بحث كنت قد استجمعته و حررته حول الغنوصية و تأثيراتها على بعض الفرق الاسلامية
اشتقت تسمية الغنوصية – Gnosticism من الكلمة اليونانية غنوص- Gnosis التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية (أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي) و التي هي أسمى من المعرفة العقلية، و هي خليط بين المعتقدات الوثنية اليونانية و الديانتين اليهودية و المسيحية و تعتبر الإسكندرية بمصر أهم مراكز الغنوصية أو الغنوسية عند انطلاقها وانتشارها في الشرق في القرنين الأولين بعد الميلاد، يقول البروفيسور رودولف اشتهر بدراساته عن الغنوصية:
- الغنوصية لها علاقة بالمعرفة الخاصة بأصل النفس البشرية وبكيفية عودة النفس الى عالم النور. ولدينا شهادات عدة من الأقباط وهراطقة مسيحيين تتحدث عن جماعات تأثرت بهذه الأفكار تعود الى القرن الأول الميلادي, وربما كانت موجودة في فترات أقدم, لكن بالتأكيد عاشت هذه الجماعات عصرها الذهبي في القرنين الثاني والثالث الميلاديين. والفكر خليط من أفكار مسيحية ويهودية وإغريقية, خليط من أفكار الحركات التي كانت موجودة في أواخر العصور القديمة. فالثقافة اليونانية الغربية تمازجت بالمصرية الشرقية. هذه الجماعات عاشت في مناطق متفرقة, وليست متوحدة يقودها كاهن أعلى أو أسقف بتنظيم صارم كالبابوية ....
اعتبرت الكنيسة الغنوصيين مهرطقون ومارقون وخارجون عن الخط فقادت حملة شرسة ضد الغنوصية منذ القرن الرابع الميلادي، أدت إلى إتلاف معظم المخطوطات الغنوصية، وأما ما تبقى منها فقد ضاع أثره تدريجياً بعد فترة لابأس بها من التداول السري. لهذا فقد بقي المهتمون بالتأريخ للفكر الغنوصي يعتمدون على ما كتبه آباء الكنيسة في معرض نقدهم للغنوصية، وما أوردوه من مقتطفات أمينة من كتبها الأساسية. ولكن في عام 1945 تم اكتشاف مكتبة غنوصية في موقع نجع حمادي بمصر، احتوت على اثنتين وخمسين مخطوطة مخبأة في جرار فخارية، ويعود تاريخها إلى نحو عام 400 للميلاد، وهي ترجمة قبطية لنصوص مكتوبة باليونانية ترجع إلى تواريخ أبكر من ذلك بكثير. وقد صدرت الترجمة الإنكليزية الكاملة لهذه المكتبة في مجلد واحد ضخم أشرف على تحريره J.M. Robinson عام 1972 تحت عنوان "The Nag Hammadi Library".
ترى الغنوصية ان العالم المادي هو نتاج لخطأ ارتكبه الإله الفوق الكوني ( صوفيا : الحكمة) حين أراد محاكاة الملاء الأعلى ( تراتبية الاهية تبدأ بالإله المتعالي و تنتهي بالإله السامي " صوفيا") فخلق مخلوق نصف إلهي، جاهل أساسًا، عُرِفَ بالـديميورغوس (من الإغريقية: Dēmiourgos) و هو المسؤول عن تكوين الكون المادي، لكن الديميورغوس يجهل ذلك ويُعلِن نفسه الإله الأوحد الموجود. و بما أن العالم المادي هو نتاج خاطئ فإن الغنوصية ترفضه وترى أن على النفس الانسانية أن تؤول الى العالم الأعلى لكونها من أصل الهي، هذا ما يسمى بالعرفان ( عملية معرفة النفس لذاتها و خلاصها من الخطيئة الحادثة) و الذي يعتبر جوهر الغنوصية.
عرف العراق القديم ( بلادالرافدين) تواجد أربع ديانـات غنوصية ، ثلاثة منه ظهرت قبل المسيحية وواحدة بعدها وهي (المندائية، الحرانية، الإيزيدية، المانوية)،و التي مازالت الى حد الأن منتشرتا في الشرق الأوسط في اطار مجتمعات دينية مغلقة. تواجد هذه الديانات و استمرارها في الشرق سيلعب دورا اساسيا في ظهور بعض المعتقدات الغنوصية لدى بعض الفرق الاسلامية ( الصوفية او التصوف الفلسفي و البشيعة الباطنية) أو لدى بعض الفلاسفة المسلمين.
