العقوبات الأمريكية لم تكن سبب التردي الإقتصادي
مصعب المشرّف
22 يناير 2017م
في البداية ينبغي التنويه أن المسمى الحقيقي للحصار الإقتصادي الأمريكي في مواجهة السودان هو مقاطعة جزئية لبعض المعاملات الإقتصادية والتجارية . وبالتالي فإن إستبدال هذا الواقع بعنوان ولاقتة أكبر بكثير منه كان فقط لأجل الإستهلاك المحلي ..... وكان المتوقع أن لا ينطلي ذلك على عامة الشعب.... ولكن الواضح أنه قد إنطلى وانتهى الأمر.
الإعلام الحكومي ومعظم الشعب على رأسهم شعراء البادية ؛ إحتفوا أكثر من اللازم بتعليق أوباما لقرار الرئيس بيل كلينتون فرض عقوبات جزئية على السودان عام 1997م.... وغفل هؤلاء عن أن الإرتفاع بالشعب إلى عنان السماوات بلا أساس سيكون له على المدى المتوسط عواقب وخيمة حين يأتي اليوم الذي يكتشف فيه هذا الشعب البسيط أنه كان من المضحوك عليه . وأن الأمر لا يعدو أن يكون سوء تقدير وفرحة في غير محلها .. وأن الولايات المتحدة لا تصنع للغير المعجزات . وأنها ليست معنية برفاهية السودان أو حتى جارتها الجنب المكسيك.
إرتفعت قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية الرئيسية الأخرى داخل البلاد سويعات معدودة ..... وإنبرى أبناء القرى ، وبعض الأهل والأصحاب في القروبات يبشر أقربائه المغتربين والمشتتين في بلاد الدنيا والأراضين السبع ؛ بأن أوان العودة إلى حضن الوطن المتعافي إقتصادياً قد باتت قاب قوسين أو أدنى.....
لا بل وبدا الأمرُ هنا وكأنّ الفرع قد عاد إلى الأصل ؛ وأن السودان قد أصبح بقرار أوباما (في الزمن الضائع) .... قد أصبح الولاية الأمريكية رقم 51.
وطالما أن المقاطعة الأمريكية لم تكن سبب التردي الإقتصادي .. فإن تعليقها أو رفعها تماماً لن يؤدي بالضرورة إلى إعادة البناء ، ورفاهية الإقتصاد وتحقيق النمو .......
وقد لاحظنا اليوم أنه بعد أن زال الأثر النفسي ، عاد سعر الدولار الأمريكي وفي معيته العملات الحرة الأخرى إلى سابق عهدها وسيرتها الأولى في مواجهة الجنيه السوداني الضعيف .. وتبقى العرجاء دائما إلى مراحها.
مقولة أن الشماعة التي كان يعلق عليها النظام الحاكم إخفاقاته الإقتصادية قد تكسرت ليس وحده هو الخطر الماثل في المدى المتوسط .. ولكن المشكلة تكمن في مدى خيبة الأمل التي ستصيب الشعب بعد أن يلمس بيديه أن العقوبات الأمريكية لم تكن بذلك التأثير سلباً أو إيجاباً وجودها من عدمها.
إن أي متفحص للمفاصل الإقتصادية السودانية الرئيسية يتبين له بكل سهولة أن المقاطعة الأمريكية الإقتصادية الجزئية علينا لم تكن بهذا القدر المؤثر مباشرة في التردي والإخفاق الإقتصادي ؛ بقدر ما كان سبب التأثير هو سرقة المال العام ، وقرارات الصالح العام الذي حرم الإدارة المدنية من مواهب وخبرات أفندية وفنية تأسست وتراكمت وتطاولت على هيئة بنيان مرصوص منذ بدايات عهد الحكم الثنائي.
وطالما أن العقوبات الأمريكية لم تكن بهذا القدر المؤثر في حقيقة الأمر . فإن المتوقع أن لا يكون لتعليقها أثر جوهري في إنتعاش الإقتصاد المتهالك المشرف على حافة الانهيار.
على سبيل المثال . لم يكن إنهيار الخطوط الجوية السودانية وإفلاسها هو العقوبات الإقتصادية .. ولكنه كان استبعاد الكفاءات والخبرات وتفشي ظاهرة سرقة المال العام في مجلس الإدارة المعين ... والجرأة الغير مسبوقة على التصرف في أصول الشركة بالبيع الرخيص ؛ وتحويل حصيلة البيع إلى أرصدة وحسابات بنكية خاصة في البنوك العالمية أو غسله بشراء العقارات وتمليكها للأولاد وحريم الأولاد ؛ والبنات وبعول البنات...... ويا بخت هؤلاء أن يدخل فيهم أولئك اللصوص نار جهنم بعد يقين عذاب القبر وشقاء البرزخ.... يوم يختم الله على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.
