الغرب المأكول المذموم ... ماذا يفعل السياسي العربي؟
نلاحظ في مجتمعاتنا العربية بشكل عام وفي مجتمعنا السعودي بشكل خاص أن الناس الذين يحملون كثيراً من الضغط العاطفي المضاد للقيم الغربية نجدهم في نفس الوقت يتقلبون في نعيم التكنولوجيا ويبحثون عن الدواء والتعليم وسبل المواصلات الغربية، غير مدركين أو غير آبهين بالتناقض الظاهري والمبطن بين الرغبة في الشئ ومعاداته، بل إن هناك من المتعلمين في المجتمع من يلقي محاضرة أو خطبة في مسجد يحمل فيها بكل جهده على الغرب قيماً ووجوداً وعقيدة، ويدعو إلى البعد عنهم، والتنقص منهم، ثم تجده يخرج من محاضرته أو مسجده ممتطياً صهوة سيارة غربية فاخرة، ويحمل في جيبه جهاز اتصالات متحرك، ويستمتع بمكيف الهواء غربي الصناعة والمنشأ، ثم لا يجد في نفسه تناقضاً بين الأخذ بالتقشف عن حضارة الغرب مع الحمل عليهم، أو الاستمتاع بما لديهم مع إدراك ضرورات التعامل دون ضرر الولاء وضرورة البراء.
إن هذه التناقضية لا تدل على تردٍ في الطبع ولا سوء في الطوية، بقدر ما تدل على سذاجة مفرطة تعجز عن إدراك حقائق الحياة ومحددات الوجود، ووقائع السياسة الدولية.
وعندما يجد صانع القرار الوطني أن أفراد المجتمع لا يرغبون بتناول الطعام الغربي، ولا بمخالطة الغربيين أو مصادقتهم، أو العمل معهم، أو حتى استخدام العاملين المنزليين ممن هم على ديانة الغرب، ثم تجد هؤلاء المواطنين أنفسهم يرغبون بالعلاج واللباس والتقنية وقضاء الإجازة والقراءة، وغيرها من منتجات الحضارة الغربية المعاصرة، ويصرون عليها، بل ترى تأثيرها في سلوكهم وقيمهم ونظرتهم للحياة، فإن صانع القرار لابد سيتساءل، هل الشارع الوطني يريد مني تعميق صلاتي بالغرب لأحصل على ما يحتاجونه؟ أم يرغب مني مقاطعة الغرب لأضمن له تحقيق مشاعره العاطفية التي يجاهر بها ويطالب بإتباعها؟.
لابد أننا هنا أمام أزمة وضوح فكري، وعجز عن إدراك حقيقة أحكام الشريعة الإسلامية الغراء فيما يتعلق بالمصالح المرسلة، والمعاملات الاقتصادية، وحتى السفر والإقامة والتعليم حيث نحتاجها وتتوفر لنا، وهذا ما تمثله حضارة الغرب اليوم، وما يعكسه حقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات ودرعه مرهون عند يهودي، وأن اليهود كانوا في المدينة حتى بعد وفاته، وأن ابن فضلان قد ساح في أوروبا وكتب عن رحلته كتب كثيرة، نقل فيها كثيراً من حضارة القوم وقيمهم ومعتقداتهم، بل إن الفكر الفلسفي الإسلامي، وبالذات فكر ابن رشد والفارابي وابن سيناء وغيرهم من فلاسفة الإسلام قد انطلقوا أساساً من الفكر اليوناني لأفلاطون وأرسطو وسقراط وغيرهم من أعمدة الفلسفة اليونانية القديمة.
إن هذا الاتساق في العصور الإسلامية الأولى كان انعكاساً لوضوح القيم الاجتماعية والدينية في أذهان أفراد المجتمع، فلا غبش ولا اختلاط بين حدود إفراد الله بالعبادة، وطبيعة الاستفادة من الفكر الإنساني والمنتجات البشرية من أي بقعة كانت دون خلاف ولا صراع بين حقيقة الإيمان كمحور العبادة للمسلم، وحقيقة التعامل التجاري والفكري والعسكري والسياسي، كمحور للمعاملات ، وبين العبادات والمعاملات لا نجد تلك التداخلات التي يرسف في أغلالها الفكر الإسلامي المعاصر، والذي امتدت آثاره إلى كل المجتمعات ومجتمعنا ليس استثناءاً، بل هو أحد المجتمعات العربية والإسلامية، توجه عقيدته عاطفة مشبوبة، ويسيطر على جسده حقائق الغرائز والحاجات الإنسانية، فلابد للإنسان في أي بقعة على وجه هذه الأرض من تلبية حاجات الطعام والشراب، ويلحق بها اللباس والعلاج، ثم حاجات الأمن، ثم التناسل والتكاثر، ثم الإحساس بالمكانة وعلو القيمة، وهذه موجز الحاجات الإنسانية لم تختص بمسلم، ولم يختص بها كافر، فكل الأنفس البشرية تشترك في أمورها الدنيوية، ولكن القضية تخرج إلى طبيعة الصراع عندما يحتاج الإنسان الغذاء، أو الدواء من شخص يصنفه عقلياً وقيمياً على أنه عدو مسخر له لخدمته دون إدراك أن الغنى عن الشيء لا الغنى به ... هذا وللجميع أطيب تحياتي.
الدكتور/ عبد الله محمد الفوزان
جامعة الملك سعود-كلية الآداب-قسم علم الاجتماع-ص. ب 2456
التعليقات (0)