عرف العهد العباسي نهضة علمية و فكرية نتيجة لترجمة الكتب الاغريقية و الهندية و انفتاح المسلمين على الثقافات المشرقية و المجتمعات الدينية الأخرى ( الصابئة المجوس الهندوس......). وجدت بعض الفرق الاسلامية ضالتها في التراث الغنوصي و الاغريقي لتبرير أفكارها و استثمارها فجاء بعضها مطابقا للمعتقدات الهرمسية و جاء البعض كمحاكات أو أسلمة لها، وحين نتكلم عن التأثير الغنوصي في الفكر الاسلامي أو بعض جوانب الفكر الاسلامي لابد من الوقوف عند ثلاث فرق : الفلاسفة المسلمون، أرباب التصوف الفلسفي ، الباطنية و الاسماعيلية....
أولا : التصوف الفلسفي:
انتعش التصوف الفلسفي إبان العصر العباسي في منتصف القرن الثالث الهجري مع انتشار الفكر الفلسفي، والاحتكاك بثقافات الشعوب المجاورة ، وترجمة الفكر اليونانية من قبل علماء بيت الحكمة الذي بناه المأمون في بغداد لنقل تراث الفكر الهيليني وفكر المدرسة الإسكندرية إلى اللغة العربية. وبطبيعة الحال، سيتأثر التصوف الإسلامي بالمؤثرات الخارجية والمؤثرات الداخلية على حد سواء كما نجد ذلك واضحا لدى الحلاج صاحب نظرية الحلول، والبسطامي صاحب نظرية الفناء، وابن عربي صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهيك عن شطحات غريبة في تصوف ابن الفارض( الحب الالهي) والشريف الرضي وجلال الدين الرومي ونور الدين العطار والشبلي وذي النون المصري و السهروردي ( الفلسفة الاشراقية).
لقد حاول بعض المتصوفة فك لغز الوجود ( كيف خلق العالم و حوادثه و من خلقه و مماذا خلقه و لماذا خلقه و .....و...؟)، وطرحت لذلك مجموعة من الرؤى بعضها جانب الصواب لتنافيها مع العقل و مع الدين أيضا، ومنها فكرة وحدة الوجود التي استند مؤسسها على مصادر ذاتية ( داخل نطاق الفكر و التراث الاسلامي من خلال تفسير و تاويل لأحاديث نبوية ...) وعلى مصادر نابعة من ثقافات و تيارات فلسفية خارج المنظومة الاسلامية ( الاغريقية، الهيلينية/ الغنوصية..)، يرى زكي مبارك أن القائلين بوحدة الوجود فريقان:
فريق يرى الله روحا و يرى العالم جسما لهذا الروح، و فريق يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله فالكل شيء هو الله و لاضفاء الشرعية على هذه الفكرة يستندون الى الحديث المأثور " رأيت ربي على صورة شاب أمرد..."، ويصفهم ابن تيمية بقوله "..يدعون التحقيق و العرفان و يجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات، فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن و قبح و مدح و ذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق......." . ممن تطرق لفكرة وحدة الوجود مجموعة من المتصوفة نورد ذكرهم استنادا على موسوعة عبد المنعم حنفي في التصوف:
ابن مسرة :يتناول ابن مسرة فكرة وحدة الوجود بصيغة فلسفية تتجسد في قضية الخلاص: خلاص النفس من عالمها المادي يكون بعودتها الى العالم الروحاني الذي فاضت منه، علاقة ثنائية بين الكل ( العالم الروحاني) و بين الجزء ( النفس) هي تجسيد للمبدأ الغنوصي السابق ( معرفة النفس لأصلها الإلهي كي تعود الى الملأ الاعلى ). كما يطابق هذا التجسيد بعض المعتقدات البابلية ( البابليون يرون أن النفس تهبط من السماء العليا عبر سبع دوائر فلكية فتتلقى في كل منها استعددات خاصة ، بعد الموت تصعد النفس عبر نفس الدوائر تاركة في كل دائرة ما سبق أن أخذته)، خلاص النفس عند ابن مسرة يكون بالمحاسبة اليومية لتتطهر و بالتالي تترقى نحو العالم الروحاني و تمام التطهير يكون بمعرفة الذات التي هي في الأصل الحصول على الذات ، هذه المعرفة لا تتم بالعقل لأنه قاصر عن الاحاطة بالوحدة الذاتية للاشياء.
