مواضيع اليوم

العنف والفقر متلازمان

عمادالدين رائف

2009-02-09 17:54:56

0

 

لا تقتصر ثقافة العنف على شعوب دون اخرى، لان العنف لا يرتبط بالجنس او الجنسية او العرق او الدين، بل هو سلوك انساني  لازم الانسان على مر العصور، باعتباره  واحدا من المكونات "الميكانزماتية" النفسية للبشر.

ويرى بعض علماء النفس وخصوصا من مدرسة التحليل النفسي ان العنف هو نوعا من ردة الفعل الطبيعية، ومتصل بالغرائز الدنيا للانسان، لذى نرى بعض مؤشراته لدى الاطفال قبل بلوغهم السنة الاولى من اعمارهم.

فيما يعتبره بعض علماء الاجتماع بانه ظاهرة اجتماعية تظهر على شكل ردود افعال تنتج عن انفعالات معينة تؤدي الى الحاق الاذى بالاخرين لتحقيق مصالح معنوية او مادية.

ومع ان للعنف جوانب ايجابية كما يقول بعض علماء الاجتماع ويشاركهم في ذلك بعض علماء النفس في حالة الدفاع عن النفس بدافع الاضطرار والاجبار، او العنف الذي يدفع البعض الى المنافسة في ميادين الحياة، والى تجاوز ضعفه،الا ان الشائع في تعريف العنف يؤكد انه سلوك سلبي بدائي وحشي ترفضه القيم الانسانية المعاصرة خصوصا عندما يتحول الى ظاهرة مرضية ويصبح هو الاسلوب السائد في سلوكيات البشر.

ويرى خبراء علم النفس والاجتماع ان نمو السلوك العنفي " العنف البدني او الجنسي او النفسي" عند الفرد مرتبط اشد الارتباط بالمنظومة القانونية والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. ومن افدح مخاطره انه يعرقل عملية التنمية والبناء الحضاري للمجتمعات.

وتتعدد مظاهر العنف من الاشكال القمعية اللفظية الى العنف الجسدي والبدني والجنسي، والغلو والتطرف باستخدام القوة لالغاء الغير وتدميره، وفي اعلى حالاته واخطرها يتحول الى ارهاب مدمر.

واذا كانت البيئة الحاضنة والمغذية لانتشار العنف مرتبطة بمنظومة كاملة كما اشرنا اعلاه فانه لا بد وان يزداد السلوك العنفي كلما كانت هذه المنظومة اكثر تخلفا.

ومما لا شك فيه انه كلما كانت المجتمعات اكثر فقرا، كلما كانت منظومتها " القانونية والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية" اكثر تخلفا والنتيجة المنطقية ان يكون العنف في هذه المجتمعات اكثر ازدهارا.

فيكاد الفقر ان يكون مرتبطا بوشائج وثيقة مع العنف، لانه في ظل الفقر لا تستطيع المجتمعات ان توفر المقومات البنيوية للبناء النفسي المسالم، الذي يؤمن بمبدأ سيادة القانون، وبمباديء المساواة والديمقراطية، فالاسرة الفقيرة وهي المجموعة الاولى الاساسية في تكوين المنظومة الفكرة للفرد لا تستطيع ان توفر المناخ النفسي الملائم لاشاعة مناخ مناهض للعنف وهي بالكاد تستطيع توفير الطعام او الكساء او المسكن الملائم او الامن النفسي والامن الاجتماعي.

ولذلك ترى انتشار العنف في اوساط الفقراء اكثر بما لا يقاس منه في اوساط الاثرياء، فالعنف الاسري شائع في اوساط الفقراء مثل ضرب الزوجة والاولاد، حتى عنف الابناء تجاه ذويهم، وضد بعضهم البعض، بالاضافة الى عنف الاطفال ضد بعضهم في الحواري وساحات المدارس والطرقات، وتتم ممارسة العنف فورية ومباشرة عند الاختلاف او لدى الشعور باي نوع من الاهانة حتى لو كانت شكلية وبسيطة. ونجد التباهي بالقوة الجسدية والتباهي بالقدرة على الضرب والتغني بضرب فلان او علان. او التهديد بممارسة العنف باشكالة للمعارضين والمخالفين لهم بالراي  او للحصول او استرداد ما يعتبروه حق لهم.

فثقافة القوة والعنف هي السائدة لدى غالبية الطبقات الفقيرة في كل مكان ودون تمييز بين شعب واخر.

