ظاهر يدعو للأمل وباطن قابل للانفجار في أي لحظة
قد تحقق جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المملكتين، المغربية والإسبانية، في سياق الطفرة الحالية لعلاقتهما. لكن هناك اعتبارات وبعض الشروط وسياقات سياسية – ظاهرة وباطنة- ترهن تأسيس علاقات ثنائية قوية بين الرباط ومدريد، باعتبار أن هذه العلاقات ما انفكت تعاني بين الفينة والأخرى من بعض الأزمات أو الأحداث التي قد تبدو عابرة أحيانا، إلا أنها ذات جذور عميقة بفعل تراكمات على امتداد عقود، مما يجعل الظاهر حاليا يسير نجو إحياء الكثير من الأمل، في حين لا زال الباطن والمستتر في هذه العلاقات يتحرك في مناطق رمادية غير متحكم فيها، وقد تكون قابلة للانفجار في أي لحظة.
مواقف ومبادرات توشي بتناقض الظاهر من المستتر
من السهل ملاحظة التنافر بين المستتر في العلاقات المغربية الإسبانية وظاهرها عبر جملة من المواقف والمبادرات الإسبانية.
يومان قبل انعقاد القمة المغربية الإسبانية العليا بالرباط ، قام العاهل الإسباني "خوان كارلوس" بتوشيح وحدة من كتيبة القنطرة للخيالة 14 الإسبانبة التي شاركت في حرب أنوال وعملت على منع تقدم جيش محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مليلية في سنة 1921،وتلقى فيها الإسبان أكبر هزيمة لجيوشهم خلال القرنين الأخيرين. وتساءلت بعض وسائل الإعلام الإسبانية عما إذا كان الوقت مناسبا لتوشيح الكتيبة الإسبانية- التي تذكر بالحقبة الاستعمارية الإسبانية بالمغرب - خاصة على مستوى واقع العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا.
وقبل هذا، كان إعلان وزير الشؤون الخارجية الاسباني "خوسي مانويل غارسيا مارغايو" من نيويورك خلال لقاء جمعه بـ"كريستوفر روس" على هامش الدورة الـ 67 من أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي أكد فيه أن بلاده ستدعم المبعوث الأممي سياسيا وماديا قصد التوصل إلى حل للنزاع في الصحراء، وأن حكومة مدريد تؤيد مساعي "كريستوفر روس" لتحريك الملف للتقدم في المفاوضات.
ولم يعد يخفى على أحد الآن أن وسائل الإعلام الاسبانية الموجهة من الاستخبارات الاسبانية ظلت تقوم بحملة "صليبية" ضد المغرب وملكه والمغاربة، وصلت أحيانا إلى درجة من الدناءة غير المقبولة. كما تستغل بعض الصحف الموالية لليمين خصوصا كل حادث يمس المغرب من قريب أو بعيد، لتضفي عليه طابع المبالغة والتهويل والإثارة للنيل من بلادنا وإحراجها عبر التشكيك في سياسة المغرب الخارجية اتجاه قضايا حساسة كقضية الإرهاب والهجرة والمخدرات، و قضية الوحدة الترابية. وطالما حضر هذا الملف الأخير (الصحراء المغربية) بقوة كمادة دسمة في الإعلام الاسباني، و عموما غالبا ما يكون الولاء للانفصاليين وللبوليساريو ولاء مطلقا وواضحا وجليا. فمنذ اعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد تأكدت ظاهرة، أضحت قائمة الآن، إذ تخصصت بعض المنابر الإعلامية الاسبانية في مهاجمة المغرب وعاهله ورسم صورة سلبية عن المغربي في ذهنية الاسباني، وهي منابر معروفة منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بعدائها غير المثير للعجب والاستغراب ، الظاهر أو المستتر، للمغرب ، وكل خبر يمس بلدنا ، يلقى الصدى السريع والمباشر في جملة من وسائل الإعلام الاسبانية المرئية والمكتوبة و المسموعة ، حتى ولو كان الأمر مرتبطا بمجرد إشاعة أو جدادة صادرة عن مصدر غير موثوق به ، و خصوصا فيما يرتبط بقضايا الإرهاب و المخدرات والهجرة السرية ، أما قضية الصحراء، فكانت على الدوام منطلقا للنفخ في الإشاعات والأخبار غير الموثوق بصحتها، ومادة دسمة للإجهاز على المغرب دولة وحكومة وشعبا وملكا، سيما بعد إعلان المغرب عن مبادرة الحكم الذاتي.
