهو شرق ليبيا إقليم برقة المحادي لمصر البلد المحتل من طرفها أنذاك والذي يثار فيه موضوع جلاء القوات البريطانية وأمن قناة السويس. وتركت بريطانيا إقليم طرابلس وفزان للمساومة مع حلفائها على إقتسام الكعكة . ولكنها وجدت بعد ذلك الحيل و الوسائل والفرص للاحتفاظ بكل الكعكة ليبيا. وأذكر لما كنت طالبا أثناء مناقشة مشكلة ليبيا في الأمم المتحدة كانت بريطانيا تدافع عن مشروع بيفن سفورزا في نيويورر وتشجع الليبيين في طرابلس على التظاهر والمطالبة بالأستقلال والوحدة مع برقة وفزان ولن أنسى ضباط الشرطة الأنجليز وهم يشرفون على المظاهرات الشعبية ضد مشروع بيفن سفورزا ويسمحون لنا بالخروج من مدارسنا للمشاركة فيها وتشجيعنا على تدمير وحرق النوادي والمحلات الايطالية وهم يتفرجون ويبتسمون . وقبل ذلك وعدت بريطانيا الأمير إدريس السنوسي أثناء الحرب بعدم عودة برقة تحت الحكم الايطالي ، وأقنعت قبائل برقة وبعض ساستها من أصحاب الطموح بالتمسك بأستقلال برقة تحت علم الملك إدريس الصديق والحليف لبريطانيا منذ الحرب الليبية الأيطالية ، حتى لا يعودوا إلى الحكم الأيطالي إذا تقررإرجاع ليبيا إلى إيطاليا تقديرا لدورها في الثورة على الحكم الفاشيشتي ومسوليني وإضعافا للحزب الشيوعى الذي ظهر بعد الحرب كقوة سياسية كبرى . و لتحقيق هذا الهدف بدات بريطانيا بتأكيد هذا الهدف بالأشتراك مع إيطاليا في تقديم مشروع بيفن سفورزا الى الجمعية العامة للأمم المتحدة وتقسيم الكعكة ليبيا إلى ثلات قطع من الأرض توزع على فرنسا وأيطاليا وبريطانيا للوصاية عليها. في نفس الوقت كعادة بريطانيا ودهقنتها الدبلوماسية سعت إلى إفشال مشروع بيفن سفورزا وتشجيع الشعب في طرابلس بالتظاهر ضد مشروع بيفن سفورزا ورفض عودة إيطاليا والمطالبة بالأستقلال والوحدة مع برقة وفزان . وفعلا ثم ذلك ووافقت الامم المتحدة على أستقلال ليبيا ووحدتها . وهنا وجدت بريطانيا إنها ملتزمة أخلاقيا نحو قبائل برقة وساستها والأمير إدريس السنوسي بوعدها المحافظة على الحكم الذاتي لبرقة ضمن الدولة الليبية المستقلة الجديدة . ووجدت كالعادة بالدهاء الأنجليزي الأستعماري المعهود في الفدرالية ضالتها وأقتعت سكان برقة بذلك للتمسك بها وإستطاعت أن تقتع الملك إدريس والمستر إدريان بلت مندوب الامم الأمم المتحدة وأغلبية أعضاء مجلسه الأستشاري لتنفيذ قرارها بأستقلال ليبيا وإتخاذ النظام الفدرالي كنظام لحكم ليبيا المستقلة , وفعلا تم ذلك رغم معارضة أغلبية الشعب الليبي في طرابلس ومعظم مدن ليبيا من شرقها وغربها وكذلك الدول العربية والأسلامية والأسوية ودول المعسكر الشيوعي .
ونظرا لأن موافقة المستر أدريان بلت الهامة على هذا النظام الفدرالي وطريقة فرضه بطرق غير ديمقراطية وبدون إستفتاء شعبي عليه كانت موضع إنتقاد من كثير من المنظمات الدولية وحقوق الأنسان والدول المذكورة أعلاه لأنه أسبغ موافقة الأمم على النظام الليبي الفدرالي . وأذكر إني سألت المستر إدريان بلت شخصيًا عندما زرته في جنيف في مهمة سنة 1965م . فكان رده صريحا وهو أن التوفيق كان مستحيلًا بين الدعوة إلى وحدة البلاد التي تؤيدها أغلبية الشعب الليبي وخاصة في طرابلس، ورغبة زعماء ولاية برقة في المحافظة على شخصيتها وكيانها السياسي تحت إمارة السيد إدريس السنوسي ودعم بريطانيا لهم وفقا لوعودها لهم أثناء الحرب العالمية الثانية . ورغم أن الأمير إدريس بويع من طرف زعماء طرابلس دون قيد أو شرط قبل وضع الدستور، إلا أنه استمر في مساندة برقة في كل طلباتها أثناء الإعداد للاستقلال وهذا شئ طبيعي وكان متوقعا .