ففي كافة المدن الرئيسية في الولايات المتحدة مثلا غالبا ما يكون القسم الشرقي منها موطنا للعنف والجريمة والمخدرات، لان القسم الشرقي يقطنه فقراء المدينة وغالبيتهم من السود من ذوي الاصول اللاتينية، وكذا الامر في العواصم الاوروبية حيث تعج الاحياء الفقيرة بكل انواع العنف الجسدي والجنسي والبدني، والجريمة بانواعها.

وفي بلادنا العربية يزدهر العنف في احزمة الفقر المحيطة بالعواصم العربية، وتشير الدراسات الاجتماعية التي بحثت في الحالات الاجتماعية للمساجين في بعض السجون العربية ان معظمهم من سكان احزمة الفقر والمناطق الفقيرة.

وخلال فترة اقامتي التي استمرت سنة بافريقيا شاهدت بشكل مباشر تجسيد السلوك العنفي البدائي عند البشر، وفيما يلي بعض النماذج:

في وسط  دار السلام عاصمة تنزانيا  شاهدت عشرات من الرجال يضربن شابا بكل ما وصلت ايديهم اليه، وكانت تنهال عليه الحجارة والزجاجات الفارغة وقطع من صناديق خشبية، فيما يضربه اخرون بقضبان حديدية، وعصي خشبية، والدم يسيل من فمه وانفه وراسه، وكلما حاول النهوض لعله يجد فرصة للهرب تضربه الجموع فيسقط ثانية على الارض، فيما كان بعض رجال الشرطة يقفون متفرجين على احد الارصفة.

ولما قلت لمرافقي التانزاني لماذا لا تتدخل الشرطة لوقف هذه الوحشية فالشاب اشرف على الموت، قال انه لص والعرف السائد انه اذا قام احدا بالسرقة فان الناس تقوم بقتله بهذه الطريقة الوحشية.

وفي مرة كنت في قرية صغيرة وسط الادغال مع مرافقي (دليل)  والسائق فاشتريت "فول سوداني" محمص للتو يدويا وكانت رائحته لذيذة، وبعد ان قطعنا مسافة قصيرة ولان الطريق ليست ممهدة، وكانت السيارة تهتز بعنف ، فقد علقت قطعة من الفول في حلقي وسدت جهاز التنفس، وكدت ان اختنق لولا انني وبسلوك لا ارادي اجبرت نفسي على التقيوء فيما تجمد السائق والمرافق ولم يقدما أي مساعدة.

وبعد ان وصلت الى المدينة سالت المرافق لماذا لم تساعدني عندما كنت على وشك الاختناق.. فقال ان السائق طلب مني الا اساعدك،  وقال اتركه يموت فنأخذ المال الذي معه.ولا داعي لاستكمال باقي القصة.

وفي حادثة ثالثة حصلت فصولها في مومباي الهندية، حيث كنت وصديق متجهان سيرا على الاقدام الى شارع تجاري شهير، وفجأة ظهر شخصان كل منهما وضع سكين في ظهرينا واجبرانا على الدخول في شارع فرعي، واستلبا ما معنا من فلوس.

وبنفس الطريقة (بالتهديد بالمطوة) تعرض زميلي حسن ملاك الى السرقة في الدار البيضاء وكنا نسير امامه ببضعة خطوات، ولم نسمع له صوتا حتى سرق اللصوص حافظته وهربوا.

وفي نيويورك في شارع "فلات بوش" وهو احد اهم شوارع شرق بروكلين، وامام عيني وكنت اقف وصديقي علي الصوص اما احد محلاته اطلق شاب اسود النار على شاب اخر وارداه قتيلا على الفور.

وفي دبي شاهدت شخصا كان ضمن مجموعة شاركت بمؤتمر نظمه اتحاد البورصات العربية يطفيء سيجارته بمرتبة السرير، وعندما استغربت فعلته قال " انهم لصوص اخدوا مني 120 دولار في الليلة".

ربما هذه الحوادث لا قيمة لها امام ملايين الاحداث التي تحدث يوميا في اركان الارض الاربعة، وميزتها فقط انني كنت شاهدا عليها.

لكن هذا العنف يمكن اعتباره نوعا من الرفاهية عندما تشاهد قطع الرؤوس بالسيف  في العراق او اطلاق النار على الرؤوس من الخلف، او تفجير سيارة مفخخة وسط سوق بين المدنيين الابرياء، او تفجير مسجد او منزل او بناية تضم مؤسسات تجارية، او تفجير شارع مخصص لبيع الكتب.