هذا علما أن أن "ماريانو راخوي"، الذي لم يتم بعد عامه الأول في السلطة قد تخلى عن سياسة المواجهة مع المغرب بعدما كان "خوسي ماريا أثنار" قد أرسى دعائمها خلال ترؤسه الحكومة الإسبانية، وذلك تأكيداً لأهمية المصالح الاقتصادية و"الجيو استراتيجية" لإسبانيا بالمغرب وبدول شمال إفريقيا.
وعموما ظلت العلاقات المغربية الاسبانية المُعاصرة مطبوعة بالمد والجزر، وغالبا ما كان يسودها التوتر بوصول اليمين الاسباني للحكومة وببعض الانفتاح بوصول الاشتراكيين للحكم، وبالتالي يبقى التأثير في نوعية العلاقة بين البلدين مُتعلقا بالتغيرات الحكومية في المملكة الاسبانية، في حين لا تؤثر التغييرات الحكومية وتعاقب الحكومات المغربية على العلاقات بين المملكتين في شيء، وهذا أمر قد يشجع الطرف الإسباني على المناورة تبعا لمصالحه وليس نتيجة لتغيير جذري في نهج تعاطيه للعلاقات مع جاره الجنوبي. علما أن دور العاهل الإسباني "خوان كارلوس" في العلاقات بين المملكتين لا يتعدى دور تسهيل التواصل أو تخفيف أجواء التوتر في اللحظات الحرجة دون أي درجة من التأثير في القرارات السيادية للحكومة.
وفي هذا السياق يرى عبدالحميد البجوقي- أحد نشطاء المجتمع المدني في مدريد والرئيس المؤسس لجمعية العمال والمهاجرين المغاربة بإسبانيا- أن كل المؤشرات تُؤكد أن اليمين الاسباني فهم ولو متأخرا شروط ومفاتيح العلاقة مع المملكة المغربية وسيحاول استثمار دوره الطبيعي كيمين في احتضان المصالح المغربية ـ كما هو شأن اليمين الفرنسي ـ وفي حماية المصالح الاسبانية بتعديل تدريجي لبعض مواقفه حول قضايا حساسة بالنسبة للمغرب مقابل أن يتلافى المغرب الخوض في أخرى مشابهة بالنسبة لإسبانيا. لكن هذا التفاؤل لا يُلغي حقائق وخصوصيات جديدة تعرفها المنطقة وتتطلب من الطرفين رؤية مستقبلية وسياسة خارجية استباقية لمواجهة فرضية أن اسبانيا مُقبلة على مرحلة جديدة سـتُغير حتما ملامحها الحالية وأن المغرب مُقبل على مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر لا يمكنها التعايش مع خصوصيات عتيقة .
وتظل قضية وحدة المغرب الترابية محورية
يرى الدكتور عبد الفتاح الفاتحي، الباحث في شؤون الصحراء، أن التأسيس لشراكة اقتصادية وسياسية واجتماعية استراتيجية بين الرباط ومدريد يبقى رهينا بتجاوز اسبانيا لمواقفها المزدوجة تجاه قضية الوحدة الترابية المغربية، ذلك أن مسألة الصحراء تعد عاملا محوريا في تطوير الشراكة الاستراتيجية بين المغرب واسبانيا. وعلى الرغم من عودة الدفء إلى العلاقات الدبلوماسية بين الجارين واختفاء مظاهر التراشق الإعلامي، وتقوية قنوات التشاور والتنسيق، إن حكومة الحزب الشعبي الإسباني تعامل المغرب بمواقف مزدوجة ( لها ظاهر وباطن).
