إن كل ممارسة للعقل تهدف للتوصل الى سيادة اجرائية ومعرفية قادرة على مقاومة كل التكذيبات والتفنيدات ، وقادرة على فرض نفسها أبديا على كل روح بشرية، إن هذا البحث عن الصلاحية المعرفية التي تفرض نفسها على الجميع بشكل دائم هو شيء مشروع من الناحية النفسية. إن يعبر في آن معا عن الرغبة الحارقة في البقاء، وعن الحنين الى الكينونة ، وعن حب الفضول أو إرادة المعرفة التي لا يخلو منها أي كائن بشري، ولكن هذا البحث يصبح ميالا للهيمنة والسيطرة عندما يفرض العقل ، بواسطة الإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي أنظمة معرفية خارجة على كل تفحص نقدي حر أو ترفض هذا التفحص، ثم يؤدي تضافر الحافز النفسي وإرادة القوة والهيمنة الى ولادة عقول مهيمنة يمكن أن ندعوها عندئذ بالعقل الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو الغربي .... الخ . لقد فرض العقل الإسلامي طيلة ستة قرون تقريبا أي حتىلحظة موت ابن رشد تحديدا، لقد فرضها على كل النطاق المتوسطي المتأثر سابقا بل والذي كان خاضعا للحضارة اليونانية والهلنستية ، بل وراح يوسع من هذه الهيمنة لكي تشمل مناطق واسعة من آسيا وإفريقيا . وقد اعتمدت هذه الهيمنة على اللغة العربية والدولة الخليفية أو بدائلها، وكذلك الانجازات الحضارية ، كما واعتمدت على اطار ميتافيزيقي ـ ديني معاش وكأنه توسع خيالي وثقافي للمدونة النصية القرآن ، وبالتالي فإن الهيمنة التي مارست نفسها على هذا النحوأو الصدد طيلة الفترة القروسطية، لا ينبغي ان نخلط بينها وبين المقاومة الإيديولوجية للعقل الأصولي الحالي ، فهذا العقل يمثل رد الفعل اكثر مما يمثل الفعل او الاستكشاف الابداعي الخلاق. ان هذا العقل الاصولي الذي يملأ الساحة حاليا يمارس ضغوطا ايديولوجية على الناس بدون ان يرافق هذه الضغوط اي بحث حر عن المعنى، والعلاقة النقدية التي كانت تشغل العقل الاسلامي في القرون السابقة .
ينبغي أن نعلم أن نعتي الغربي والاسلامي المردفين بمفهوم العقل يشيران الى عقلانيتين تتشكلان وتنجحان في فرض نفسيهما بشكل دائم قليلا أو كثيرا . إنهما تفرضان نفسيهما
ضمن شروط لغوية وثقافية وتاريخية متغيرة ومتحولة . ان ربط هذه الشروط بفعاليات وتركيبات العقل هو هم منهجي حديث العهد لم ينتشر بعد بما فيه الكفاية .
اقصد انه أصبح يشكل هما كبيرا على عملية التأريخ بشكل ملحوظ . فيما يخص مثال العقل في السياقات الاسلامية نلاحظ أن منظور تاريخ الأفكار المعتبرة ككيانات جوهرية مزودة بقوة خاصة من الوجود ةالتأثير، لا يزال يفرض نفسه الى حد كبير على مجال البحث العلمي والتعليم وخطاب الحياة اليومية . وهذا ما يفسر لنا سبب الضغط الثقيل والكبير الذي يمارسه الخطاب السياسي الديني على المخيال الاجتماعي في العالم الاسلامي.
إنه يمارس تأثيرا كبيرا على مجال الكتابات والتأويلات التي يهيمن عليها الاعجاب بالذات والتواطؤ مع الذات . كما ويهيمن عليها الاعتداد بالذات والتفاخر بها وخلع المشروعية بشكل ذاتي على الذات . وهكذا تقلص العقل واختزل في المجتمعات الاسلامية المعاصرة الى مجرد ترقيعات استدلالية، هدفها تأمين بقاء القيم الهشة المنزوعة من سياقها مرتين بشكل مزدوج. فهذه القيم السائدة حاليا منزوعة من السياقات الاسلامية الأصلية التي يقترض أنها تحيل إليها . ومنزوعة من سياق الحداثة التي ترفضها بشكل صريح وبالتالي فإن هذا العقل المبستر لا يمكن أن يمارس إلا هيمنة من نمط إيديولوجي.