ويرى المستر إدريان بلت أن إختيار النظام الفيدرالي كان الحل العملي لتنفيذ قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في التاريخ الذي حددته الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو أول يناير سنة 1952م. وكان المستر بيلت يخشى في رأيه إستمرار الخلاف بين زعماء طرابلس المنقسمين على أنفسهم، وزعماء برقة بقيادة الأمير إدريس السنوسي، مما قد يؤدي إلى إعادة موضوع مستقبل ليبيا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك لم يكن في صالح ليبيا، لأن إعادة القضية الليبية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة سيثير موضوع مشروع بيفن سفورزا من جديد وتقسيم ليبيا إلى ثلاتة قطع ووضعها تحت الوصاية وتأجيل البت في استقلالها، ولهذا كان هدف المستر بيلت هو إستقلال ليبيا قبل أي إعتبار آخر. أما قضية وحدة البلاد فكان يرى إنه يمكن تحقيقها مستقبلًا. ولا شك أن هذا العذر كان غير منطقي في ذلك الوقت، فقد كان في إستطاعة المستر بيلت أن يفرض إختيار الشعب لجمعية وطنية تأسيسية بالأنتخاب لوضع الدستور وعرضه على الأستفتاء الشعبي قبل تطبيقه ، بدلًا من تأليف الجمعية الوطنية التأسيسية بالتعيين والمساواة بين الأقاليم ، والموافقة على الدستور دون الرجوع إلى الشعب، مما يخالف مبادىء الأمم المتحدة والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن ما توقعه المستر بيلت لوحدة ليبيا مستقبلًا كان قد تحقق فعلًا. فمع مرور السنوات تقررت وحدة ليبيا الكاملة بدون إستفتاء شعبي أو مبادرة من مجلس الأمة، بل تحققت باقتراح وأوامرمن الملك إدريس نفسه بعد سيطرته الكاملة على السلطة، وبدأت إجراءات الوحدة في أواخر عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد وبداية عهد حكومة الدكتور محي الدين فكيني، وكان إعلان الوحدة تحاشيًا لتطور الخلاف بين ولايتي برقة وطرابلس حول الميزانية والمشاريع وحول استغلال الحقول البترولية واستخدام موانئ شحن البترول المتداخلة على الحدود بين الولايتين في منطقة سرت وكذلك لاصلاح الخطأ الذي وقع فية مؤيدوا النظام الفدرالي أثناء الاعداد للأستقلال ضد رغبات الشعب الليبي .
لا شك أن قرار الوحدة استُقبل بالترحيب على كل المستويات الشعبية والعربية، لكن الوحدة شابها بعض القصور رغم أنها قررت في الدستور، وألغيت حكومات الولايات، وقسمت البلاد إلى محافظات، لأن نتائجها لم تحقق الوحدة المرجوة نتيجة إستمرار ما أرساه النظام الفيدرالي من تقسيم لقوات الامن على أساس إقليمي ومفاهيم وخلافات ومصالح بعض القبائل المستفيدة والساسة أصحاب الطموح التي كانت تحتاج إلى وقت للتخلص منها في ظل الوحدة . ولا شك إن هذه المفاهيم والخلافات والمصالح أسبغت على البلاد حالة من عدم الأستقرار زادتها حالة الملك الصحية وعدم أتخاذه القرار الحاسم حول نظام الحكم من بعده ، وإنتشار إشاعات إستقالة الملك وتكليف عناصر موالية للملك في الجيش الليبي لتولي الحكم مما أربك قوات الأمن المنقسمة على نفسها وبين مناطق البلاد , وعطل دورها في حماية أمن البلاد ، مما شجع بعض الدول الأجنبية التي توسعت مصالحها وأطماعها في ثروات البلاد على التلاعب من وراء ستار وتشجيع عناصر شابة وأصحاب الطموح في الجيش الليبي للقيا م بالأنقلاب البغيض الذي تم يوم الواحد من ستمبر 1969 .