كذلك كان الحال في جانب ومسببات إنهيار مشروع الجزيرة وبيع ممتلكاته وأصوله من مصانع ومساكن وآلات ومعدات . ثم وإستيراد التقاوي والمبيدات المضروبة ؛ وقيدها بأعلى الأسعار والفوائد الربوية على المزارع ... هذا بالطبع عند الوضع في الإعتبار أن البنى التحتية لهذا المشروع إنما كانت بريطانية الصنع ولا علاقة لها بالولايات المتحدة في حالة الحاجة إلى صيانة وقطع غيار.
ولا مناص لدى الدولة من (فضيلة) الإعتراف بأن إنهيار أعمدة هذا المشروع إنما كان بسبب الفساد وسرقة المال العام لتوريثه للاولاد ونساء الأولاد ؛ والبنات وبعال البنات .... ويا بختهم أن يدخل فيهم هؤلاء اللصوص سارقي المال العام النار بعد يقين عذاب القبر وشقاء البرزخ. .... يوم يختم الله على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.
سكك حديد السودان هي الأخرى لم تؤسسها الولايات المتحدة . ولا علاقة لها بقاطراتها بريطانية الصنع ، وعربات الركاب والبضاعة التي كانت تصنع محليا في عطبرة ......
وقد تراكمت الخبرات الهندسية والفنية لدىنا إلى درجة كانت العديد من الإسبيرات يتم فبركتها داخل ورش السكك الحديدية بأيدي سودانية صرفة....... لا بل وأصبح السودان في عهد الديمقراطية الثانية بعد ثورة أكتوبر 1964م مصدرا لتزويد دول أفريقية عديدة جنوب الصحراء بخبرات فنية لتأسيس سكك حديدية بها. وبالطبع فلم يكن السوداني آنذاك يغادر موطنه هائما على وجهه كما يضطر اليوم . بل كان يخرج منتدباً حكومياً تحت إلحاح الإدارة التي يعمل بها ؛ ومناشدات وتوسلات زعماء أفريقيا له بأن يؤدي واجبه القاري ويساهم في تنمية دولهم.
ولعل التاريخ يوثق هنا تلك الزيارة التي سجلها الرئيس "كاوندا" إلى عطبرة صحبة الزعيم الراحل الأزهري (طيب الله ثراه) . وناشد في كلمته أن يساعده السودان في إنشاء سكك حديد زامبية.
إنهيار هذه المؤسسة الوطنية العملاقة لم تكن أسبابه إذن سوى الفساد والجشع ؛ وبقصد التربح الشخصي من المنصب العام بأعذار شتى وتحت غطاء محاربة الشيوعية .....
وهكذا تحول حديد هذه المؤسسة (الممتدة من بورتسوان وحلفا إلى بابنوسة حتى واو جنوبا) ... تحول إلى خردة لتزويد مصانع سيخ البناء بالمواد الخام ؛ وتحويل اللصوص ثمنها وأرباحها إلى أرصدة مالية فلكية في حسابات البنوك الأجنبية ليرثها من بعدهم ويأكلها لقمة سائغة الأولاد وحريم الأولاد ؛ والبنات وبعولتهن ...... ويمتد الأثر إلى أهل حريم الأولاد ؛ وأهل بعولة البنات ...... ويا بختهم أن يدخل فيهم هؤلاء اللصوص سارقي المال العام النار بعد يقين عذاب القبر وشقاء البرزخ. .... يوم يختم الله على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.
طريق الإنقاذ الغربي لم يكن هو الآخر صريع العقوبات الأمريكية ؛ بقدر ما كان ضحية ظاهرة سرقة المال العام ..... والتي إنتهت بمقولة "خلوها مستورة" أو كما قال.
النقل النهري ..... والنقل البحــري ذهب على ذات الشاكلة . ولم يكن ذهابه بسبب المقاطعة الإقتصادية الأمريكية بقدر ما كان بسبب سرقات بعض اللصوص السودانية.
لأجل ذلك وأكثر منه ، نرجو أن يلتفت أولي الأمر إلى حقيقة الوضع والآثار الوخيمة التي خلفتها ظاهرة سرقة المال العام وعدم الإستعانة بالكفاءات وذوي المواهب الإدارية والمهنية المختارة بعناية بعيداً عن شروط الواسطة والتبعية للحزب الحاكم والقرابة والنسب والمصاهرة.
إن على ترويكا الرئاسة في القصر أن تعي جيداً أن لا أحد من طلاب المناصب الذين يحومون حول القصر ويجلسون على بواباته ويتسلقون جدرانه ويقعدون من شرفاته مقاعد للسمع ..... لا أحد من هؤلاء يمتلك رصيداً سياسياً أو ثقلاً جماهيرياً يجبر القيادة الصبر والتعاضي عن جهلهم وفسادهم ...... والدليل على ذلك أن العديد منهم ؛ بمن فيهم حسن الترابي نفسه قد تم إقصاؤه بجرة قلم ؛ فلم تنهد الدنيا ولم تنهار الحوائط من بعدهم ... لا بل ولم تُـذرف الدموع حسرة وبكاءاً عليهم حتى من أقرب تلاميذهم وأتباعهم إليهم.
التعليقات (0)