كان المشهد أمس حميميا جدا ، ومؤثرا جدا ، وضروريا جدا ، وهاما جدا ، وطبيعيا جدا ، وواقعيا جدا ، وإنسانيا جدا ، وأخلاقيا جدا ، ووطنيا جدا ، وقوميا جدا ، وحضاريا جدا ، ونموذجيا جدا ..
وكان مطلبا حقيقيا وثمينا ، لا يختلف عليه اثنان من الشعب العربي كله والفلسطيني بشكل خاص ، وستسعد به عظام الشهداء قبل الأحياء .. وتزغرد له المهج والعقول ..
ولم ينزعج منه سوى أعداء الشعب العربي والفلسطيني ..
وقد ابتهجنا لبروز الدور المصري الحقيقي الفاعل ، والمؤثر في مسيرة نضال الشعب العربي ضد أعدائه .. مما يشير إلى أن مصر بدأت تستعيد دورها الطليعي والقومي ، وبدأت تتلمس مواطن الالتهاب المزمن في الجسد العربي المحيط ، مدركة أن معالجة هذا الالتهاب ضرورة وطنية وقومية تحتمها عليها مكانتها ودورها وفعاليتها المؤثرة بعد تطنيش طويل صبَّ في خانة أعداء الأمة ..
وبدورنا نتمنى أن تكون الكلمات التي عبر بها المتصالحون أمس ، نابعة من قلوب صافية تتجاوز كل المحن التي ذاق بسببها الشعب العربي الفلسطيني مزيدا من المرارة فوق ما يتحمله من المحتل الصهيوني ، وأثرت سلبا أيضا على مجمل قضايا المنطقة ..
وقد استطاعت مصر تحقيق هذه " المعجزة " بعد أربع سنوات ، تخللتها محاولات عديدة استهدفت تحقيق المصالحة والوئام ، قامت بها كل من السعودية واليمن وقطر والسودان وتركيا دون أن يتحقق لها النجاح لعوامل كثيرة ، لعل من أهمها :
عدم نضوج الظروف الموضوعية للمرحلة ، سواء في مصر ودورها في الملف الفلسطيني ـ الفلسطيني ، والفلسطيني ـ الصهيوني ، أو بين التيارات الفلسطينية نفسها ..
ولعل من أهم عوامل نجاح المصالحة الفلسطينية الآن :
ـ المتغيرات والضغوط الشعبية المزلزلة على مساحة الوطن العربي ، وداخل الضفة والقطاع ضمنا ..
ـ أضغاث الأحلام التي جنتها السلطة الفلسطينية بعد سنوات من الأحلام الوردية في انتظار " شيء ما " من وراء نتنياهو وأسلافه ..
ـ انسداد الآفاق والأماني " الخلبية " التي تؤمل عليها من أمريكا مع وصول محادثات الحل السلمي والاستيطان واللاجئين والقدس إلى حائط مسدود ..
ـ إصرار الصهاينة على دفع الفلسطينيين إلى استسلام وليس سلاما ..
من هنا تأتي أهمية أن يكون للشعب العربي الفلسطيني قيادة واحدة تمثل أطياف الشعب كله ، وأن تتجه جهود الجميع لخدمة الشعب وتحقيق أمانيه في الدولة الفلسطينية المستقلة التي أعلنت حماس قبولها بها على أراضي غزة والضفة الغربية ..
ومع هذه الصورة الجميلة التي شاهدناها أمس ، والتي غابت عنها سورية ، رغم إعلانها تأييدها المطلق ومباركتها للاتفاق الفلسطيني ، فإن كثيرين سرعان ما هللوا لهذا الغياب ، وهم يشيرون إلى أن مصر " سحبت ملف القضية الفلسطينية من سوريا " ..
ولا أعتقد أن ذلك يثير حفيظة سوريا حكومة وشعبا ، لأن سوريا تنظر إلى النتائج وليس الإجراءات .. وتنظر إلى أهمية تكامل الأدوار العربية ..
وما هذا الكلام الآن عن خروج الملف الفلسطيني من سورية ، إلا نوع آخر من الضغط الذي تمارسه جهات ودول كثيرة على سورية الآن ، ولكلٍّ مصلحتها ..