هذا، علما أن من الإشارات الإجابية وجب ذكر امتناع الحزب الشعبي عن إرسال أي وفد للمؤتمر الثالث عشر لجبهة البوليساريو، ، وهي رسالة للرباط ، قد يكون مفادها تبني الحزب اليميني الإسباني لسياسة الحياد في ملف الصحراء، أو على الأقل الإعلان عن اعتماد البرغماتية في معالجة الملفات المشتركة وتفادي تصريف الأزمات الداخلية نحو الخارج.
قضية سبتة ومليلية
لم يسبق لابن كيران التحدث عو قضية سبتة ومليلية كوزير أوّل، وعندما تحدث لم يقل شيئا. إذ قال، بعد الدورة العاشرة للجنة المشتركة العليا بين المملكة المغربية والمملكة الاسبانية، أن قضية سبتة ومليلية والجزر المغربية " موضوع قديم جديد يحتاج إلى حوار جدي وواسع، ... ونحن نمارس السياسة في إطار منطق وروح، فهؤلاء (الإسبان) جيراننا ونسعى لأن تكون علاقتنا في أحسن ما يمكن وهي التي هيمنت على اتفاقاتنا وأي مشكل أمامنا الوقت لحله".
في حين يعتبر محمّد زيان، المحامي والقيادي بالحزب المغربي الليبرالي، أنه ليس هناك حزب سياسي مغربي، منذ الاستقلال إلى الآن، فكّر بجدّ في تعريف الرأي العام الوطني والدولي بوضعية المدينتين السليبتين، سبتة ومليلية والجزر التابعة لهما، وهي وضعية غير مقبولة مازال يرزح تحتها جزء من التراب المغربي في الشمال. كما دعا إلى إقامة إمارتين بثغري سبتة ومليلية لتصفية ملفهما بناء على مخرج "السيادة المشتركة للمغرب وإسبانيا عليها. ويجعل على رأسها أمراء من الأسرتين الملكيتين بالرباط ومدريد.. كل هذا وفقا لنظام خاص يعطي الثغرين نظاما دوليا خاصا بهما، ويسمح أيضا لهما بالتوسع ترابيا، زيادة على توسعهما اقتصاديا واجتماعيا".
وتتعقد قضية المدينتين المغربيتين المسلوبتين أكثر بفعل مطالبة مدريد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بفتح بريطانيا حوارا يطال سيادة إسبانيا على الحيز الترابي لجبل طارق. وفي هذا السياق دعا نجيب الوزّاني، الأمين العام لحزب العهد الديمقراطي، إلى جلاء إسبانيا عن ثغري سبتة ومليلية، والجزر التابعة لهما، وفقا لأجندة توضع كنتيجة لحوار جدّي ومسؤول بين مدريد والرباط، تماما كما ترغب مدريد تجاه جبل طارق الخاضع لسيادة بريطانيا.
كما بدأت تبرز أصوات مساندة لتخلي إسبانيا عن الجزر الجعفرية. وفي هذا السياق، حسب جريدة جريدة "إلباييس" الإسبانية قال مصدر من قيادة الجيش الإسباني إن الحفاظ على مليلية أضحى مكلفا لأن مكانتها الاستراتيجية ضعيفة مقارنة بسبتة، ورغم ذلك، فالجيش متمركز في مليلية أكثر، ولكن وضعه هناك لا يختلف عن الأطباء والمدرسين أو أي موظف آخر. وهناك قادة عسكريون كبار وأنصار لإنهاء الوجود الإسباني هناك، طالبوا بعدم إبقاء الجزر والصخور في أيدي إسبانيا، لكن هذه المطالب يصاحبها قلق كبير من أن هذا سيجر سبتة ومليلية وجزر الكاناري إلى النقاش.