وأستغرب اليوم إستعمال كلمة التهميش لبنغازي وبرقة . قد يكون هذا التهميش في فترة 42 عاما التي حكم فيها القذافي ليبيا وهي فترة لا أعرف أنا عنها شيئا لأنني عشت في الخارج طوال هذه الفترة ومنذ أوائل 1977 لم أزر ليبيا لفترة 35 عاما كاملة ولا أعرف فيها ضابطا واحدا ممن سميوا بالضباط الاحرار (المجرمين ) الذين تولوا السلطة خلال هذه الفترة من عمري . ولم تكن لي أية علاقة بليبيا وظيفية أو مادية أو معنوية سوى جواز سفري الليبي الذي ربطني بالوطن . وقد تعذر على السفرألى الوطن لأسباب صحية بعد التحرير حتى الأن . لهذا أجهل اليوم شكل المدن الليبية وخاصة التي عشت فيها مصراتة وطرابلس وبنغازي والبيضاء وأتخيلها كما يحكيها الأخوة والأصدقاء لي . لهذا لا أعرف مدى التهميش الذي ألحق بالمنطقة الشرقية خلال هذه الفترة التي تم فيها تهمبش البلاد كلها حسب ما أسمع . أما في العهد الملكي الذي أعرفه فلم يكن يوجد تهميش . فقد دخلت العمل الحكومي بعد الجامعة سنة 1956 وأنتقلت إلى البيضاء وبنغازي حال تعييني في عهد حكومة السيد عبد المجيد كعبار. وبعد خروجي في السفرات الليبية سنة 1958 تركت الحكومة الليبية في بنغازي ومنها أنتقلت الحكومة ألى البيضاء وبقت هناك خلال فترة السيد كعبار ثم السيد محمد بن عثمان . ورجعت أنا من الخارج في سنة 1962 ووجدت الحكومة لا زالت في البيضاء وأعلنت الوحدة في تلك الفترة ومنذ ذلك التاريخ لم أغادر مقر عملي في البيضاء مقر الحكومة طوال فترات حكومات السادة محمد بن عثمان , ومحي الدين فكيني , ومحمود المنتصر، وحسيم مازق ، وعبد القادر البدري ، وعبد الحميد البكوش وونيس القذافي .وبقيت طوال هذه الفترة حتى يوم الواحد من ستمبر 1969 يوم الأنقلاب المشئوم ومنها إلى سجن بورتابينيتو. وهي أطول فترة من عمري قضيتها في مدينة ليبية . كانت مدينة البيضاء في هذه الفترة التي عشت فيها بعد إعلان الوحدة هي عاصمة ليبيا العملية وتعج بالحركة والنشاط وتقام فيها كل الأجتماعات . ويوجد فيها مجلس الوزراء ويقيم رئيس الوزراء فيها إقامة دائمة ووزراء الحكومة موجودون فيها أسبوعيا لحضور إجتماعات مجلس ومجلس الأمة بمجلسيه الشيوخ والنواب ووزارة الخارجية وإدارات كبيرة من كل الوزارات ومقر رئاسة اركان الجيش وقوة دفاع برقة والجامعة الأسلامية وإقامة الملك أحيانا . وكانت كل الأدارات الحكومية تنتقل إليها تدريجيا كلما توفر مبنى لها . وكانت عملية البناء تجري ليل نهار وعلى قدم وساق لأستيعاب كل الوزارات . وكان يتوافد على البيضاء كل المسئولين الليبيين والسفراء والزوار ولم تكن بنغازي وطرابلس سوى مراكز تنقل منها إلى البيضاء . وقد أستفادت مدن ليبيا الشرقية في نشاطها الأقتصادي من هذا الوضع وأصبح تجار بنغازي من كبار التجار الليبيين ويسيطرون على التجارة ليس في بنغازي وحدها فقط بل حتى في طرابلس وسائر المدن الليبية . وقد ساعدهم تلييب الشركات والوكالات االشركات الأجنبية في بنغازي بينما بقت في أيادي الأيطاليين واليهود في المنطقة الغربية .وما أبقى على مدينة طرابس عامرة وقد إبتعدت عن العاصمة البيضاء أكثر من 1250 كم سوى نشاط الجاليات الأجنبية وشركات النفط والسفارات التي أصرت على البقاء فيها رغم محاولات الحكومة إقناعها بالانتقال إلى بنغازي والبيضاء وكان عذرهم عدم توفر المباني والخدمات وقد بدأوا بدورهم الأنتقال التدريجي . إذا كان هذا الوضع تهميشا فانه كان واقعا على طرابلس والمدن التي حولها وليس لبنغازي والبيضاء والمدن الشرقية .أقول هذا للأجيال التي لا تعرف هذه الحقائق اليوم عن العهد الملكي فأكثر من 90 % من الليبيين ولدوا بعد إنقلاب ستمبر أو كانوا أطفالا يوم قيامه .
من هذا الأستعراض التاريخي والسياسي لليبيا نستطيع أن نقول أن عوامل وحدة ليبيا التاريخية والثقافية والأقتصادية والجغرافية والسياسية راسخة منذ القدم وتحتمها المصالح المشتركة . كما يتضح لنا وجود مفاهيم وخلافات ومصالح متباينة يجب أخذها في الأعتبار . إن المشكلة التي تواجهنا اليوم ليست مشكلة الفدرالية , فالفدرالية نظام أستخدم لتوحيد دول ومناطق مستقلة مجاورة ولم تستخدم من أجل تقسيم دول ووحدات سياسية قائمة كليبيا اليوم . ومشكلتنا هي تحقيق اللامركزية في نظامنا الأداري لأيصال الخدمات إلى كل المواطنين بالتساوي وتوزيع الأنشطة الأقتصادية والخدمات على الأقاليم الليبية والمدن الليبية وتوجيه الأهتمام بوسائل المواصلات والأتصالات الحديثة . واخيرا اقول هل حان للشعب الليبي وشبابه اليوم أن يعرف حقائق تاريخه وإمكانياته ودعائم وحدته التي هي مصدر قوته ووجوده من مصادر أمينة بدلا من الأنصياع إلى الأكاذيب والأشاعات وكتابات وإدعاءات أصحاب العقول السقيمة ومحاولات أصحاب المصالح ومن ورائهم أنصار العهد المنهار .
التعليقات (0)