عبد الهادي فنجان الساعدي
نتذكر من ايام العسكرية ان الاوامر العسكرية هي اجراء وتنفيذ .. فما لم يتم الاجراء لا يحصل التنفيذ .. فكلمة (استاعد) وهي من المصطلحات العسكرية التي يبدأ بها الاستعداد لتلقي الاوامر الاخرى . والكلمة بموجب ذلك تنقسم الى قسمين فهي في حالة الاجراء (استا) وما لم تسمع (عد) لا يمكن ان تقوم بالتنفيذ الذي هو القيام بعملية الاستعداد المملة والمتكررة والرتيبة والمحفزة (من ايام اللعنة) .
وعندما نعود للكتابة قرب الخط الساخن .. نعود للكتابة عن المشكلة الابدية والمستعصية .. مشكلة المرأة ، وكأن لا عمل لدينا سوى هذه المشكلة اللعينة .. مشكلة المرأة . علما ان هذه المشكلة في حد ذاتها هي شائكة وعلاقتها بتطور المجتمع اكثر مما هي مشكلة متجسدة ذات ابعاد فردية يمكن حسابها ومعالجتها كحالة فردية .
المشكلة هي مشكلة المرأة ذاتها .. بالرغم من انها مشكلة كل مواطن يعيش في احضان هذه الصحراء المليئة بالنفط والدم والمعادن وكانها تمتد الى الابدية مجسدة عطش الانسان العربي البائس بشكل لا يمكن ان يوصف بالكلمات .. فبين بئر نفطي واخر هناك بئر نفطي اكثر عمقا وتدفقا وغزارة . وبين مقتلة دموية ومقتله .. مقتلة اخرى . وتمتد الصحراء بمعادنها الثمينة ورمالها الصفراء الغنية بالسليكات المعدنية الاف الاميال دون ماء (تصف فقرة في احدى رسائل مس بيل المسافة بين بئر في الطريق الى تدمر وبين مدينة حائل في الصحراء السعودية بانه لا يوجد بئر في هذه المسافة التي تقطع على الجمال لمدة اربعة واربعين يوما).
مشكلة المرأة هي مشكلة المواطن الذي يعيش في بلدان اسفل البحر المتوسط وفي المساحة الممتدة الى شرقه فهو يقرأ لمدة نصف ساعة في كل عام في الحين الذي بدأت عملية القراءة والكتابة في هذه البقعة بالذات وفي بلاد ما بين النهرين بالتحديد . ان هذا التاريخ يمتد الى سبعة الاف سنة حسب الاحصائيات التاريخية . وقد اثبتت الدراسات الاثارية من قبل العلماء والمتخصصين الغربيين ان عملية القراءة والكتابة بدأت في بلاد ما بين النهرين قبل ان تبدا في اية بقعة من بقاع العالم خلافا للادعاءات السابقة وبطريقة علمية بحته وغير متحيزة ولا تشبه الادعاءات العشائرية الفارغة .
عند العودة الى فجر الاسلام نجد ان الخطاب الالهي يبدا بكلمة (اقرأ) فاين هي المرأة العربية التي تذرف الدموع الساخنة على الامام الحسين وعلى فاطمة الزهراء البتول وعلى ابنها هي بالذات عندما يرسب في الامتحان .. وعلى ذكر البتول فانها كانت قارئة من الدرجة الأولى عدا عن كونها ربة بيت لم يسجل لها أي تقصير ولم يشتك منها زوجها الامام علي بن ابي طالب في يوم ما وهي الخطيبة المقنعة في براهينها وطروحاتها وتشهد لها بذلك خطبها في الدفاع عن حقها في (فدك) وعن حق ابن عمها في الخلافة والكثير مما لا نريد الخوض فيه مما يبعدنا عن الهدف في بيان كون هذه المرأة قارئة بشكل مختلف تماما عن معاصراتها وخطيبة مفوهة اثبتت خلال خطبها بانها امرأة عربية لا تختلف عن باقي النساء ولكنها اكتسبت العلم وحولته الى سيف وادلة قاضت بها الكثير من الرجال ممن كانوا يمثلون اعمدة الدولة الاسلامية في بداية تكوينها .
أما مدام كوري فهي طالبة المدرسة البولونية التي كانت تعيش في بيت يتكون من غرفة واحدة هي وعائلتها ولكنها كانت تضع حاجزا نفسيا بينها وبين الموجودين من عائلتها في هذه الغرفة لكي تستوعب ما تقرا .. وقد نجحت بتفوق وحصلت على زمالة دراسية واستطاعت من خلال البحث المكثف والدراسة المضنية ان تكتشف عنصر الراديوم الذي غيَّر من مجرى الاحداث في تاريخ اوربا بغض النظر عن حصولها على جائزة نوبل نتيجة بحوثها وانجازاتها المستمرة .
ومن المشاهد الشخصية هناك ظاهرة في اوربا اذ تلاحظ المرأة في القطارات تقرا في كتاب في الحين الذي تجلس ابنتها بعمر اربع او خمس سنوات الى جانبها وهي تقرا ايضا في مجلة للاطفال وهذا القياس قد لا يكون عاما ولكنه بالتاكيد يؤشر اهتمام المرأة الاوربية بالقراءة بشكل مفرط حتى اثناء السفر او التنقل بالقطارات او المواصلات وهذا احد اسباب القفزات العلمية للبشر الذين يعيشون خارج اسوار الطين .
(أطلب العلم من المهد الى اللحد) (اطلب العلم ولو في الصين) أن هذه الكلمات تتعارض مع الايديولوجيا الفكرية الحديثة والممارسات الساخنة للمرأة التي تعيش في مدن جنوب وشرق المتوسط . فالقراءة ترف للمرأة التي تعيش في هذه المدن .. اما بالنسبة للمرأة التي تعيش في ظل شجيرة صبير في صحراء الوطن العربي الغالي فالقراءة لا يمكن تشبيهها باي شيء .. لانها ليست من ضمن مكونات هذا المجتمع الصحراوي الغارق في عصور العجمة الحضارية .
عندما نعود للماركسية نجد ان الرجل الذي برمج الماركسية بحيث اصبحت (الماركسية اللينينية) واستطاع بواسطتها ان يخرج روسيا القيصرية من حياة القرون الوسطى الى حياة القرن العشرين يقرأ بحدود ثلثي اليوم .. وهو نفسه الذي قال (فلتعم العين التي لم تقرا الام في ليلة واحدة) .. ورواية الام لمكسيم غوركي تتكون من 450 صفحة .. وفي مجال اخر يقول (اعطني خبزا ومسرحا اعطيك شعبا مثقفا) .. من هذا نعرف كيف اصبح هذا الرجل مبرمجا لفلسفة كارثية قلبت الكثير من مفاهيم العالم .
أما في الجانب الراسمالي فالشعوب الاوربية والامريكية تقرا بشكل مهول وما يطبع في شهر يعادل ما يطبع في سنة في انحاء الوطن العربي الكبير .. واما ما يباع في اسبوع في أي معرض من معارض الكتب الاوربية او الامريكية فهو يعادل ما يباع في كل الوطن العربي خلال عام كامل .. اننا بلد الاغاني الحزينة والمظالم والهزائم ونحن نغني اكثر مما نقرا برغم حاجتنا للقراءة اضعاف حاجتنا للبكاء .
لقد اختصت اليابان باستعمار الدول الكبرى وعلى راسها امريكا .. فلقد بدأت بتاسيس فروع لمصانعها في داخل امريكا .. اما في اوربا فقد بدأت بذلك منذ امد بعيد . وحينما نبحث عن الاسباب والعوامل التي اوصلت اليابان الى هذه الصورة المعكوسة (وهي مستعمرة منذ 1945 او محتلة من قبل الامريكان) فهي ان المواطن الياباني يقرأ (144) مرة اكثر من المواطن العربي الشريف .
اين تقف المرأة من حالة الامية الثقافية هذه بعد ان احتلت 25% من مقاعد البرلمان في العراق و 5/1% من مقاعد برلمانات بعض الدول الخليجية المتقدمة و -1% في الكثير من الدول الشرقية التي تمتاز بالدكتاتوريات البائسة .
أن احتلال المرأة لهذه النسب وعلى راسها نسبة 25% لا يعني انها اجتازت حاجز التخلف وبدات بالعد الى الامام في مسيرة الكفاح البطولي ضد تسلط الرجل .. انها الان تقف اكثر من السابق في طوابير الوقود ورعب القرون الوسطى والاغتيالات الطائفية والدينية . وبالرغم من كل ذلك فما تزال المشكلة هي مشكلة المرأة ذاتها بالرغم من انها جزء من هذا النسيج المتخلف .. نسيج المجتمع الذي يصر على ان يمارس التخلف بجدارة .. فهو ما زال يفضل المعرفة على الكفاءة والنزاهة اما المرأة فما زالت بعيدة عن حل مشكلتها الاساسية التي يمكن حلها في ثلاث كلمات (القراءة .. القراءة .. القراءة) . لان القراءة اجراء .. والاجراء بحاجة الى التنفيذ .
التعليقات (0)