لكن إلى ما تسعى إليه مدريد حاليا؟
يؤكد الدكتور حسين مجدوبي، الخبير في العلاقات المغربية الإسبانية، أن أهداف اسبانيا حاليا تتمثل في ضمان استمرار المغرب في مكافحة الهجرة السرية وخاصة منع المهاجرين الأفارقة من الوصول الى سبتة ومليلية المحتلتين وكذلك الجزر الجعفرية بحكم أن الاقتصاد الإسباني لا يمكنه في الوقت الراهن تحمل ضغط الهجرة، والحصول على أفضلية للشركات الإسبانية في الصفقات الاقتصادية الكبرى في محاولة للاستفادة من السوق المغربية التي توفر بعض الفرص في البنيات التحتية، وتجميد المغرب للمطالبة بملف سبتة ومليلية المحتلتين خاصة في وقت تشهد فيه اسبانيا عدد من محاولات الانفصال في إقليم كاطالونيا الذي أعلن تنظيم استفتاء تقرير المصير خلال السنوات المقبلة وبلد الباسك، ورغبة الحزب الحاكم حاليا في توقيع مصالحة مع المغرب شعبا وحكومة بعدما كان خلال السنوات الماضية قد تزعم معارضة شديدة وقوية دفعت بمئات الآلآف من المغاربة للتنديد به. في حين لا ينتظر الجانب المغربي حاليا الكثير في المجال المالي والاقتصادي مثل ما حصل في القمم المغربية الإسبانية السابقة، اعتبارا للأزمة، ويظل الرهان سياسي بالأساس ، وبالخصوص الحصول على موقف إيجابي في نزاع الصحراء المغربية.
بالرغم من كل شيء علاقات اقتصادية رائدة
إن العلاقات التجارية بين البلدين شهدت توازنا في حجم ووتيرة المبادلات خلال العشر سنوات الأخيرة، حيث سجلت الصادرات المغربية نحو إسبانيا ارتفاعا بنسبة 134 في المائة، إذ من 13 مليار وصلت إلى 31 مليار و600 مليون درهم، أما الواردات فقد سجلت ارتفاعا بنسبة 158 في المائة ، فمن 15 مليار تصاعدت إلى 39 مليار درهم، كما بلغت حاليا نسبة تغطية الواردات بالصادرات حوالي 66 في المائة.
وبالنسبة للتدفقات المالية، فإن اسبانيا قد احتلت خلال سنة 2011 المركز الثاني في مجال المداخيل السياحية بما قدره 6مليار 400 مليون دهم وكذا في تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج (6,3 مليار درهم) وهو ما مثل، في هذين المجالين، 10,8 في المائة من مجموع المداخيل. أما في ما يخص الاستثمارات المباشرة الاسبانية بالمغرب، فإنها عرفت تراجعا ملحوظا نتج عن الأزمة الاقتصادية التي عرفها هذا البلد خلال السنوات الأخيرة، حيث وصلت المداخيل إلى 1,5 مليار درهم سنة 2011 مقابل 1,9 مليار درهم سنة 2010. وخلال الثمانية الأشهر الأولى من سنة 2012، فإن حجم الاستثمارات الاسبانية بالمغرب لم يتعدى 0,6 مليار درهم وهو ما يمثل 3,1 في المائة. ويراهن القيمون على مالية المغرب على أن تصبح بلادنا الوجهة الاستثمارية الأولى للمقاولات الإسبانية التي تمارس أنشطتها خارج التراب الإسباني ، سيما بعد اعتماد سياسات قطاعية تمتد إلى غاية سنة 2020، وتضع أمام المستثمرين خارطة طريق واضحة المعالم في العديد من المجالات الواعدة والمهن العالمية الجديدة.
على سبيل الختم
ومهما يكن من أمر، فهل إسبانيا تنظر فعلا إلى المغرب كشريك ندي حاليا،أم أنها ترى فيه أداة لتصريف جزء من مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي على ضوء جوابه يمكن تقييم العلاقات الثنائية المغربية الإسبانية. وهذا في ظل أزمة اقتصادية خانقة ترافقها أزمة سياسية حادة تُهدد وحدة المملكة الاسبانية بعد إعلان الحكومة "الكطلانية" عن رغبتها في تنظيم استفتاء حول استقلالها عن اسبانيا. وفي ظل تغيرات وتحولات تعرفها المنطقة بفعل تداعيات الربيع العربي واندلاع توترات إقليمية في المنطقة تُهدد الأمن الإقليمي.
التعليقات (0)