لكن ، عندما تصالح الفلسطينيون تحت عباءة الملك عبد الله في مكة المكرمة ، وبعدها في اليمن ، لماذا لم يقل : إن الملف الفلسطيني سُحِبَ من يد سورية ؟؟
أشرت إلى ذلك لأوضح كيفية الاصطياد في المياه العكرة عندما لا يكون همُّ البعض إلا التشهير والتجريح بكثير من الحقد واللؤم .. ومنه المزاعم التي نفتها حماس بشدة ، حول نيتها مغادرة دمشق إلى " دولة قطر " بناء على طلب من الحكومة السورية ..
المهم .. كل ما حصل على الساحة الفلسطينية مؤخرا ، أثلج صدورنا .. ونتمنى أن يدوم طويلا جدا جدا جدا .. وفي أسوأ الظروف ألا ينهار في زمن أقصر من المدة التي استغرقها الخلاف بين غزة ورام الله ..
والآن : " ألله يعطينا خير هالضحك " ..
وكما تعلمون ، هذه عبارة شائعة جدا ، وهي كناية عن ندرة لحظات الفرح والتفاؤل في حياتنا وخوفنا منه وقت حدوثه ، فإذا ما استبدَّتْ بنا بعض تلك اللحظات تسارَعْنا إلى النطق بها تعبيرًا عن خوفنا من شرٍّ أو سوءٍ سيأتي سريعا بعدها ..
وإذا اعتبرنا أن المصالحة الفلسطينية هي لحظة الفرح والبهجة والسعادة الحقيقية ، فإننا ـ ومن باب الحرص والتفاؤل والمحبة ـ نقول : الله يعطينا ـ عن حق وحقيقة ـ خير هذه المصالحة ..
وبعد ..
ما المشاعر التي تنتابك وأنت تراقب عن بعد انطلاق مركبة فضائية ، خُطط لها ، وأعلن مسبقا : أنها لن تتأخر في الفضاء ، وأنها سرعان ما ستعود إلى الحضيض في سقوط حر ومدو ؟؟ ..
تماما تلك هي هواجسي وخوفي وقلقي عندما أشاهد زعيمين جمعتهما حالة قصوى من الانسجام والود المعلن والتعاون وحسن العلاقات وتاريخيتها ، والجوار والإخوة ... إلخ ....
ولأضرب على سبيل المثال : العلاقات السورية مع كل من : تركيا وقطر والكويت والسعودية وإيران وفنزويلا ..
ففي العلاقة السورية التركية على الصعيد الرسمي ، بلغت أوجها ، حتى كدنا نشهد زوال الحدود نهائيا بين الدولتين الجارتين .. وعلى الصعيد الشخصي ، وصلت العلاقات الشخصية بين القيادتين إلى أوج أوجها ..
وفي العلاقة مع قطر ، حدّث ولا حرج .. إنها علاقات من الطراز الرفيع والنموذجي ..
أما في العلاقة مع الكويت ، فهي قائمة على الاحترام المتبادل والود الناعم والمحسوب جيدا إقليميا ودوليا ، بما يبدو لي ، أنه موقفُ وفاء من الكويت للموقف السوري من غزو القوات العراقية لبلدهم قبل أكثر من عقدين ..
وفي العلاقة مع السعودية ، بقيت متأرجحة وهشة لتأثرها الشديد بعوامل خارجية تلزم السعودية بنهج معين ، كما حصل إبان الغزو الأمريكي للعراق ، وما تلاه في العراق ولبنان وفلسطين ، ومحاولة رسم خارطة تحالفات جديدة تنسجم مع وجود أمريكا في قلب المنطقة لاستكمال إنجاز مشروع " الشرق الأوسط الجديد " الذي يستهدف أولا وآخرا تأمين الأمن والسلام للصهاينة على حساب الفلسطينيين والعرب ..
وكل ما غير ذلك تفاصيل جزئية لا قيمة حقيقية لها ..
وفي سبيل هذا الهدف ، نشطت إدارة بوش على مدار الثماني سنوات من حكمه في العمل على تحقيق هذا الهدف ، بمساعدة ما سمي : دول الاعتدال ، بقيادة السعودية ..