( مفهوم العقل الغربي مفهوم علماني ، في حين أن مفهوم العقل الاسلامي مفهوم ديني، والشيء الذي يقابله في الغرب هو العقل المسيحي. ولكن بما ان العقل الديني لا يزال هو المهيمن عندنا فانه لا يزال هو الذي يقابل العقل الغربي . وسوف يظل الأمر على هذا النحو حتى ينمو العقل العلمي عندنا الى الدرجة الكافية التي تمكنه من الاستقلالية عن العقل الديني).
لا يمكن أن نقول الشيء نفسه عن العقل في السياقات الغربية , نقول السياقات الغربية ولم نقل السياق الغربي، لكي نتحاشى الوقوع في التعميمات التعسفية الناتجة عن إقامة التضاد المانوي بين الإسلام والغرب. فقد تحول هذان المفهومان الى أقنومين ايديولوجيين مضخمين جدا . فالإسلام ليس واحدا وكذلك الغرب بمعنى معين فشروط ممارسة العقل في الولايات المتحدة ليس هو بالضرورة نفسه في سويسرا أو السويد وكذلك الاسلام في اندونيسيا والباكستان يختلف من حيث سياقه العام أي في العمق وليس بطريقة محض شكلانية .
ونلاحظ في الوقت الراهن ان الباحثين في العلوم السياسية والصحفيين من ذوي الشهرة الإعلامية أو التلفزية يتحدثون كثيرا عن القيم الغربية المهددة من قبل لا قيم الحضارات الأخرى، وهم إذ يفعلون ذلك يمارسون تركيب نفس الأنظمة الخيالية للاستبعاد المتبادل ، وهذا الذي مارسه قبلهم لاهوتيو العصور الوسطى من نوع شعب الله المختار، أو لا خلاص من خارج الكنيسة، أو أن الاسلام هو أخر نسخة عن الدين الحق ، وأنه وحده هو المقبول من قبل الله أوالملقن من قبل خاتم الأنبياء . من الواضح أن تفكيك أنظمة التصورات وأطر الفكر الموروثة عن الماضي لا يزال في بداياته، اقصد تفكيك أنظمة الثقافات المناضلة من أجل بقائها على قيد الحياة والخائقة من تهميش الثقافة المهيمنة لها .
فالثقافة الغربية أصبحت تمد هيمنتها اكثر فأكثر على شعوب الأرض . إن استراتجية التفكيك هذه لا تزال في بداياتها , وانا أعي تماما ما أقوله . إن العقل الذي يمارس
نفسه في مختلف السياقات الغربية يعرف أنه مهيمن . فهو لا يفرض فقط نماذجه الاقتصادية والتشريعية على الجميع, وإنما يفرض نفسه بصفته الذروة العليا والاجبارية لتكريس او تحطيم اي انتاج علمي او ثقافي ـ الذي لا يعترف به الغرب لا وجود له ـ .
يعتقد العقل الغربي أنه يعوض عن هذه الهيمنة الشاملة عن طريق ليبراليته أو من خلال احترامه لحق الاختلاف .
على أية حال كل عقل ينجح وينتصر يسود وفرض هيمنته على الآخرين هذا ما تعلمناه من التاريخ المديد . والضعيف يقلد المنتصر أو السائد كما قال ابن خلدون . لكن أفرق دائما بين العقل الباحث عن المعنى، والعقل الباحث عن الهيمنة والتسلط . والواقع ان كل عقل مهيمن كان في البداية يبحث عن المعنى ثم انحرف في لحظة ما من أجل الاستغلال والتوسع والهيمنة وفرض تصوراته.
التعليقات (0)