عفا الله عما مضى. نصف قرن طوارئ. رفعناها عنكم فارفعوا طلباتكم ومظاهراتكم وعودوا إلى بيوتكم امنين. ودعونا امنين . لا غالب ولا مغلوب. رغم دم الشهداء, فالشهيد كريم جاد بروحه ويُسقط حقه المترتب على إهدار دمه. المحكمة العليا لأمن الدولة العليا بعد عقود من الأحكام أذاقت فيها الآلاف الهلاك بأنواعه هي أيضا أُلغيت. أية مكرمة !!. ولكن هل يعيد إلغاؤها "المبكر" الأرواح التي أزهقتها لأصحابها؟, ولمن أمضى زهرة حياته في السجون هل ستعود لهم زهرة الشباب وريعانه بإلغائها؟. هل سيعود قضاتها إلى بيوتهم مرتاحي الضمير بعد انتهاء المهمة؟. هل بقي للقضاء المحني الهامة هامة يمكنه رفعها ؟, وعين تنظر في عين المظلوم لتقول لا تؤاخنا, عفا الله عما مضى؟. لا تؤاخذونا, لقد بدأ الإصلاح.
ولكن كيف ستتحقق معجزة الإصلاح لمجرد رفع حالة الطوارئ وإلغاء المحكمة العليا لأمن الدولة. واستمرار قتل المطالبين به وملاحقتهم واتهامهم بشرفهم ووطنيتهم؟. كيف يمكن تحقيق معجزة الإصلاح بمجرد إقالة محافظ هنا أو رئيس بلدية هناك وحتى تغيير وزارة؟. قد تكون ـ كما يبشر الإعلام الفصيح جدا, الموضوعي, جدا الملتزم جدا بإيصال الحقيقية للشعب, الإعلام الذي يشد الجمهور شدا فينقطع الجمهور ولا ينقطع الإعلام ــ هذه البداية, ولكل شيء بداية. ولكن:
ـ هل يمكن أحداث إصلاح في ظل اتهامات المطالبين به بأنهم عملاء للخارج وخونة و مدسوسون أو إرهابيون أو سلفيون وأصحاب "أجندات"؟. هل كان لحملة مثل هذه الصفات أن يتواجدوا ويتناثروا ويتناسلوا بهذه الأعداد في طول البلاد وعرضها, في ظل حالة الطوارئ, وبوجود الفروع الأمنية التي لا يعرف احد عددها ولا مهامها, إن عرفتها هي نفسها؟. كم ستصبح إذن إعدادهم بعد رفع حالة الطوارئ وتخفيف القبضة الأمنية؟. وكم ستصبح أعداد العملاء والمدسوسين في حالة السماح بعودة المهجرين إلى وطنهم الذي حرموا منه دون وجه حق؟. هل يمكن عندها نجاح أي إصلاح أو انفتاح؟.
ـ هل يمكن, بتخوين الآخرين من المواطنين والإصرار عليه, أن يتسع الوطن الواحد للجميع, ويتعايش فيه جنبا إلى جنب, دون تناقض, مواطن وخائن؟. وهل ستطالهما بالتساوي نعمة الإصلاح؟.
ـ لمن سيكون الإصلاح ومن قبل من؟, هل سيكون باليد الواحدة وبالفكر الواحد والمفهوم الواحد الذي ساد حوالي نصف قرن ووصل ـ وأوصلنا شعبا ووطنا ـ إلى ما نحن فيه والى ما لا نُحسد عليه؟ هل يمكن أن يصدق مثل هذه الإمكانية, باستثناء الإعلام السوري, مواطن راشد واحد؟.
