مواضيع اليوم

العمال والمحافظون

شيرين سباهي الطائي

2010-03-12 17:30:20

0

في أقطاب الأحزاب السياسيّة ببريطانيا يتربّع هذان اللفظان كفَرَسي رهان منذ زمنٍ بعيد ورغمَ أنّ هذا الأمر ليس بقريبٍ جدّاً ممّا أفكّرُ فيه وأنا أكتبُ هذا الكلام إلا أنّ للألفاظ مدلولات تفرِضُ نفسَها بسبب تعوّد الأذن عليها طيلةَ عقودٍ طويلة،وللمدلولات تأثيرٌ كبير على التصوّرات ولو كانت بعيدةً عن المقصود ..

سَكَنْتُ منذُ سنةٍ ونصف تقريباً بحيٍّ بمدينة "ينبع البحر" يغلبُ على سكّانه العمالة الوافدة من خارج البلاد بحيثُ يستأجرُ هؤلاء مبان قديمة هجَرَها أهلوها لصالح أحياءٍ جديدة اتّسَعَتْ بها رقعة المدن وتطلّبَتْها الحياةُ العصريّة،وأضحى الاستثمارُ في تأجير هذه البيوتات على شكلِ "عُزَبٍ" منفصلة الاستحقاق مشركة المنافع على هؤلاء العمال أمراً شائعاً وذا دخلٍ كبير لمن يهوى المكسب المُريح ..

ومَثَّلَ انتقالي من السكن بمدينة "ينبع الصناعيّة" ذات الحياة النّمطية المنظّمة إلى السكن في أحياءِ العُمال هذه مجالاً كبيراً لي أن أفكّرَ في حياةٍ أعمَق تربط الإنسان بأخيه الإنسان بعيداً عن الفوارق اللغويّة أو المادّية أو الاجتماعية الباهتة،وعَهِدْتُ إلى نفسي أن لا أدَعَ فُرصةً تفوتُ وأنا أُمارسُ حياتي الطبيعيّة في هذه الأجواء إلا وأستغلُّها في إعادة تثبيتِ ما اهتزّ من اعتقاداتي وأنا أعيشُ بين أفراد مجتمعٍ صناعيّ صنَعتْهُ المادّيات وتخلّى عن الرّوحانيّات ..

في هذه النّوعيّة من الأحياء "عُمّالٌ ومُحافظون" ولكلّ منهما ما يميّزه عن الآخر إذا نظَرَ الإنسان للاختلافات الدّقيقة بين كلّ شخص وآخر وهو يُلقي السلامَ على من يمرُّ به أو يبتاعُ أرغفةً خُبز من "بقالة" الحيّ ويُزاحمه عليها نفرٌ من المواطنين وجمعٌ من الوافدين،ولا مجالَ أبداً لأن تغيبَ هذه العلاماتُ الفارقة عن إدراك الواعي إلا إذا كانَت العلاقات الاجتماعيّة لا تعني لهُ شيئاً أصلاً ..

يُكرّرُ مجتمعنا دوماً في كلّ ميادين الحياة بأنّه مجتمعٌ "مُحافِظ" ويستخدمُ هذا اللفظ للبراءِة من أيّ ذنبٍ أو عيبٍ أو أمراض تعلَقُ بالمجتمعات،ويُعلّقُ على شمّاعةِ "العُمال" دوماً كلّ مظاهر الفساد والجريمة والتحلّل الخُلقي مهما كانتْ الظروف،ويدّعي كثيرٌ من أفراد مجتمعنا بأنّ أيّ ألمٍ يصيبُنا أو خسارة تقعُ فينا أو ظاهرة سيئة تجتاحُنا لها ارتباطٌ وثيقٌ "بالعُمال" من قريبٍ أو بعيدٍ وليسَ للمجتمع دورٌ فيها سوى أنّه سمَحَ "للُعمال" بأن يختلطوا "بالمُحافظين" ..

لا تنفي الدراساتُ الاجتماعيّة بأنّ الخُلطَة فيها من السلبيات ما سوّغَ للنرجسيّين بأن يرموا بالشّرر تجاه الضّعفاء ويُلقوا باللائمة على من لا حيلةَ له،ولكنّ مجتمع "العُمال" الذي خالطتُه طيلةَ سنة ونصف ليس على حدّ سواء من الأوصاف التي يصفُ بها الأكثريّة هذه الفئة التي تكسبُ حلالاً ـ فيما أظنّ ـ وليست متماثلة ومتطابقة في شرائحها الداخلية التكوينيّة كما يحسب بعضنا ..

وجدتُ في اختلاف جنسيات الوافدين الذين يسكنون "عُزاباً" دون زوجات أو إناثٍ كثيراً من الاجتماعيات الجميلة التي نفتقدها ونحنُ نحشُرُ في منازلنا زوجاتٍ وبناتٍ وأولادٍ وأخواتٍ وآباء وأمّهات،ولقيتُ في "عمال" منطقتي التي أسكنُها قلوباً رحيمةً ونفوساً زكيّة وأخلاقاً رائعةً لم أعثر عليها في منطقةٍ كنتُ أسكنها وهي تضمّ عائلاتٍ لهم قصورٌ فارهة وسيّارتٌ ثمينة وذوو قربى في كلّ مكان وأوضاعٌ اجتماعيّة طيّبة ووظائف رسميّة مرموقة ومكانة ماليّة عالية الاستقرار ..

يبدأ يومُ "العُمال" بابتسامةٍ صباحيّة تبحثُ عن الرّزق في وجوه المارّة والمعارف وأرباب العمل،ويبدأ يومُ "المُحافظين" بعبوسٍ وتقطيبِ جبينٍ في وجوه الناس والجيران وخلق الله وكأنّهم يبحثونَ عن تُهمةٍ يُلصقونها بمن ينظُرُ إليهم،ويسعى "العُمال" لأنْ تكونَ صلاةُ الفجر فاتحةُ يومهم فيمتلئُ بهم جامعُ الحيّ وينامُ أكثر "المحافظين" عن صلاةٍ هي أمّ الصلوات ولو حضروها لرأيتَ الضّيقَ في تصرّفاتهم متضجّرين أن بالمسجد جنسيّة غيرهم ..

لا ينظُرُ "العمال" للنساء نظرةَ خُبثٍ ولا تحرّش مهما كانت نفسُ العامل أو بيئته التي قدِمَ منها في الحيّ الذي أسكنُه،بل إنهم يوسعونَ الطريق لهنّ ويدخلونَ إلى منازلهم لو رأوا امرأةً قادمةً من بعيد في منظرٍ عجيب كأنّ "نملةَ" سليمان عليه السلام قالت لهم "ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم المجتمع وجنوده وهم قادرون" بينما يؤمنُ "المحافظون" بالنظرة الأولى ويقتنعون بأنّ "العيْن بحر" وأن لا قيودَ على النّظر وأنّ الحجابَ كفيلٌ بكفّ رصاص العيون وأنّ الذي يُخرجُ المرأة من منزلها هو من يتحمّلُ وزرَ الشارع ومشاكله وأمثلُهم طريقةً من ينظُرُ من طرْفٍ خفِيّ ..

وهنا عرَفتُ بأنّ "العمل" البدني والجُهد الكبير والعرَق المبذول الذي يطغى على طبيعة عَيْشِ هؤلاء "العمال" جعلَهم حريصين على أن لا تكونَ لنزواتِ نفوسهم ورغبات طبائعم علاقةٌ بما جاءوا من أجله لهذه البلاد وهو العمل والحصول على مقابلٍ مادّي يبنونَ به حياةً كريمةً في بلادهم،وتيقّنتُ بأنّ "الروتين" و "الرّتابَة" وفقدان الشهيّة للحِراك الاجتماعي الذي يعاني منه "المحافظون" هو السبب وراء نظرتِهم الدونيّة لمن سخّرَهم الله لهم يخدمونهم ويعينونهم ..

وأيّاً كانَ الداعي لمثل هذه الصفات يبدو أنّ "العمال" أكثرُ حظّاً في الاستقرار العاطفي والصحّة النفسيّة والتديّن الطبيعي من "المُحافظين" الذين شغَلوا عقولهم وأفكارهم بمواجهة حروبٍ وهميّة متناسينَ حروباً حقيقيّة يشنُّها عليهم أبناؤهم وبناتهم يوميّاً،ويبدو أيضاً بأنّ "المحافظين" أكثرُ عرضةً للأمراض المزمنة والوبائيّات العالميّة والنوبات القلبيّة من "العُمال" الذين لا يراجعون المراكز الطبية غالباً إلا لعلاج إصابات عملٍ هي من طبيعة الحرفة والمهنة ..

يحبُّ "العُمال" أوطانهم وبلادهم وهم في بلاد الغربة وترى أثرَ ذلك واضحاً على تصرّفاتهم وهتافاتهم لمنتخبِ بلادهم في الرياضة ولبني جلدتهم إن احتاجَ لمساعدةٍ أو عونٍ ولقناةِ بلدهم الفضائيّة في كلّ مكانٍ يسكنونه أو يعملون فيه،بل وترى بكاءهم ودموعهم وهم يحدّثون أهليهم وذويهم في الهاتف وهم يودّعون زملاءَ لهم سيسبقونهم للعودة إلى بلادهم ..

وفي "المحافظين" غلظةُ قلبٍ وبرودة طبْعٍ وسلبيّة تصرّف تجعلُكَ تشكُّ في انتماء الواحد منهم لوطنه الذي يعيش فيه ويأكلُ من خيره ولا يعرفُ غيرَه،والغريبُ بأنّ هؤلاء "المحافظين" هم أكثرُ الناس استفادة مادّية واقتصاديّة من "العمال" الذين يعملون تحتَ كفالتهم وفي مؤسّساتهم وشركاتهم ويأتمرون بأمرهم ويخافونَ من بطشهم وظلمهم وحيفهم ..

أظنّ بأنّ "العمال" حافظوا على الاسم والمُسمى فهم يعملون وعملهم واضحٌ في طريقة تعاملهم،وأظنّ بأنّ "المُحافظين" حافظوا على الاسم وتخلّوا عن المسمى فهم محافظونَ على تحفّظهم من العمال تاركونَ لمحافظتهم على التعامل السويّ،فلن أستغربَ بعدَ اليوم استغلالَ الكثير من السياسيّين للهتاف بحقوق "العمال" وادّعاء بأنّه نصيرهم،ليس لأنهم كادحون في الأرض ولا لأنّهم يأخذون أجرَ جهد بدني بل لأنّ في تعهّداتهم "وفاء" وفي جوارهم "أمان" وفي تعاملهم "حبّ" وهم كذلك ..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات