ان افضل تعريف للعلمانية من وجهة نظري هي ـ اللا اتجاه ـ فالعلمانية هي الوقوف على مسافة متساوية من جميع الاتجاهات، ولكن بعض العرب يصفها بانها تطرف بالاتجاه المعاكس، اي اليساري، وهم يقدمون تعرفيهم هذا، بسبب وقوف العلمانية موقف المتشدد امام الحركات الدينية المتطرفة.
لقد برز في عالمنا الحديث الكثير من المفاهيم الراقية، التي لا يستطيع الفكر المعتدل انكارها او التنصل منها، ومن هذه المفاهيم على سبيل المثال مفهوم اللاعنصرية، ومفهوم الحرية العقائدية، ومفهوم حرية الرأي، وغيرها من المفاهيم الرائعة، التي لا تستطيع بعض الحركات المتعصبة ان تستوعبها. ان تطبيق هذه المفاهيم الجديدة اصبح من الضرورات الملحة، فلا تستطيع على سبيل المثال اقامة الحد على شخص اختار ان يبدل دينه بآخر بمحض ارادته، حتى لو كان ذلك الحد هو احد الواجبات الدينية، يجب ان يتنازل اصحاب الاديان عن هكذا اشياء تتعارض مع حرية الاخرين. وهذا ما تدعو له العلمانية، فهل هذا تطرف؟
الهولوكوست والعلمانية
ياتي احدهم ويقول، ان انكار المحرقة اليهودية في بعض دول اوربا جريمة يعاقب عليها القانون، اما سب الاديان فلا يعتبر جريمة، فهل هذه العلمانية التي تنادون لها؟ للاجابة على هذا السؤال يجب ان نعرف حقائق معينية، ومنها ان معظم الدول التي تجرم انكار المحرقة هي دول حدثت على اراضيها محارق، ولشعور هذه الدول بالذنب والعار تجاه ذلك، سنت قوانينا بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومن ضمن هذه القوانين، قانون تجريم انكار المحرقة والتشكيك بوجودها، لمناقشة هذه الظاهرة علينا ان نعرف الدافع لتجريم هذه الظاهرة، الذي يدرس تاريخ اليهود في اوربا يرى انهم كانوا يعاملون معاملة سيئة من قبل افراد المجتمع في جميع الفترات التي سبقت انتهاء الحرب العالمية الثانية، فالعنصرية اذا هي السبب الرئيسي لهذه الظاهرة، فالعلمانية هنا تؤيد تجريم انكار المحرقة، لانها ظاهرة عنصرية، اما بخصوص العقوبة التي سنتها المجتمعات كجزاء لتلك الجريمة، فهي تختلف من دولة الى اخرى، وقد تصل للحبس عدة سنوات في بعض الدول، ان هذه القوانين ليس لها دخل بالعلمانية، بل هي قوانين سنتها برلمانات تلك الدول، ومن الممكن ان تسقط تلك القوانين في يوم من الايام، وكلها امور داخلية تخص التشريعات. وحتى لو اعتبرنا جدلا ان العلمانية مقصرة في هذا، فالشان ليس شانها بل شان من شرع قوانينها في تلك البلدان، ولندعو نحن الى العلمانية التي نراها افضل من علمانيتهم اما ان ناتي ونلغي العلمانية لسبب تافه، فهذا ليس من مصلحتنا باي حال، وكله يصب في مصلحة المتربعين على العروش ومن يساندهم من وعاظ السلاطين ممن لم يجدوا لهم شغلا شاغلا الا التهجم على العلمانية ورجالها في كل مكان متخذين من هفواتها في بلاد الغرب نموذجا سيئا يدعو الى عدم تطبيقه في بلدانهم الاسلامية.
العلمانية والاديان
لا تقف العلمانية موقف المعادي للاديان، بل تقف فقط موقف من الممارسات اللانسانية لبعض منتسبي الاديان، فلا تقبل العلمانية ان تقف امرأة ثبت انها مارست الجنس مع رجل، في حفرة، ويشد راسها بخرقة من القماش، ويرمي عليها الناس الحجارة من هنا وهناك، الى ان تموت، هذا التصرف يرفضه كل انسان عنده ضمير عنده قلب عنده عقل، ولن تسقط شعائر الله لو لم ينفذ هذا الحد.
لقد توجهت بسؤال الى احد المدونين المحترمين كتب موضوعا، عن هذه الظاهرة ويبدو ان السيد المدون يريد ان يذكر القراء بانهم قد نسوا او تناسوا هذه الظاهرة، ويريد ان يدعو الى تطبيقها على ما يبدو، سؤالي كان، لو كنت انت في مكان فيه سيدة يقام عليها حد الزنا، فهل كنت ستشارك في رجمها والتسبب بموتها؟ وكما توقعت فلقد تهرب من الاجابة، ولو توجهت لنفس الشخص فيما لو انه عاش قبل 1400 عام لما تردد ابدا بالجواب بنعم. انا متاكد لو ان نفس السؤال وجه الى جميع الناس لوجدنا ان غالبيتهم لا يؤيد هذا، فايهما افضل ان نسير على راي الاغلبية ام راي بعض المتشددين؟
فدعوة هؤلاء الشيوخ لنبذ العلمانية ومحاربتها بكل ما اوتوا من قوة، يعود لكونها سوف تفتح عقول الناس، وتهديهم الى طرق اخرى لم يكونوا قد عرفوها، وهذا سوف يؤدي بالتالي الى كساد تجارة هؤلاء الشيوخ، وبالتالي انتفاء الحاجة لوجودهم مع الوقت. فلقد استطاع هؤلاء اقناع الناس بانهم ربطة الوصل بين الخالق وبينهم، وان الله قد خلقهم ليعلموا الناس ما يجب عليهم ان يفعلوه وكانما بقية الناس مخلوقات ادنى منهم، ولا يستطيعون العيش الا بمساعدتهم ومباركتهم.
العلمانية التركية
يمكننا القول ان النموذج العلماني التركي، هو فعلا نموذجا للعلمانية غير الحيادية. العلمانية التركية هي نوع من انواع الدكتاتورية، هي وضع الحاكم (المؤسسة العسكرية) في عدم تماس مع الشعب. فالحكام الاصليون في تركيا هم العسكر، ولكنهم يوهمون الشعب بلا جدوى ان من يحكمهم هو برلمان ينتخبه الشعب، فولد هذا النوع من الخداع المكشوف نوع من عدم الثقة عند الشعب. فالشعب يعرف ان الحكومة التي ينتخبها لها صلاحيات معينة، وصلاحيتها تنتهي عندما تتعارض مصالحها مع مصالح العسكر. بالنسبة للحريات فهي مقموعة، حتى الحريات الدينية التي لا تتعارض مع العلمانية كالحجاب مثلا، مقموعة في تركيا، الحجاب مسالة تعود فقط للمراة وقناعتها، حتى زوجها ليس له الحق بفرضه عليها من عدمه. اما اذا اخذ الحجاب شكلا اخرا يضر بمصالح الاخرين، كما هو الحال بما يعرف بالنقاب، فهنا تتدخل العلمانية وتقول، قف ارجوك، يجب ان يظهر وجه المرأة كاقل تقدير، لكي يتم تمييزها، فلا يجوز ان يفلت رجل او امرأة من العدالة بعد ان يقوم بجريمة معينة بان يغطي وجهه و يختلط او تختلط بالسواد من النساء. فالدعوة لاقرار النموذج التركي من العلمانية، دعوة مرفوضة جملة وتفصيلا.
ماهو المطلوب؟
لو نظر اي انسان للموضوع من موقع الحيادي، سيجد ان العلمانية هي الحل، فهي تحمي الانسان حتى من نفسه، لانها تتعامل مع الواقع كما هو، وليس مع قوانين ميتافيزيقية لا نعرف اولها من اخرها. كن من تكون، اعبد ما تريد ان تعبد، اعبد الحجر لو شئت ولكن لن اسمح لك بان تضربني به، هذه هي العلمانية، حريتك تنتهي عندما تتعارض مع حرية الاخرين، ليس من حق اي شخص ان يقتل شخصا اخر مهما كان، قل رأيك ودع الاخرين يقولون آرائهم، ابتعد عن العنصرية والتحريض على الاخرين، عندها تكون قد طبقت العلمانية.
بدون العلمانية، لن تنجح الديمقراطية، يجب ان نعلم شعوبنا مباديء العلمانية، وبعدها ندعوهم الى الديمقراطية، وليس العكس، لاننا لو طبقنا العكس سوف نصل الى الفوضى، ومن ثم الرجوع الى الخلف، ولن تقوم لنا قائمة ولو بعد حين.
التعليقات (0)