فالعنف كله واحد وانما تختلف درجاته، ومنبعه واحد مهما تنوعت اشكاله، وهو يزدهر مع الفقر والجهل. وبالتالي فان مواجهة العنف تتطلب مواجهة اسبابه، ومسبباته. واعتقد انه لا يمكن ابدا مواجهة العنف بالعنف، بل ان العنف الرسمي للحكومات والمؤسسات الامنية في الدول والمجتمعات يولد المزيد من العنف والتطرف، حيث ان العنف ظاهرة مركبة وذات ابعاد ومستويات مختلفة، ما بين البعد النفسي وعلاقته بالبعد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

فعندما تفتقر المجتمعات الفقيرة الى المؤسسات الاجتماعية المتخصصة في التوجيه وبناء الفرد والمجتمع .. يزدهر العنف، وعندما تفتقر الاسرة لابسط مقومات الحياة السوية بسبب الفقر، فكيف يمكن لها ان تنشيء ابنائها تنشئة مسالمة بحيث يتحكم الفرد بانفعالاته والسيطرة على غضبه بشكل ايجابي..؟، وكيف يمكن للفرد في هذه الاسرة الا يكون عنيفا..؟  وعندما تعجز دور العلم عن ضبط السلوك العنفي عند التلاميذ، وتفتقد لدورها التربوي الاجتماعي فان من المنطقي ان يسود السلوك العنفي في المجتمع.

وعندما تفتقد المناطق الفقيرة الى النوادي والمؤسسات الرياضية، ليفرغ فيها الشباب الفقير طاقته وعنفوانه وعنفه فان من المنطقي ان يمارس الشباب عنفهم في مجالات اخرى.

وعندما يكون غالبية الفقراء لا يجدون فرصا للعمل، ولا يجدون أي مجال لقضاء اوقات فراغهم بشكل ايجابي فكيف لا يكونوا فريسة لدعاة العنف من كل الاشكال.

وعندما تجد الاسر الفقيرة وبناء على الموروث الديني ان المزيد من الاستغراق في الايمان بالقضاء والقدر، بما يعنيه عدم سيطرة الانسان على افعاله هو القانون المنظم لحياة البشر، فان من المنطقي ان يجد الفقراء بالتيارات والاحزاب الاسلامية ملجأ يحقق من خلاله التوازن النفسي مع مجموعة يتفق معها بالمعاناة وبطريقة الهرب من مآسيها.

وقد شكلت المجتمعات الفقيرة وعلى مر التاريخ الخزان البشري الذي يمد المؤسسات التي تقوم على العنف بمختلف اشكاله، فالجيوش مثلا وعلى مر العصور تكونت من الفقراء، وما زالت حتى اللحظة حتى فالولايات المتحدة معظم جيشها من الولايات الفقيرة الجنوبية والوسطى، وغني عن البيان مما تتكون منه الجيوش العربية.

ومن المعروف ان الفقراء عادة ما يكونوا وقودا للحروب والثورات والانتفاضات والانقلابات وكل انواع واشكال العنف.

وما زال الفقراء حتى يومنا هذا وسوف يبقون يوفرون المدد للتيارات العنفية، التي لا تؤمن سوى بالعنف طريقا ووسيلة لتحقيق الاهداف.

وبالتالي فان مواجهة الفقر أي بمعنى اخر توفير برامج للتنمية الاقتصادية المستدامة، بما يحقق النمو والازدهار للمجتمعات سوف يؤدي الى محاصرة واضعاف الحركات والمؤسسات والقوى وتيارات العنف، ويعظم من الاساليب اللاعنفية في تحقيق امال الشعوب.

ولا داعي للذهاب بعيدا في توضح النتائج التي تترتب على الازدهار الاقتصادي فكريا وثقافيا وعلميا واجتماعيا وسلوك الافراد والمجتمع بشكل عام .

لكن ومهما ازدهرت اقتصاديات الدول فهل سيؤدي ذلك الى الغاء احزمة الفقر ..؟ الجواب قطعا لا ،  فالقضاء على الفقر وتحقيق العدالة والمساواة الاقتصادية والاجتماعية هو هدف وغاية البشرية منذ الازل ، وسوف تواصل نضالها حتى تحققه يوما .

والى ان يتحقق هذا الهدف يجب المضي ما امكن في الدعوة لتتحفيز الاقتصاد، والتنمية الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي للمجتمع ففي ذلك تجفيفا لجزء من منابع العنف والتطرف والاصولية بكل انواعها.

 

ابراهيم علاء الدين

alaeddinibrahim@yahoo.com

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !