لم يكن كل ما قالته حقيقياً .. لكنني تركتها تفسر لي "من أكون" بعفوية هادئة .. فتكلمت عن تحولاتي الصغيرة التي كبرت ونمت في أعماقي إلى درجة أنني أصبحت بهذا العمر بعيداً عن سلوكيات ومفاهيم بسيطة جداً يمارسها الآخرون في المجتمع.
تلك الأشياء البسيطة والعادية والتي أراها وأشعر بأنها معقدة، لم أتوقع أنها نتيجة حالة نفسية أو ارتداد نفسي حصل معي نتيجة إحساس لحظي مسني في طفولتي.
دعتني صديقتي لأتذكر كيف كانت طفولتي، حدثتها عن أشياء كثيرة وأحاسيس وملاحظات على هامش تلك الطفولة.
شعرت أثناء حديثي بأني لا أتذكر سوى طفولتي، وأن هناك الكثير من السنوات والمساحات الزمنية ضائعة أو فقدتها في أزمة الحياة وحركتها.
سيغموند فرويد طبيب الأعصاب النمساوي الذي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس، كان المتحدث الرئيسي بصوت صديقتي وهي تتحدث عن تحولات النفس والجسد، أعجبت بمعلوماتها، لكنني بقيت وحيداً مع الشرح الذي طرحته بطريقة لغوية واضحة وبسيطة يستوعبها أي عقل.
صديقتي الفرويدية، أو صديقتي التي تلاقت بحكايات سرية مع "الموت"، ربما كانت حكايات مخفية عن "الدهشة" أو مقاومة نوع من المشاعر التي لا تصيب عادة أحد، ربما هي من النادرين الذين حولت الشعور بالموت إلى أشكال وأحاسيس "رومانطيقية هادئة" ممزوجة بتفاصيل لم تعد مهمة لديها بعد ذلك.
لقد استوعبت فكرة اللوحة التي تحكي إمكانية أن تقرأ في عقارب الساعة متى ستجلس امرأة تمثل الحياة على مقعد مخملي، ومتى تستعد للرحيل عن الجلوس بعد أن ينتهي الرسام من تفاصيل وجهها وجسدها وفستانها ذو الألوان والطبقات الغريبة، عندها لا أعرف معنى النظرة للوجود، هل بدأت تلك المرأة بالنهوض استعداداً للرحيل، أم أنها ستخرج من إطار اللوحة فتمد يدها لمصافحتي، وأمضي معها.
تلك المرأة، أو هذه اللوحة، هل هي الحياة أو الموت؟، أم خداع بصري في عقارب ساعة؟، هل هي صمت أم ضجيج؟، هل هي حالة برزخية حقيقية لا يمكن تفسيرها، حتى من خلال فرويد نفسه، لأن لا أحد يعلم يقيناً عن تلك الحياة سوى هؤلاء الذين رحلوا وتركوا بعض آثارهم التي قد تشغل حيزاً في قلب أحدهم.
صديقتي الحقيقية جداً حتى الثمالة، وهبتني عالماً لا يشبهه أحد، وربما لا يقدر له أحد، حتى فرويد ذاته، إنها سيدة اللوحة التي تجلس على الأريكة وتغادرها، تصطحبني معها خارج كل الأطر الخشبية.
كنت سعيداً جداً، لقد أرجعتني إلى نفسي بقوة، وبارتداد سكوني هادئ، وأعتقد أنها تعرف بأني ما زلت أفقد الإحساس بالحركة ... كوني تركت عند أول الطفولة دفتراً صغيراً تحتوي آخر صفحة فيه على كلمة واحدة فقط .. "العناصر" ...
التعليقات (0)