العلمانية بين الدين والعلم.
يثير استعمال لفظ العلمانية في الأوساط الدينية، وخصوصا في ديار الاسلام، حساسية شديدة. و لا يكاد المفهوم ينفصل في ضميرنا الجمعي عن الكفر والالحاد.حيث يبدو التسرع في اصدار الأحكام عنوانا أساسيا في الثقافة الشعبية التي تتغذى بالأمية والجهل وغياب آليات التفكير العقلاني. وهو ما يستغله جيدا عدد من منظري الفكر الديني لترسيخ خطابات فكر التكفير.
واذا عدنا الى تاريخ العلمانية في أوربا نكتشف أنها لم تكن حركة فكرية مناهضة للدين المسيحي، بل كانت رافضة للتفسير الكنسي للدين. وهو تفسير ضال ومتخلف منح المشروعية الالاهية( دون وجه حق) لعدد من الممارسات و برر كثيرا من الأخطاء والتجاوزات في حق الشعوب الأوربية في القرون الوسطى. وقد اتضح أن الفكر الديني الكنسي المنغلق كان عائقا أمام التغيير والتنوير، حيث واجهت الكنيسة بضراوة شديدة مختلف المحاولات التنويرية التي حملت لواء العقل. لكن الوقائع العلمية أثبتت تهافت الخطاب الكنسي، واستطاعت أن تزيل عنه تلك الشرعية عندما اتضح أن كثيرا من نصوص الانجيل المقدس (الذي تسوقه الكنيسة باعتباره نصا الاهيا لا يطاله الشك) في حاجة الى اعادة نظر. وفي هذا الشأن عاش المفكرون والعلماء في أوربا محنا تذكرنا بما عاشه ابن رشد أو أحمد بن حنبل مثلا من مضايقات في بلاد الاسلام. ولعل ماتعرض له " أدورنو" و " جاليلي" و " كوبرنيك " و "ديكارت" من مضايقات ومصادرات و محاكمات، تشهد بذلك الحصار الذي مورس على الفكر والعقل والعلم باسم الدين.( أدورنو تم احراقه حيا، وكوبرنيك تمت مصادرة كتابه: في دوران الأفلاك السماوية. وجاليلي حكم عليه بالاقامة الجبرية بسبب قضية دوران الأرض وثبات الشمس.)...وهكذا جاءت العلمانية في أوربا كبديل للخطاب الكنسي الأحادي و المنغلق و الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. وبذلك فقدت الكنيسة مشروعيتها وفقدت معها امتياز تسيير الشأن العام. وهو ما أدى الى فصل الدين عن الدولة.وهي نتيجة مهدت الطريق أمام العقل الأوربي ليحلق في سماء العلم بكل ثقة بعدما تحرر من قيود الرقابة البابوية.
العلمانية كما أبدعها عصر الأنوار مثلت اذن حركة فكرية وأفقا استراتيجيا تجاوز من خلاله العقل الأوربي ثقافة صكوك الغفران، واتخذ من الحرية شعارا له... والحال أن كل التجارب الانسانية التي تأسست على الحرية أثبتت نجاحها. وفي هذا المقام لا يمكن أن تكون العلمانية محاولة لمحو الدين أو حتى تحجيم دوره، فمبدأ الحرية الذي تتأسس عليه يسمح للدين بالازدهار، ويمارس كل شخص شعائره ومعتقداته دون مضايقات ولا اضطهاد. وفي هذا كل التناغم و الاتفاق مع المبدأ القرآني الذي يقول " لا اكراه في الدين "... أما المعنى المغيب في التفسير الفقهي لمفهوم العلمانية فهو العلم. اذ من الواضح كما أشرنا سابقا أن المفهوم المذكور اتخذ دلالة علمية خالصة في أوربا. والنص القرآني حافل بآيات بينات تحث على العقل والعلم من أجل بلوغ عظمة الله. لكن التفكير الاسلامي قلب قاعدة فقهية أساسية هي: " قياس الغائب على الشاهد "، وغيبها لصالح قاعدة " قياس الشاهد على الغائب ". وعندما تم تغييب القاعدة الأولى فقد العلم دوره في المجتمع الاسلامي لصالح الكلام و الفتاوى الدينية. و غني عن القول أن القاعدة الأولى تمثل استجابة عقلية لنداء القرآن بالنظر في الموجودات واعتبارها للدلالة على عظمة الخالق. حيث تعني تلك القاعدة الانطلاق من الواقع لاثبات عظمة الله. ( وهذا يعني أن فكرة الله ليست قبلية في الغريزة الانسانية، بل يتم الوصول اليها والتأكيد على حقيقتها انطلاقا من التفكير والتعقل).أما عندما يكون التأويل الفقهي للدين هو المحرك الأول لآليات التفكير كما هو الشأن عند المسلمين، فان حضور العقل لا يكون له أي تأثير. وهذا ما نلاحظه مثلا في كل النقاشات التي ترافق بعض الظواهر الطبيعية كالزلازل والفيضانات... حيث التفسير الغيبي يحول الموضوع من المستوى العلمي المطلوب الى مستوى ميتافيزيقي يتوارى خلف خطابات العقاب الالاهي. ولنا في " التسونامي " الذي ضرب اندونيسيا في دجنبر 2004 مثالا على هذا التفكير اللاعلمي ، حيث تعالت الأصوات التي جعلت من الحدث عبرة لمن يعتبر، بدعوى أن استشراء الفساد و المنكرات كان السبب المباشر للكارثة...لكن القراءة العلمية للوقائع الطبيعية لا تستدعي أبدا ماهو ميتافيزيقي، فكل ما يتعلق بالطبيعة يجد تفسيره بالضرورة في نظامها الفيزيقي ذاته. وهذا هو المعنى الأصلي للعلمانية، حيث الواقع هو مركز الاهتمام.( الانتقال من الناسوت الى اللاهوت وليس العكس) وهو ما يعني اذن أن الانسان هو محور هذا الاهتمام. وما كان للغرب أن يبلغ ما بلغه من مدارك الرقي والنجاح لولا هذه المكانة التي بات يحتلها الانسان في صنع حاضره ومستقبله.
ان العلمانية ليست بأي حال من الأحوال دعوة الى الالحاد والكفر أو التخلي عن الدين، بل هي رسالة انسانية تنتصر للحرية و العقل وتحدد المسؤوليات وتنقذ الكائن البشري من أية وصاية. وقد كان من أهم نجاحات العلمانية في أوربا أن خلصت الدولة من التبعية للكنيسة، وسمحت بذلك للعقل بالتحليق عاليا دون أية رقابة فوقية...ألسنا اليوم في حاجة الى تخليص الدين نفسه من بعض أشكال التفسير الغيبي المتعالي عن العقل؟.
محمد مغوتي.06 /03/2010.
التعليقات (0)