العلاقة بين الخرطوم والقاهرة وأفكار 1919م
(على ضوء الزيارة الأخيرة لنائب الرئيس السوداني للقاهرة)
من واقع ما رشح عن العديد من كتاب الصحافة المصرية المتخصصين في الشأن السوداني المصري ؛ فإن زيارة الأستاذ على عثمان طه الأخيرة للقاهرة كشفت أن هناك بونا شاسعا بين الفهم السوداني والمصري فيما يتعلق بمستجدات العلاقة بين البلدين والقضايا الداخلية السودانية ... وهو الأمر الذي جعل الحوار المتداول بشأن هذه العلاقة بين عموم أهل السياسة والمثقفين وأصحاب الأقلام في كلا البلدين يتحول في نهاية المطاف إلى نقاش ضفادع ..
ثم أن تعليق بعض الصحفيين الورقيين الكلاسيكيين من أمثال أحمد بدوي الصحافي بمجلة روزاليوسف يؤكد أن معظمهم لا يزال يعيش وسط روائح الموميات في دهاليز وأقبية وأهرامات ثورة 1919م ويقرأ السطور تحت غبار برديات سعد زغلول التي سبقت إقصاء مصر من السودان نهائيا عام 1924م عقب إغتيال السير"لي ستاك" حاكم السودان في محطة مصر وثورة اللواء الأبيض المسلحة بقيادة الملازم أول علي عبد اللطيف...... ثم منطق وقناعات أيام "ركن السودان من القاهرة". وذلك حين وصف هذا الصحفي الورقي القديم الأفكار زيارة علي عثمان طه لمصر "بأنها محاولة لبدء الحملة الانتخابية لحزب المؤتمر الوطني مبكرا ومن هنا من القاهرة ".
ولا نريد إبتداءاً أن نصف هذا التحليل الذي ذهب إليه "أحمد بدوي" بأنه ساذج ومضحك لدرجة "الكَتْكَـتَهْ" لدينا نحن في السودان ..... لكن كان واضحا أن هذا الصحفي بوصفه مثالا لإنطباعات عامة وخط مصري مكرس في العلاقة مع السودان .. كان واضحا أن معلوماته قديمة وبالتالي يحمل الأمور أكثر مما يجب لجهة الخيارات التي باتت متوفرة في العصر الحديث أمام السياسي السوداني داخل بلاده وخارجها وحاجته إلى مصر على حد سواء..... وربما كنا نصدق لو كان الذي يزور القاهرة هو السيد "محمد عثمان الميرغني" زعيم الطائفة الختمية الموالية لمصر ؛ وليس عثمان طه أو رصفائه من زعماء وقادة بقية الأحزاب السودانية الأخرى المستجدة منها أو الطائفية التلقليدية؛ والتي لم تكن يوما من الأيام في حاجة لمباركة مصر منذ عام 1956م ناهيك عن أن تكون في حاجة إلى ذلك في 2010م.
وكذلك حين إدعى "أن علي عثمان طه إستغل الزيارة ليقلب الطاولة على الترابي وحزبه الذي بدأ في التقارب مع مصر في الآونة الأخيرة" ..... ومن جانبنا لا نرى أن حزب المؤتمر الوطني الذي يقبض بقوة فولاذية على مقاليد الأمور في الخرطوم في حاجة إلى أن يبعث برجله القوي ونائب رئيس الجمهورية إلى القاهرة كي يقلب الطاولة على عجوز وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا كالترابي وحزبه الشعبي المهمش الصغير ؛ لاسيما وأن الترابي ملفوظ جملة وتفصيلا من جانب الشعب السوداني بعد المآسي التي أذاقها له خلال فترة تربعه على كرسي السلطة الحقيقي والأكاذيب وإمتطاء الدين وفتاوي المصلحة التي تخلط بين الحق والباطل الصادرة على لسانة قبل إقالته في إنقلاب القصر أوائل القرن على يد عسكر عمر البشير وبتحريض ومباركة من أبرز تلامذة الترابي القدامى. .... ثم أن مصر الرسمية والرئاسة لن تثق في الترابي باية حال من الأحوال بعد تصفيته خلال تلك الفترة لمعظم الوجود المصري السياسي والإستخباراتي في السودان ومباركته توفير الدعم اللوجستي لمحاولة الجهاد الإسلامي المصري إغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس ابابا .... وعليه فماذا ترتجي القاهرة من سياسي عجوز حرباء مثل الترابي لا يمكن الإطمئنان والركون إلى تحالف معه ولو لبضع ساعات .. وهل يعتقد الصحفي الورقي المشار إليه أن الترابي هذا العجوز الثمانيني المراوغ سيأتي في عام 2010م ليفعل من القاهرة ما لم يستطيع فعله عام 2000م في الخرطوم وهو خارج لتوه من أبواب القصر الجمهوري مطرودا غير ماسوف عليه ؟؟
من ناحية أخرى فلا يعتقد أن الخرطوم باتت تعول كثيرا على مصر أو ترتجي خيرا بشأن قدرتها على الإسهام في حل فعلي لمشكلة دارفور يذهب ابعد من مجرد تصريحات ورجاءات يحملها النسيم العليل لوزير الخارجية المصري أبو الغيط ، ورئيسه نظيف تتمنى على الطرفين التوصل إلى حل سلمي ودي ؟؟؟ إلخ ؛ وهلم جرا وعلى طريقة "العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلون" دون وضوح معالم طريق ورغبة جادة من جانبها في تكبد العناء واختراق المشاق بإتخاذ خطوات عملية برعاية مفاوضات بمثل ما تقوم به دولة قطر الآن.