ـ هل يمكن الإصلاح في ظل نظام لا فصل فيه للسلطات؟ وإن أمكن, من يشرف عليه, من يراقبه, من يحميه حاضرا ومستقبلا؟. (بغير الحماية بالأدوات الأمنية السائدة إلى يومنا هذا)
ـ هل ينجح الإصلاح في ظل الدولة الأمنية الصرفة؟, وهل استطاعت هذه الدولة أصلا بعد عقود من "الأمن" أن تحقق امن الوطن والمواطن رغم ما دفعه هذا الأخير بسببها من كرامته وحريته وإنسانيته؟. وبكلمة, هل استطاعت الدولة الأمنية أن تحقيق الأمن والآمان, وفي الوقت نفسه الحرية والكرامة وحقوق الإنسان؟.
هل يمكن بناء دولة عصرية مدنية دولة الحق والقانون دون ديمقراطية واعتماد الآليات الديمقراطية في بناء المؤسسات بحيث يصبح, على سبيل المثال, مجلس الشعب ممثل حقيقي لإرادة وأماني الشعب؟. والحاكم مؤتمن على قضايا وأموال المحكومين؟. والقضاء مستقل نزيه منصف يقف أمامه المتقاضون بالمساواة, فيعود صاحب الحق إلى بيته راض بحكم ارجع له حقه, ويعود من خسر دعواه مقتنع بأنه لم يُظلم لأنه لم يحكم له بحق لا يملكه أصلا؟. ودون رفع القبضة الحديدة للأجهزة الأمنية عن الدولة ومؤسساتها, وكل حركاتها وسكناتها؟
ـ هل يمكن إصلاح بفعل السلطة وحدها, وحزب السلطة, وتنزيله للمواطنين تنزيلا بمنح ومكرمات. ويبقى الشعب متلقي سلبي يأخذ ما يُعطى له مقابل الحمد والشكر والامتنان؟.
ـ هل يمكن أن يجري إصلاح دون حرية أحزاب سياسية وجمعيات مجتمع مدني, ومشاركة فعلية في الإصلاح الموعود وفي إدارة هذا الوطن وترتيب أموره؟.
ـ هل يمكن الإصلاح دون معارضة فعلية تستطيع طرح برامجها التي تُكّمل أو تخالف كليا برامج السلطة, من منطلق أن مصلحة الوطن فوق كل المصالح الفردية والفئوية والحزبية. والكل يتنافس على ما فيه خير للوطن ؟.
هل يمكن إحداث إصلاح بمجرد تغيير وزارة أو وزير هامشه في إدارة وزارته يضيق ليضعه هو نفسه على هامش الوزارة. ويكون أخر من يعلم بما يدور فيها ؟.
ـ هل يمكن حصول إصلاح في ظل الفساد الذي يعترف بوجوده جميع المسؤولين في قمة الدولة ووسطها وقاعدتها, ويراه ويعاني منه المواطنون في كل نواحي حياتهم اليومية وتفصيلاتها؟ ويقر الجميع بضرورة محاربته ويبقى الفساد في ازدياد؟.
ـ هل يمكن إجراء إصلاح دون تغيير الدستور ووضع دستور تساهم في وضعه الإرادة الشعبية الحقيقية, وينص على المبادئ الأساسية من فصل فعلي للسلطات, وتكريس مبدأ التداول على السلطة, بتحديد فترة الرئاسة ومدتها على أن لا تتجاوز الفترتين, حسبما هو جار في كل الدول المتحضرة؟. وينص على الحريات العامة والحقوق الأساسية. وتحديد آليات المراقبة والحماية لأحكامه وأحكام القوانين وعمل السلطات ..؟.
قد يُقال أن هذا كثير على الإصلاح ويقترب جدا من التغيير. فالإصلاح لا يأتي سريعا ودفعة واحدة. وللتأكد من النية والمصداقية والجدية عليكم مراجعة الوعود, والإيمان بما يقوله المسؤولون وينقله بصدق الإعلام. كل ما يُطلب من المواطنين بعض الصبر, فمن صبر نصف قرن يمكن أن يصبر ربعا آخر.
يُقرأ ويُفهم المكتوب من عنوانه. ويربط السياسي المتحذلق من لسانه.
د.هايل نصر
التعليقات (0)