وبقيت فنزويلا وعلاقاتها العربية متحررة من تلك الالتزامات .. فشهدت السنوات القليلة الماضية علاقات مميزة بين فنزويلا وكل من سورية وإيران وتركيا وروسيا ، كما قطعت علاقاتها الدبلوماسية بالصهاينة إبان عدوانهم على غزة ، الأمر الذي لم تفعله أي دولة عربية أو إسلامية أخرى .. من هنا كانت العلاقة السورية الفنزويلية متميزة وتحكمها علاقات ومصالح الدولتين ، كما تؤثر فيها العوامل الشخصية بين الرئيسين ، التي ما تزال على حرارتها ..
والعلاقات السورية الإيرانية بدأت منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 ونمت وازدادت قوة وحضورا عبر السنين الثلاثين الماضية ، وتبادلت الدولتان كثيرا من المصالح والمنافع والمواقف السياسية المنسجمة في أغلب الأوقات ، وأشد المحن والمصاعب التي تعرض لها البلدان معا ، أو كل على حدة ..
وبعد ، ثانية :
لو ألقينا نظرة على هذه العلاقات ، وما طرأ عليها في الآونة الأخيرة على خلفية التطورات التي تشهدها المنطقة العربية منذ ثورتي تونس ومصر ، مرورا بليبيا واليمن والبحرين وسوريا وعمان والعراق والأردن والمغرب والجزائر ، لوجدنا أن صيغ تلك العلاقات " ووهجها وحرارتها وحميميتها " قد تأثر بنسب متفاوتة جدا لا تخفى على أحد من السادة القراء ..
وكان تأجيل مؤتمر القمة العربية للعام القادم ، أحد تلك التداعيات التي نتجت عن صيغ العلاقات الجديدة ، وتحمل في طياتها سؤالا خبيثا :
ترى ؟ مَن مِن الزعماء العرب سيبقى زعيما لبلده حتى موعد انعقاد مؤتمر القمة القادم في ربيع 2012 ؟!
وثمة تساؤلات " ساذجة " أخرى :
ـ لماذا تصعد إلى الأعلى العلاقات ـ بين الدول العربية تحديدا ـ بسرعة الصاروخ ، وفجأة تتحفز في رأسه قرون الاستشعار عن بعد ، فيعكس اتجاهه ويهوي ، ثم يهوي ، ويهوي ؟!
ـ ولماذا لا نشهد ذلك الانعكاس أو التأرجح أو التذبذب أو التقلب السريع في علاقات الدول الأجنبية مع بعضها من جهة ، وفي علاقات بعضنا بها ، من جهة أخرى ؟؟؟
ـ كم أخفقنا وخسرنا جرّاء انهيار العلاقات الشخصية بين الزعامات ؟!! وكثيرا ما لا تكون الخلافات بينهما موضوعية ، بل ، وقد تكون موحى بها ، أو بسبب تأييد أو رفض لموقف ما ، ليس للطرفين علاقة مباشرة بذلك الموقف ..
ـ أمَا مِن سبيل آخر لحفظ مكتسبات أي علاقة طيبة ـ إذا ما انهارت ـ بين زعيمين ، والبناء عليها واستثمارها وتثميرها لما فيه مصلحة وخير الشعبين أو الشعوب ؟!
ـ لماذا تتخاصم الشعوب وتتحسس ، وتنظر بريبة لبعضها ، وتتأثر حتى هوام الأرض وحشراتها بأي خلاف ينشب بين أي زعيمين عربيين تحديدا ، فيما لا نجد له مثيلا في علاقاتنا بالدول الأخرى ؟؟!!
ـ وإذا كان مآل أي خلاف أو تنافر أو تناحر بين الأشقاء ، إلى الحل والوئام ، ولو كان مؤقتا ، فلماذا تؤجَّجُ الخلافات وتؤَزَّمُ حتى ييأسَ المواطنون من صلح أو تطبيع ، ثم ، وفجاة ، نرى الصلح والتطبيع والعناق أقرب إلينا من حبل الوريد ؟!
طبعا ، إن رؤية مشاهد العناق تملؤنا سرورا وبهجة ، وتتناغم مع هنيهات الأمل والحبور المكبوتة في دمائنا ..
لكننا ، ويدنا على قلبنا ، ما زلنا نقول :
" ألله يعطينا خير هالضحك " ..
الخميس ـ 05/05/2011
التعليقات (0)