ابن عفيف التلمساني : يرى ابن عفيف التلمساني أن وجود المحدثات هو عين وجود الخالق فما ثم غير سوى و لا سوى، فالعبد إنما يشهد السوى مادام محجوبا ( عاميا ) فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير( نوع من الاتحاد) لذالك فالامور عنده في هذه الحالة سواء و كل المحرمات في أصلها عنده حلال لأنه بلغ درجة ما فوق أحكام الشرع التي هي للعامة، هو بذالك ينفي مقاصد الشرع و أصلها و يستبدل الغاية ( عبادة الله.........) بالحصول على السوى ( الاتحاد مع الذات نفسها). ابن عفيف يجعل من الحلال و الحرام ثنائية نسبية تتعلق بالفعل الانساني، و لكن كيف للإنسان و هو المعروف بشهوانيته أن يهتدي الى ذاته دون رسالة أو وحي.......؟ كيف له أن يحد مما يعوقه كي يصل الى غايته؟ الانسان مسرح لصراع قوتين ( العقل والنفس)، فالعقل يهدف الى التفسخ من عالم المادة و التوجه الى العقل المتعالي ( العالم الروحاني حسب الهرمسية )، والنفس جزء من المادة الحادثة ( مصنوع ديتيموغورس).
هذا التفسير الهرمسي الذي يجعل الانسان خليطا من المادة و شيء من الصفات المتعالية، يوافق تفسير ابن عربي حين وضع أسس ما يسمى بوحدة الوجود فهو يرى في الإنسان صفة مشتركة تتغير بتغير المتصف.
ابن عربي : هنا لابد من التفريق بين ابن العربي الفقيه العالم و بين ابن عربي المتصوف الذي سنحاول طرح بعض افكاره حول وحدة الوجود و علاقتها بالفكر الهرمسي.
بنى ابن عربي الوجود كله على ما يسمى بالحقيقة الكلية التي هي للحق و للعالم لا تتصف بالوجود و لا بالعدم و لا بالحدوث و لا بالقدم، ان هي في القديم إذا وصفت بها قديمة و المحدث إذا وصف بها حادث ( محدث= مخلوق )، و الحقيقة الكلية هي صفة يتصف بها الخالق و المخلوق معا و تحمل صفات المتصف بها فهي تارة قديمة و تارة محدثة...........وهي أصل العالم ( يسميها أيضا الحقيقة المحمدية) و أنها غير قابلة للتجزيء، و هي واحدة في جوهرها و ذاتها و لا تتعدد إلا في التعيينات و النسب و الاضافات، و يعطي ابن عربي أيضا هذه الصورة المكملة لاستدلاله " و من هذه الحقيقة وجد العالم بواسطة الحق العالي............و لم تكن موجودة فيكون الحق قد أوجدنا من وجود قديم يثبت لنا بالقدم و كذالك لنعلم أيضا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم عن العالم و لا بالتأخر عنه و لكنها أصل الموجودات عموما و هي أصل الجوهر.........و إن قلت هي العالم صدقت أو أنها ليست صدقت....و تتنزه بتنزيه الحق".
ابن عربي جعل من الحقيقة الكلية التي هي كما يعتبرها قبة الوجود و عاءا للتعيينات و الصفات التي يتصف بها الخالق و المخلوق كما رأى هو. و في كلامه عن الانسان و محاولة لتفسيره لمبدأ القدرة و الارادة يرى ابن عربي أن الانسان انما هو الاه حقير لأنه خليفة الله في العالم و العالم سخر له مألوه له كما أن الانسان مألوه للخالق.....وهو بذلك أي الانسان حر في اختيار أفعاله ( لانه الاه كما ادعى) و هو مسير و مقيد بالجبر ( لأنه مع ذلك الاه حقير).
هذه بعض أفكار ابن عربي التي يتضح فيها التأثير الغنوصي و كأن كلام ابن عربي ككلام هرمس عن الوجود و كيفية الخلق و هذا ما بينه وو ضحه المفكر الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه نقد العقل العربي الجزء3 وإنما ذكرنا الإسماعيلية هنا لأنه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته، ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية".( الدكتور عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة 1، 1986م، ص:311،)
يتبع..................
التعليقات (0)