لقد أكدت تصريحات الرئيس الفرنسي الغير مهذبة خلال مؤتمر صحفي عقده عقب خروجه من محادثات مع حسني مبارك بأنه لن يضع يده "الكريمة" في يد عمر البشير لمصافحته ... إلخ ،،، أكدت أن مصر ليس لديها أوراقا يمكن التعويل عليها بشأن الضغط على فرنسا وبالتالي تشاد في سبيل حل مشكلة دارفور.... حسنا ؛ فليضع ساركوزي يده الكريمة حيث يشاء . ولكن لم يكن أحد يتوقع أن يتجرأ ساركوزي ويقول مقولته في حق الرئاسة السودانية وهو في أراضي جارتها مصر وخارج لتوه من إجتماع مع حسني مبارك لولا أنه يرفض تماما أخذ وساطة مصر مأخذ الجد والإعتبار .....
ثم أنه لا يخفى علينا غرق مصر حتى اذنيها في مشاكلها الإقتصادية وهمومها التموينية الملحة لضمان تدفق المنح الأمريكية والأوروبية لغرض توفير لقمة العيش والخبز لـسد أفواه 80 مليون من مواطنيها ومعالجة ملفات أخرى ساخنة متوترة تتعلق بالانتخابات وقضية التوريث وجدار الحصار وعلاقتها المزدوجة المحرجة بين إسرائيل وغــزة...... وهي جميعها قضايا تجعل من حق مصر أن تردد "اللي فيني مكفيني" .... و "اللي ما يكفيش البيت يحرم على الجامع".
.............
وأما فيما يتعلق بوعود مصر (دون أن يكلفها أحد) بعقد مؤتمر للمانحين لإعمار وتنمية دارفور . فإننا نذكر بأن مؤتمرات المانحين هذه باتت "أم المهازل" ومجرد رحلات ترفيه وسياحة للمندوبين وسط الماء والخضرة والبكيني والوجه الحسن في بلاجات شرم الشيخ والغردقة منذ عقدها لمصلحة الصومال وأفغانستان مرورا بالعراق وجنوب السودان وغيرها من بلدان . وأثبتت خلال كل ذلك عدم جديتها وجدواها وأن وعودها كوعود عرقوب وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا أتى لم يجد شيئا ....
ربما يقنعنا أحدهم لو حاول إحترام عقولنا بالتحدث وفق المنطق ، ورجح أن زيارة الأستاذ على عثمان طه إنما كانت لحث الجامعة العربية للتحرك الفاعل بشأن مشكلة دارفور وعلى نحو موازي للجهود التي تبذلها دولة قطر في الجانب الآخر . وكل ذلك يصب في بوتقة (تعـريب) مشكلة دارفور على إعتبار أن كافة أطراف النزاع قد إرتضوا مؤخرا هذا التوجه بديلا عن الأفرقة التي لا طائل من ورائها ، والتي لا تؤدي في نهاية المطاف إلا للتدويل من واقع فقر الأفارقة وضعف قدراتهم التمويلية الذاتية لقوات حفظ سلام أو حتى مراقبين ناهيك عن وعود بالتعويضات والتنمية (وفاقد الشيء لا يعطيه) وهو الأمر الذي يجعلها تلجأ من فورها إلى هيئة الأمم المتحدة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة والدول الغربية ومصالح متشابكة من شركات مستغلة لثروات الشعوب الفقيرة ومحافظين جدد وتبشير وصليبية ..... ثم لوبي وشبكات عصابات المتاجرة بالبشر ومافيا بيع الأعضاء ودعارة الأطفال المنظمة (الفاحشة الأرباح) والتي ويا لسخرية الأقدار تدعو السذج الآخرين للتبرع لها تحت ستار إنقاذهم من الإبادة والتطهير العرقي وإلى غير ذلك من شعارات براقة واهية كشف عن زيفها مؤخرا في كارثة زلزال هايتي على سبيل المثال.
ووفقا لما تقدم فقد سمعنا أن وفدا من الجامعة العربية سيتوجه إلى دارفور لإستطلاع الموقف هناك .. وهو ما يعني عدة مكاسب لحكومة الخرطوم من جهة ولمتمردي دارفور من جهة أخرى لجهة الدلالة على إستتباب الأمن والسلام في ربوع دارفور والوعود المبشرة بمشاركة دول الخليج العربي الثرية في حل المشكلة عبر الضغط على فرنسا للتاثير على تشاد ؛ أو بما يعنيه من تحملها لقسط وافر من مسئولية إعادة الإعمار والإنماء في الإقليم ، والذي لا نشك أنه سيلقى مباركة شعبية ونكران ذات في داخل السودان وتأييدا ومؤازرة لدى الراي العام العربي في منطقة الخليج إن تحقق السلام وإستتب.
..........
من جهة أخرى لا ننكر وجود مساحة كانت وستظل للمباحثات الثنائية بين الخرطوم والقاهرة لتبادل الأفكار والآراء بشأن المشكلات الداخلية المرتبطة بمسار البلدين الجارتين. ومن أهمها الإطمئنان على إستقرار الوضع في وادي النيل عموما . وإلى رجاحة إحتمالات فوز المؤتمر الوطني في الانتخابات التشريعية وكذلك الرئيس عمر البشير ، ولما يمثله ذلك من عوامل إستقرار للسودان (عمق مصر الإستراتيجي) خلال المرحلة القادمة التي لا يعرف ما إذا كانت ستشهد إنفصال الجنوب من عدمه على الرغم من ترجيح كافة المراقبين للإنفصال .. ولكن في كافة الأحوال فإن وجود طرفي نيفاشا على راس السلطة في الخرطوم وجوبا في آن واحد ، سيكون هو وحده صمام الأمان لتجنب أي إنتكاسات تعوق إلتزام الأطراف بتنفيذ بنودها السياسية والأمنية المفصلية.
التعليقات (0)