لطالما تمنيت بشدة أي عمل من شأنه أن يدق المسمار الأخير في نعش نظام مبارك الذي ترهل بشدة في السنوات الأخيرة. كان إسقاط النظام حلماً راود كل مصري حر وشريف. كانت مصر تسير من السيء إلى الأسوأ. كانت علامات الفقر تزداد في الوقت الذي كان القليلون من أصحاب السطوة المقربين من النظام يغتنون ويكنزون الثروات. كانت الخدمات تنعدم أو تتدهور بشكل خطير. كان مستوى التعليم ينذر بكارثة كبرى تنتظر مصر. كان الفساد ينتشر كالنار في الهشيم. كان التطرف ينخر في عمود مصر الفقري. كان الإرهاب يهدد وحدة مصر الوطنية. كانت مصر على وشك التحلل والانهيار.
كانت الثورة أمراً مستبعداً حتى سنوات قليلة. كانت هناك حالة خوف عامة من قسوة واستبداد ويطش قوات أمن النظام التي لا تعرف الرحمة. حتى تاريخ قريب لم يكن المصريون يريدون اختبار قوة النظام. كانت مظاهرات النخبة المثقفة تخرج في بعض الأحيان على استحياء للإعراب عن غضبها من أسلوب إدارة مبارك للبلاد. كان تشكيل حركة "كفاية" عام 2004 علامة فاصلة في تاريخ المعارضة المصرية، غير أن الحركة لم تكن تمتلك الزخم اللازم لتحدي النظام. لم تسع الحركة لمواجهة النظام فاكتفت بإعلان معارضتها لمبارك ورفضها التوريث. لم تنجح "كفاية" طوال السنوات الماضية في وقف عجلة التوريث التي كانت تسير بسرعة تأهباً لرحيل الرئيس المسن، ولكن يحسب لها أنها ساعدت في خلق مناخ معارض جديد تشكلت فيه جهات معارضة جديدة مثل "الجبهة الوطنية للتغير" وحركة "كلنا خالد سعيد" وحركة "6 أبريل" وغيرها.
ولكن الأمور تغيرت في السنة الأخيرة من نظام مبارك. أظهر المصريون شجاعة كبيرة في مواجهة النظام. إزداد عدد المظاهرات وارتفعت وتيرتها وانضم لها الكثيرون من المصريين. غير أن الحدث الأهم الذي شكل تحدياً كبيراً للنظام وأعتبره شخصياً بمثابة الشرارة الأولى لثورة 25 يناير. جاء الحدث في نوفمبر الماضي وشهدته منظقة العمرانية بمحافظة الجيزة حيث اندلعت فيها مظاهرات حاشدة قام بها الشباب المسيحي اعتراضاً على ظلم النظام ورفضه السماح ببناء كنيسة لهم. كانت المظاهرات غير مسبوقة في طبيعتها وأسلوبها، إذ لم يحدث من قبل أن اشتبكت مسيحيون مع قوات الأمن. كان من الواضح أن المسيحيين فاض بهم الكيل ولم يعودوا يستطيعون قبول ظلم النظام لهم.
لعدة أيام لم تستطع أجهزة أمن مبارك أن تتعامل مع الأمر، إذ شكّل عدد لا يتجاوز بضعة ألاف من المتظاهرين الشباب المسيحيين معضلة كبيرة للنظام الحاكم لم يعرف أسلوباً لحلها سوى إطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والزج بعدد كبير منهم في السجون. ومنذ ذلك الحين أحسست بأن ثورة شعبية سيكون باستطاعتها إسقاط النظام.
أوضح تحدي المتظاهرين الشباب المسيحيين في العمرانية للنظام هشاشة النظام وضعفه وعدم قدرته على أية مواجهة شعبية. لم تستطع أجهزة الأمن أن توقف المظاهرات رغم استخدامها الذخيرة الحية، وبالمثل لم يستطع النظام أن يستوعب أو يهديء من روع المتظاهرين. بلغ الغضب عندها عنان السماء وظهر النظام عاجزاً تماماً أمام المتظاهرين المتسلحين بالحق. ولم تكد تمر أسابيع قليلة على تظاهرات الشباب المسيحي المحدودة حتى كان الشباب المصري بمسلميه ومسيحييه ينزل إلى الشارع لإسقاط نظام مبارك. كانت الأعداد التي شاركت في تظاهرات ثورة 25 يناير تفوق بكثير قدرة قوات أمن النظام على التعامل معها. ولأن مبارك كعادته فض يديه من المطالب السياسية المشروعة للشباب وأوكل قوات أمنه مهمة التعاطي مع التظاهرات فقد سقط نظامه في أول اختبار حقيقي له.
من المؤكد أن هناك صلة بين ما تظاهرات الشباب المسيحيين في العمرانية والثورة التي أسقطت النظام. أولاً كان المتظاهرون في الحدثين من الشباب. ثانياً كان رفض الظلم والتطلع للحرية عاملان مشتركان في الحدثين. لقد ثار الشباب المسيحي في العمرانية لأن النظام الحاكم تعنت في قبول طلبهم ببناء دور عبادة لهم، بينما ثارت جموع الشباب المصري من المسلمين والمسيحيين على السواء في كافة أنحاء مصر لأن الظام تعنت في قبول طلباتهم بالإصلاح السياسي والديمقراطية وإلغاء نتائج انتخابات مجلس الشعب المزورة. الطلبات تلتقي كلها حول هدف واحد وهو الحرية.
إن تظاهرات شباب العمرانية حملت اهدافاً نبيلة جداً، تماماً كتلك التي جاءت بها ثورة الشباب المصري في 25 يناير. كان الفاصل الزمني بين تظاهرات العمرانية والثورة المصرية قصيراً جداً ولذا فإنني لست أبالغ إذا قلت بأن العمرانية ربما كانت مصدر الإلهام أو الشرارة الأولى التي اندلعت منها الثورة. لقد حان الأن الوقت لاعتبار تظاهرات العمرانية جزءاً من ثورة الشعب المصري المطالبة بالحرية ولاعتبار شهداء العمرانية شهداءً للثورة المصرية. نعم حان الوقت لإعادة الاعتبار لمسيحيي العمرانية الذين تعرضوا لأبشع أنواع التعنت من قبل النظام وأدواته الأمنية والتنفيذية والإعلامية. لقد اتهم النظام المسيحيين منذ تاريخ مظاهرات العمرانية بالتمرد على الدولة والتعرض لقوات الأمن وعدم الالتزام بالقواعد والقوانين. وكم كان من المؤسف أن رجالأ محسوبين على المعارضة التي شاركت في الثورة أيدوا اتهامات النظام للمسيحيين. والأن وإذ تغلق مصر صفحة قديمة من تاريخها وتفتح صفحة جديدة أرجو الأن أن يتم رد لثورة شباب المعمرانية وكذا لشهداء العمرانية الأبرار شهداء حرية العقيدة.
التعليقات (0)